السلام كلمة عذبة تحنُّ إليها الأفئدة بأسرها، بغض النظر عن الدين أو الأيديولوجية أو الجنسية أو غيرها من استعارات اعتاد الجنس البشري على التسمّي بها، فالسلام هو حلم الجميع، وهو محط آمال الجميع، الكل يبحث عنه ويدور في محرابه، سواء اختلفت الألسنة أو العقائد إلا أن الغايات واحدة، ولا غاية أعظم من السلام، فهو الغائب المنتظر، كتابات عديدة كُتبت باسم السلام، وكتب لا حصر لها تحمل عنوان السلام، كتب تفسر وتبرهن وتوضح وتعلل وتبحث في العلل والغايات والمعوقات، وفي النهاية لم يحل السلام، ولا زال غائبًا ينتظره عقلاء القوم.
والسؤال الذي عجز الجميع عن إجابته، كيف يحل السلام، وكيف ينعم المجتمع العالمي بالسلام؟
الشواهد كلها مؤسفة، والأحداث كلها مخجلة، ولا توجد في الأفق أدنى بادرة أمل لتحقيق هذا الحلم اليوتيوب الكبير.
فبعض الدول لا زالت تمارس الضغط ثم الضغط على كل دعاة السلام العالمي، وتبتز الإرادة العالمية بما تأتيه من صنائع وحشية يعجز العقل عن استيعابها، وتعجز العين عن رؤيتها، ويعجز القلب عن تحملها، لأنها أفعال خرجت عن كل إطار للممكن، خرجت إلى أطر اللامعقول، واللامقبول واللاإنسانية.
الشرر المتطاير يدمر الأمصار كلها، ويحرق الإنسانية بأسرها، يعبث بما شيده بنو البشر في عقود وقرون خلت من أعمارهم، يهدم حضارات ومدنيات ويطئ قيم بقدميه، فلا مجال وسط هذه الإمبريالية الكبرى التي يتزعمها سادة الشر سوى للقتل والتدمير والخراب الذي يحلق فوق رؤوس الجميع.
لا مجال لالتقاط الأنفاس، لا مجال للقيم الأخلاقية، ولا للمبادئ الإنسانية، المجال كله للقتل والتدمير والخراب الذي يطال الجميع.
لا مجال للحديث عن العقل وضبط النفس فهذه شعارات الضعفاء، ضعفاء العقل والإرادة، الذين لا يجيدون اختراق الأحداث، فيُخرجون تصريحات جوفاء لا تجاوز حناجرهم، ولا تغني أو تسمن من جوع.
ولا مجال للحديث عن فرض السلام بالقوة، فاختراق القوة للسلام هو اختراق للسلام ذاته، ولا مجال للحديث عن تأثير الدين في النفوس ودعوة الأديان إلى السلام، لأن العصر هو عصر المادة التكنولوجية، لا عصر التدين أو الدين الزائف، فأصحاب الدين أو دعاته هم أول من اخترقوا مبادئه وأفقدوا العوام الثقة في رجال الدين، وفقد الدين تأثيره في النفوس كما كان في الماضي.
الحديث لا بد وأن يتجه اتجاهًا آخر أكثر عقلانية وأكثر واقعية، حتى نتمكن من الانتقال من حيز النظرية إلى حيز التطبيق.
وهذا الاتجاه الأخر لا يعدو إلا أن يكون جمعًا من مفكري وفلاسفة العالم المخلصين الذين تتوق أنفسهم نحو السلام، والذين يتمنون سعادة هذا العالم بحق، ليقوموا بتأليف كتاب بعنوان “القيم والمبادئ الأخلاقية”، ليُدرس في جميع أنحاء العالم لجميع المراحل التعليمية، ويتم تأليف هذا الكتاب بحسب اختلاف المرحلة العمرية التي يؤلف لها، بذات المفكرين والعلماء والفلاسفة، لتكون تلك هي أول خطوة نحو إقرار السلام في نفوس النشء ليصبح السلام بحق سلوك يتربى عليه النشء، لا شعارات جوفاء لا تجاوز الحناجر.
إن هذا المؤلف الذي أتمنى تحقيقه سوف يدعم القيم التي اندثرت، والأخلاق التي ضاعت، ليقيم ما اعوج منها من جديد، وليبني ما تهدم منها، فيرسخ للقيم والأخلاق التي لا تختلف من بيئة لأخرى، ولا من ثقافة لأخرى، مثل قيم المواطنة وحسن الجوار والسلام مع الآخر واحترام ثقافة الآخر والبحث عن موارد رزق لهذا العالم بدلاً من البحث عن الفتك به والقتل والتشريد، تلك القيم التي نسعى إلى غرسها في أطر عملية مؤسساتية تربوية، بحيث تمتزج بعقول وقلوب النشء في العالم كله.
إننا نورث أبنائنا اليوم عالم لا أمان فيه، وحياة لا أمن فيها، ومستقبل مظلم تهدده الحروب ويخيم عليه شبح الفناء الذي لا يبقى ولا يذر، نورثهم صراعات لا حد لها، ولا فائدة ترجى من ورائها، ولا غاية لها سوى القتل والتدمير وإبادة حياة أذن الله بوجودها، وهدم كون أراد الله إعماره.
المستقبل قائم، نذر الخطر تلوح في الأفق يا سادة، الموت سيحصد الجميع، والفناء يخيم على هذا العالم الذي مزقته الصراعات وقتلته الأنانية، فأصبح لا ينام إلا على صوت المدافع ولا يصحو إلا على صوت الصواريخ.
إنه عالم مهلهل قيميًّا وأخلاقيًّا ونفسيًّا، عالم في حاجة إلى الترميم النفسي على الأقل، وإذا فاتنا نحن جيل الصراع هذا الترميم، فينبغي ألا يفوت أبنائنا أبدًا، ينبغي أن نغرس فيهم قيم المواطنة والسلام واحترام الآخر، بحيث نجني مستقبلاً خاليًا من الحروب والصراعات، مستقبل أكثر إشراقًا بالحياة، وأكثر نبضًا بالأمل.
ذاك فقط هو الحل الأوحد لتحقيق السلام الذي تتوقه النفوس، وتشرئب إليه الأعناق، وتبكي له العيون، البداية من المناهج التعليمية يا سادة، منهج عالمي يضعه أرباب الفكر وأصحاب القلوب الرحيمة، قلوب روسو وكانط وسارتر ومالك بن نبي وعبد الحميد بن باديس ومصطفي محمود وزكي نجيب محمود، قلوب بحجم تلك القلوب، وعقول بحجم تلك العقول، لتكون تلك المناهج بعيدة عن الأديان وإن كانت مستمدة من جوهر مبادئها، وبعيدة عن الأعراف والتقاليد وإن كانت هي محاسنها، وبعيدة عن اختلاف الجنسيات والعقائد، لترسخ لثقافة جديدة وليدة، قادرة على انتشال العالم من بحار الدماء، لتدفع به نحو جزر السلام، ويتحقق حلم العالم بحق، ليصبح عالم السلام، يسبح كله بحمد الله ، يأكل من خيره ويشكر نعمه، وينعم فيه الجميع بالأمن، ونتمنى ألا تصبح تلك الرؤية مجرد حلم كما سبقها من أحلام …