لقد بات من الضروري اليوم التفكير في آليات وإجراءات للحد من الآثار السلبية، التي خلفها الانفجار المعلوماتي غير المرشَّد والثورة التكنولوجية المنفلتة، التي أوصلت الإنسان الحديث إلى تبني قيم مستبدة وفاسدة دفعت بهذا الكائن المفتتن بالتحولات التكنولوجية الحديثة إلى الدعوة نحو تغليب العقلانية المادية على المنزع الروحي الفطري؛ هذا الادعاء الذي أفرز انحطاطًا أخلاقيًّا وتدهورًا قيميًّا واجتماعيًّا غير مسبوقين أخرجا الإنسان المعاصر من رتبة الإنسانية والنزول به إلى الدرك البهيمية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد من السلبية والانحطاط القيمي والأخلاقي بل تعداه إلى مستوى النظر إلى الأديان والثقافات باعتبارها تشكل عائقًا يحول دون انخراط الإنسان في مجتمع المعرفة والحداثة؛ أمام استحكام مثل هذه التصورات والمقاربات في عالمنا اليوم يُطرح سؤال القيم من جديد: فأية قيم نريد؟ وكيف السبيل إلى بناء منظومة قيمية وأخلاقية تُوصْل إلى طريق العلم النافع المورث للعمل الصالح؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.
إن مساءلتنا لأزمة القيم الأخلاقية في ارتباطها بالميادين التربية والتعليم في العالم المعاصر والمستقبلي يأتي من مسوغ خطورة مطلب فصل العلم عن الأخلاق وإسقاط القيم الأخلاقية والروحية من النظم التعليمية والإعلامية، وتعويضها بالقيم الصناعية المستبدة بالإنسان في أفق الإجهاز النهائي على قيم الفطرة التي خُلق عليها الإنسان. وانطلاقًا من هذا الإشكال الذي يسلم بدوره إلى طرح سؤال جوهري هو:
كيف السبيل إلى صياغة مشروع متكامل يعمل من جهة على ضبط الإطار المفاهيمي للأخلاق والقيم وبيان طرق إدماجها في النظم التعليمية والإعلامية باعتبارها المجالات الأوسع والأخطر لإعادة ترتيب منظومة القيم لدى الأجيال المكونة للمجتمعات القادمة؟
خطورة مطلب فصل العلم عن القيم:
لقد استشعر العالم المعاصر اليوم خطورة مطلب فصل العلم عن القيم، مما دفع بالعديد من المنظرين في علوم التربية إلى دق نقوس الخطر والمطالبة برتق ما فتق من علاقة بين القيم الأخلاقية وبين المناهج التعليمية، وضرورة إعادة الصلة بينهما لما لذلك من آثر كبير في إعادة بناء الإنسان المعاصر؛ فالمجتمعات الغربية التي دعت في نهاية القرن التاسع عشر إلى الفصل بين التعليم والدين -بل أصدرت مراسيم في ذلك-، ستجد نفسها في منتصف القرن العشرين أمام أزمة تربوية كبيرة انعكست سلبًا على الواقع التربوي والأخلاقي لذى التلاميذ والطلاب في المجتمعات الغربية، الشيء الذي دفع بأحد المنظرين التربويين وهو “فيلبس كوبس” في كتابه: (الأزمة التربوية العالمية) إلى اعتبار الاضطرابات الثقافية التي نجمت عن الثورات العلمية والتقنية الأخيرة، هي السبب في جعل التربية الأخلاقية موضوع اهتمام ودراسة؛ حيث أنه منذ مطلع القرن التاسع عشر كانت هذه التربية تُشكّل قاعدة البرامج التعليمية في سائر بلاد أوروبا وأمريكا الشمالية، ثم إن الطابع القروي كان لا يزال سائداً، كما أن الحركة العمرانية الحديثة لم تكن قد انطلقت بعد، وكانت العلاقات الأسرية متينة، والاعتقادات والمؤثرات الدينية قوية…، لكنه ابتداء من العقد الرابع للقرن العشرين، أي منذ 1930م، حصل تَغْيير جذري في المناخ الاقتصادي والسياسي والتربوي، كان من نتائجه أن اعتبرت التربية الأخلاقية أمرًا بائدًا ومنطويًّا على مغالطة تاريخية، وهكذا تم إهمال هذه التربية من قِبَل المدرسين والمشرفين على التعليم، وظلت على هذا النهج حتى نهاية السبعينيات، وقتئذ حصل الاضطراب الثقافي المشار إليه آنفاً محدثاً أنواعاً من الأزمات الاجتماعية التي أقلقت بال السياسيين والمشرعين والمشرفين على المدارس وأولياء الأمور.
