لقد تعددت أدوار المرأة في مدرسة النبوة، وكان العلم الوسيلة المعبرة عن فكرها الناضج، والذي أتاحه الإسلام لها بديمقراطيته وحريته وعدالته، وفتح الطريق أمامها فتعلمت وعلّمت واتسعت ثقافتها الدينية والعلمية والفكرية، وتزودت بالخلُق النبيل والسلوك الحسن الذي استمدت دعائمه من خلال الإيمان بالله وبرسالة خاتم الأنبياء.
كان لقيام الحضارة الإسلامية دور فعال في اتساع رقعة مهام المرأة ونجاحها في مجال التعلم والتعليم، حيث أسهمت في إثراء الحضارة الإسلامية بعطائها المتواصل وبجهدها الناضج الذي أنتج أجيالاً صلبة تدرك رسالتها الخالدة. وإذا تتبعنا دور المرأة عبر مسيرة الحضارة الإسلامية، نجده سجلاً حافلاً بالإنجازات التي وصلت فيها المرأة المسلمة إلى أسمى درجات العلم والأدب والثقافة، ونالت أكبر قسط من التربية والتعليم. فكان من النساء المسلمات الفقيهة والمحدثة والأديبة والناقدة والطبيبة والاقتصادية.
العلوم الدينية
إذا ما طرقنا أبواب العلوم الدينية من فقه وحديث وتفسير وغيرها من علوم الشريعة، تطالعنا كوكبة من النساء بدايةً من عصر النبوة، مثل السيدة عائشة رصي الله عنها التي كانت عالمة بالفقة والطب والشعر، وأيضًا السيدة أسماء بنت أبي بكر، وأم عطية الأنصارية، وأم سليم، وأم الدرداء، وفاطمة بنت قيس رصي الله عنهن، كن جميعهن من راويات الحديث.
ذكر الحافظ بن عساكر وهو أحد رواة الحديث، أن عدد شيوخه وأساتذته من النساء كن بضعًا وثمانين أستاذة.
وإذا ما رجعنا إلى طبقات النساء المحدّثات في مسند الإمام أحمد، وجدنا أنه يضم وحده خمسين تابعية نذكر منهن -على سبيل المثال لا الحصر- حفصة بنت سيرين، وزينب بنت المهاجر، وصفية بنت شيبة. وكذلك الأمر في الأندلس أيام الخلافة الأموية، حيث كان فيها نحو ستين عالمة في الفقه، من أبرزهن فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندي صاحب كتاب “تحفة الفقهاء”، التي تفقهت على يد أبيها وحفظت تحفته، وتزوجها علاء الدين بن أبي بكر صاحب كتاب “البدائع”، وعندما كان زوجها يخطئ في مسألة، ترده إلى الصواب. ومن أهم ما يميز هؤلاء الفقيهات في العصر الأندلسي، إيقاد السرج على بيوتهن دلالة على أنهن أهل الفتوى والفقه.
وفي عصر الموحدين برز ذكر السيدة زينب بنت يوسف بن عبد المؤمن الأميرة الموحدية، إذ برعت في علوم الدين واللغة والأصول. كما ذاع صيت الحافظة أم العز العنبرية العالمة بالحديث وبالقراءات السبع للقرآن الكريم. ولم تتوقف إسهامات المرأة في مجال العلوم الدينية عند ذلك، بل نجد أنها كانت تدرس للرجال هذه العلوم، وتلقي الدروس في المساجد الجامعة، ومن أشهرهن في ذلك؛ السيدة نفيسة بنت أبي محمد بن حسن، التي سمع وأخذ عنها الإمام الشافعي علمَ الحديث، وأعجب بعلمها ونبوغها.. وكريمة المروزية، وسيدة الوزراء، وكانتا من أهم راويات الأحاديث التي جمعها البخاري. وقد ذكر الحافظ بن عساكر وهو أحد رواة الحديث، أن عدد شيوخه وأساتذته من النساء كن بضعًا وثمانين أستاذة.
إذا تتبعنا دور المرأة عبر مسيرة الحضارة الإسلامية، نجده سجلاً حافلاً بالإنجازات التي وصلت فيها المرأة المسلمة إلى أسمى درجات العلم والأدب والثقافة، ونالت أكبر قسط من التربية والتعليم.
وهناك أيضًا السيدة زينب بنت الشعري التي سمعت عن الكثيرين، وأجاز لها الحافظ أبو الحسن الفارسي، والزمخشري صاحب كتاب “الكشاف” وغيرهما، وكان من بين تلاميذها ابن خلكان.. وهناك الشيخة شهدة التي لقبت بـ”فخر النساء”، واستمع عليها خلق كثير، وكان من تلاميذها الإمام ابن تيمية الحراني الذي سمع منها الحديث، والإمام الجوزي الذي روى عنها كثيرًا من الآثار.. وفاطمة بنت جمال الدين سليمان الأنصاري وكانت عالمة محدثة، وقد أخذ عنها الصفدي والإمام الخطيب، والإمام الخطيب قرأ صحيح البخارى على يد كريمة بنت أحمد المروزي.. وأيضًا زينب بنت أحمد بن عمرو بن أبي تمكر المقدسية، والتي كانت محدثة ذات دين وصلاح وعلم في الحديث. وزينب بنت مجد بن عمر بن عبد الرحمن الدمشقية، التي قرأ عليها بعض المحدثين للإجازة، وأجازت ابن حجر، وأبا الفتح العثماني..
