حلم كل طالب علم وأمنية كل إنسان في بدايات مرحلته التكوينية العلمية أن يجلس يومًا في مدرجات الجامعة، وأن يترقّى في سبل وأغوار البحث العلمي، وأن يطأ عتبات المخابر وينقب في الكتب والمجلدات، ويتمرّس التداول والتحاور مع أساتذة متخصّصين في أعلى مستوى من الطرح والجدل العلمي، وكبد جاد من المثابرة والكدح والاحتراق المعرفي بنفس رباني وروح توحيدي.

ونظرًا لأسباب عدّة، فقد لا تكون نظرة ذلك الطّالب أو الباحث الجامعي للعلم نظرة كاملةً شاملة، بل قد تكون في بعض الأحيان مُختَزلة مقتَصرة على بعض الجوانِب دون أخرى…

فتجده ما إن يقبل على شعبة معينة، يغلق على نفسه في ذلك الحيز التخصصي الضيق، ويسعى جاهدًا يعقل رهانه ويربط على قلبه مثابرة حثيثة نحو تلكم الشّهادة التي يتحصل عليها يوم تخرجه، تسعفه للحصول على وظيفة يؤمّن بها قوت يومه في الحياة، فتصبح الشهادة وذلك العمل تعبر عن كل رسالته في الحياة، عن منتهى آماله ومبتغى طموحه.

جميل أن يعرف كل طالب علم أنّ مختلف العلوم تتكون من شطرين أساسيّين متلازمين، جانب إبستيمولوجي فلسفي، ذلك الذي ينبنى عليه أي علم، والذي يعتبر تلك القاعدة البنائية الأساسية الصلبة التي يستند عليها وينطلق منها، فنجد مثلاً نظرية التّطور في علم الكائنات الحية، ونجد نظريات ماركس وماكس فيبر وروسو في علم الاجتماع، وفرويد في علم نفس، وأينشتاين ونيوتن وبور ماكس بلانك وهايزنبرج في الفيزياء وغيرهم…، وجانب أكاديمي ذلك الذي يجسّد تلك الفرضيات الفلسفية أو النماذج المعرفية، والبراديمات التي تؤصّل لتلك العلوم في الواقع النظري أو التطبيقي في أي مجال كانت، في الرياضيات أو الفيزياء أو البيولوجيا أو التكنولوجيا أو غيرها، لذا يمكن القول أن الإبستيم يشكل روح العلم، أما الأكاديمي فيشكل هيكل العلم هذا من جهة.

حلم كل طالب علم وأمنية كل إنسان في بدايات مرحلته التكوينية العلمية أن يجلس يومًا في مدرجات الجامعة، وأن يترقّى في سبل وأغوار البحث العلمي، وأن يطأ عتبات المخابر وينقب في الكتب والمجلدات.

ومن جهة أخرى، لقد فصّل توماس كوهن في كتابه بنية الثّورات العلمية، رؤية حول كيفيّة تطور العلوم، من خلال ما أسماه بالنّماذج المعرفية أو البرادايم، فما إن تبزغ نظريّة تخصّ شأن علمٍ من العلوم فإنها بدون شك ستحاول الإجابة عن بعض التّساؤلات العالقة في تلك الحقبة الزمنية، إلى أن تسمو تلك الفرضية وتترقى إلى نموذج معرفي أو برادايم سائد، يتعلق به الكثير من الباحثين والمشتغلين في مجال العلم، من خلال التنقيب والتداول والتحاور المعرفي، فتبزغ تساؤلات أخرى تقف حجر عثرة أمام العلماء، فتوحي بعجز ذلك النّموذج السائد وقصره، ليتمّ بعد ذلك التفكير في نموذج بديل (Paradigm shift) يكون أصلح وأمتن علميًّا، مجيبا بشكل موضوعي عن الأسئلة والقضايا العالقة المحيِّرة، وهكذا تتم العلمية بشكل تراكمي مستمر. وبهذا النسق شيئًا فشيئًا تتطور العلوم. إذ أنه إن لم يكن هنالك بناء، وإن لم يكن هنالك تداول ونقد وطرح ونقاش، لن يكون هنالك أبدًا تطور للعلوم وبل ستبقى في وتيرة ضعيفة منخفضة.

ولكن من خلال ما مرَّ، قد تُطرح عدة تساؤلات أساسية مفتاحية هنا، فيما يخص الجانب التّقني والأكاديمي للعلم والجانب الفلسفي الابستيمولوجي، وكلنا يعلم أن الأمة الإسلامية عمومًا قد انتقلت منذ قرون من الإسهام إلى الاستقبال، من الإنجاز إلى الاستهلاك، من كمون الفعل إلى كمون الراحة، والجميع دون أي شك يعمل الآن وفي كل لحظة لاستعادة التمكين الحضاري في المجال العلمي والمعرفي، ولسحب البساط من الروح والرؤية الغربية إلى الروح الإسلامية والنظرة التوحيدية، وهنا نطرح سؤالاً هل يتم ذلك فقط بالغور والغوص في المجال التقني للعلوم والبحث والتنقيب في المجال الأكاديمي؟ أم يستلزم قبل ذلك اهتمامًا أولى بالمجال الابستيمولوجي والفلسفي الذي تنبني عليه هذه العلوم، ومحاولة سحبها إلى أرض خصبة وقاعدة إسلامية توحيدية تستنير بنور الوحي، لتنطلق من جديد وتتفادى الانفصام والتناقض الذي يعيشه بعض الباحثين، أن يكونوا داروينيين مثلاً في المخبر ومدرجات الجامعة، ومن ثم محمديين بعد ذلك في المسجد أو البيت، أم هل من الأحرى أن يكون محمديًّا موحدًا في المخبر والبيت والسوق وفي كل مكان؟ خاصة وأن القليل هم من يولون أهمية كبرى لفلسفة العلوم وتاريخ العلوم، وذلك لما لهذه التخصصات من أهمية حضارية أساسيّة.

شخصيًّا كباحث ناشئ مبتدئ أظن أنه لربّما أولى بنا الاهتمام أولاً بشكل أكبر بإنشاء قواعد فلسفية صلبة راسخة في شتى العلوم، مستمدّة من معين ديننا الحنيف ملتزمة بضوابطه مستنيرة بهديه، ومن ثم تكون الانطلاقة من جديد، في بناء أكاديمي يتفرغ للبحث والتنقيب والاكتشاف والتجسيد العملي والتقني.

وقد يحتاج ذلك إلى عدة قلوب وعقول مثابرة متكاتفة جنبًا إلى جنب، بعيدًا من أن تكون محاولات فرديّة للبعض دون الآخر، فالأمر حضاري بشكل أساسي، ويمس كل البشرية الحيرى في وقتنا الرّاهن، مع العلم أن النظريات الفلسفية التي تؤسّس للعلوم، قد تتعدى لمجالات أخرى من الحياة وقد لا تقتصر فقط على ذلك الحيز العلمي، وهذا ما حدث مع نظرية التّطور، وما جرته وراءها من تبعات جسيمة وتأصيلها لنظريات ماديّة تجعل الغايات مبررة للوسائل، وتعتبر الإنسان المعاق الغير المنتج في المجتمع فائضًا من البشر لا يستحق العيش والاستهلاك على حساب الآخرين، وتجعل دائما بشكل أساسي البقاء للأقوى والأصلح داخل معركة ضروس للبقاء في الحياة، كل هذا داخل منظومة مادية صرفة بعيدة كل البعد عن صور وأواصر التراحم.