إذا كان هذا التوصيف لأزمة التعليم عند فصله عن القيم قد ظهر في الغرب وتحدث عنه علماء التربية، فإن كثيرًا من الباحثين في المجال التداولي العربي الإسلامي اليوم قد استشعروا خطورة هذا الفصل بين التعليم والقيم، وحذروا من نتائجه على التجارب التعليمية والنظم التربوية.
وبهذا تُجمع مختلف المقاربات التربوية على ضرورة عودة المؤسسة التعليمية إلى ممارسة دورها في التعليم إلى جانب ترسيخ القيم الحضارية للمجتمعات الإسلامية.
إن المتأمل في أغلب مشاريع إصلاح التربية والتعليم في المجال التداولي العربي والإسلامي يجدها تركز الجهود على إصلاح المنظومة التقنية، خاصة على مستوى التجهيزات والوسائل التعليمية، وتوفير الظروف الملائمة للدراسة والتكوين الفني والتربوي للمدرسين. في حين تغيب الرؤية الإصلاحية الشاملة والمتوازنة والمتجددة خاصة على مستوى المناهج التعليمية التي تعتبر البوصلة المتحكمة في باقي عناصر المنظومة التربوية.
نحو ثورة تربوية مؤسسة على يقظة فكرية وقيم روحية فطرية:
إننا في حاجة اليوم إلى إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم، وذلك عبر إحداث ثورة تربوية هادئة وعميقة تؤسس أنساقها على العطاء الروحي باعتبارها طاقة راقدة في عمق الإنسان، وهذا لن يتأتى -حسب اعتقادنا المتواضع- إلا من خلال ثلاث مقتضيات كبرى:
- العمل على ترسيخ مبدأ العلم النافع الباعث على العمل الصالح، فلا عمل صالح بغير علم نافع، والمقصود بالعلم في هذا السياق العلم المعمول به أو العلم المستعمل.
- العمل على تثبيت مبدأ النموذج الصادق والقدوة الصالحة، فحاجتنا اليوم أكثر إلى نماذج في السلوك يَحتذي بها المتعلم، ولا يستحق المربي رتبة القدوة حتى يكون سلوكُه ثمرة ملاحظات مباشرة ودائمة لأفعال نموذج حي متصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يجعل القيم التربوية والأخلاقية تنعكس إيجابا في سلوكه بفضل هذا “النموذج” كما لو كانت هذه القيم عبارة عن طبائع جبلية لا انفكاك له عنها، ومتى تحقق المربي بهذا المعنى صار مقبولا ومحبوبا ومطلوبا عند المتعلمين.
- العمل على إعادة ترتيب منظومة القيم لدى الأجيال المكونة للمجتمعات القادمة على أسس أخلاقية فطرية لا اصطناعية، كونية لا محلية، عميقة لا سطحية، حركية لا جمودية توظف كل وسائل العصر وتقنياته المادية والتربوية.
تلك هي المقتضيات الثلاث الضرورية لتحقيق وعي تربوي جديد من شأنه العمل على تغيير ما ترسب في وعينا الجمعي من معلومات منقطعة عن القيم الأخلاقية الفطرية والمعاني الغيبية تحت تأثير النمط المعرفي الحديث. كما سيؤدي لا محالة إلى رتق ما فتق من علاقة بين المناهج التعليمية والقيم والأخلاقية وذلك من خلال تجديد نظم التعليم والتربية وإرجاعها إلى حضن القيم الفطرية.