والإمام جلال الدين السيوطي يقول عن نفسه إنه قرأ على سيدات من العالمات المتخصصات في الدراسة الدينية، كما جاء في كتابه “بغية الدعاة”، وذكر منهن أم هانئ بنت الحسن الهويني، وهاجر بنت محمد، وأم الفضل المقدسية، ونشوان بنت عبد الله، وكمالية بنت أبي بكر، وأمة الخالق بنت العقبى، وغيرهن.. وكذلك الإمام السخاوي الذي أشار في كتابه “الضوء اللامع”، و”النوادي في تهذيب الأسماء”، والخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد”، حيث خصوا السيدات العالمات والنساء اللاتي لهن ثقافة عالية بأجزاء كبيرة في كتبهم.
الشيخة شهدة لقبت بـ”فخر النساء”، واستمع عليها خلق كثير، وكان من تلاميذها الإمام ابن تيمية الحراني الذي سمع منها الحديث، والإمام الجوزي الذي روى عنها كثيرًا من الآثار..
العلوم الأدبية
لقد تبوأت المرأة دورها الطليعي في مجال العلم والثقافة والفكر والأدب، منذ العصور الأولى من عمر الحضارة الإسلامية، حيث كان بعض الفضليات من النساء المسلمات، يعقدن مجالس العلم والأدب والمناظرة والمساجلة، ويحكمن بين العلماء والأدباء، وقد حفظت لنا كتب الأدب سيرة بعض الأعلام منهن.
في مقدمتهن السيدة سكينة بنت الحسين، التي وصفتها كتب الأدب والتراجم، بأنها شاعرة أديبة عالمة فريدة بين النساء في زمانها في العلم والأدب، كاملة الأخلاق محبة للتعلم، تشارك في كثير من مجالس العلوم والآداب والفنون، حيث كان الشعراء يفدون على دارها من كل حدب وصوب للمبارزة بالأشعار في حضرتها، حيث اشتهرت بنقدها الصائب في الشعر العربي.
والسيدة عائشة بنت طلحة، التي اشتهرت بعقد مجالس الشعر، واجتمع لديها الأدباء للمناقشة في مجالات الأدب والشعر والرواية. وفي القرن الخامس الهجري برز ذكر السيدة شهدة الملقبة بفخر النساء، حيث كانت تلقي دروسًا في الأدب والتاريخ في جامع بغداد على الجمهور، وكان لها منزلة كبيرة في التاريخ الإسلامي، ولهذا كان يحضر دروسها الكثير من العلماء والفضلاء.
التجارة والاقتصاد
وفي مجال الاقتصاد والتجارة، لم تكن المرأة بمنأى عن ارتياد هذا المجال الهام، وإثبات جدارتها ومقدرتها، بأن تكون اقتصادية بارعة يوكل إليها المهام الصعبة في مجال التجارة والاقتصاد، فتثبت جدراتها وكفاءتها للنهوض بمثل هذه الأعمال، التي كانت قاصرة على الرجال فقط.
ومن الشخصيات النسائية التي برزت وبرعت في هذ المجال، السيدة الشفاء بنت عبد الله القرشية العدوية، تلك السيدة التي تميزت بالعقل الراجح في مجال التجارة، فولاها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولاية الحسبة والأسواق وأوزانها ومعاملاتها، أي وزارة التجارة بلغة العصر، فأثبتت جدارتها تراقب وتحاسب وتفصل بين التجار وأهل السوق من الرجال والنساء.
التمريض والطب
وفي مجال التمريض والطب، كان للمرأة المسلمة باع طويل في هذين المجالين يرجع إلى بدايات الدعوة الإسلامية، فبالنسبة لمجال التمريض، كانت النساء المسلمات يقمن في الحروب بمداواة الجرحى وخدمتهم ومعاونتهم، كما تعمل سيدات الهلال الأحمر والصليب الأحمر في الحروب اليوم.
وقد روي أن أمية بنت قيس الغفارية قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار وهو سائر إلى غزوة خيبر، فقلت يا رسول الله، قد أردنا أن نخرج معك، فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال صلى الله عليه وسلم : “على بركة الله”. وتقول الربيع بنت معوذ رضي الله عنها: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم ونخدمهم ونداوي الجرحى، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة.
وإذا تركنا مجال التمريض إلى الطب، نجد أن ذلك الأمر ليس وليد هذا العصر، بل يرجع إلى عصور ازدهار الحضارة الإسلامية؛ فقد أشار ابن أبي أصيبعة في كتاب “طبقات الأطباء”، إلى طبيبتين مسلمتين درستا الطب واشتغلتا به، وهما الطبيبة زينب طيبة بني أود، التي عرفت ببراعتها في علاج أمراض العيون. والطبيبة أم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي، وقد كانت طبيبة شهيرة في الطب، كثيرة الاطلاع، أجادت علومًا كثيرة مع الطب، وبنتاها كانتا عالمتين بالطب والمداواة، ولهما خبرة كبيرة بعلاج أمراض النساء.
ويكفي أن نشير إلى أن كتب التاريخ والتراجم، حفلت بالعديد من الموضوعات والأخبار عن شخصيات نسائية، كان لهن دورهن وشهرتهن في مجالات التثقيف الديني والأدبي والعلمي والطبي، الأمر الذي يوجب على المرأة المسلمة في هذا العصر أن تعمل على أن تكون امتدادًا لهذا الجيل من الصحابيات والتابعيات اللاتي حملن مشاعل العلم والمعرفة، وكن مثالاً يحتذى به في كل زمان ومكان.