“ذِهني” من صروف الدهر يبكي،
البستانُ يبكي… والبستانيّ…
صَوّح الزهرُ، وراح الوردُ يبكي دمهْ،
مُذْ هجر البلبلُ الْوَلْهانُ روضتَهْ… (ذِهني)
عندما تجيش بعض العواطف في أعماق القلب من حزن وأسى، وفرح وسرور، ورحمة ورأفة، وتهَيج فتغدو سُحبا متراكمة؛ فإنها لا تلبث أن تنهمر بوابل من الدمع عبر العيون. فالآلام والهموم، والفراق والوصال والحب والأشواق، والآمال والتطلعات.. جميعها تثير شَجَنَ البكاء عند أولي المشاعر المرهَفة ممن سعدوا بمحبة الرفيق الأعلى في رياض القلب وآفاقه، وتستدرّ دموعهم، ولكن ما من شعور تجود له عيونهم بغزير دمعها كمثل الشعور بالخوف من الله ومهابته، وإجلاله وتوقيره. أما الدموع الأخرى، فهي تنحدر من ماهية الإنسان الجامعة لجانبي الجسد والروح؛ فهي طبْعية، شائعة، لا تَمُتّ إلى أنّات الضمير وأشجانه بصلة، ولا تبلغ مرتبةَ الدمع السامي أبدا.

دموع السعداء

فإذا كنت تروم دموعا انبثقت من أرض الإيمان والعرفان، وهاجها الحبُّ والوجد والشوق، فهذا يقتضي معرفة بالحق جل وعلا، وإحساسا به عند كل كائن، وتشوُّفا لوصالٍ مجهولِ الأوان ليلا ونهارا، ووَجَلا من مخافته وارتعادا من مهابته، وتخشُّعا عميقا بين يدي حضرته العلية. وهذا اللون من الدموع نادر عزيز، لم يحظَ بمثله إلا ثلة من السعداء.. كما أن استمراره منوط بأن تقرأ آثاره تعالى في كل شيء، وتحس به في كل شيء، وتبحث عنه في كل شيء، وتعرفه لدى كل شيء، ويذكره لسانُك عند كل شيء.

إن دمع العين لدى أصفياء الحق سبحانه مَثَله كمَثَل أنفاس المسيح عليه السلام فيها سرّ بعث الروح في الأجساد الميتة، وكمثل ماء الحياة تنتعش به الأراضي القاحلة، وتنتفض بالحيوية، وتتدفق بالخضرة والنماء.

إن المرء إذا عرف شيئا تعلّق به.. فإذا ازداد التعلق انقلب حبّاً ثم وجداً وولَعاً يسلب فؤادَه، ويأخذ بمجامع قلبه. وإنّ عاشقا في مثل هذه الحال لا يقرّ له قرار ولا يهدأ له بال، يتيه من صحراء إلى أخرى، يئنّ ويبكي على “ليلاه”. فهو في عمل دؤوب وتعبئة لا تَنِي لكي يتسامى على حالة “البعد” التي تخيم عليه.. ومن ثم يتتبع الآثار التي تتحدث عنه سبحانه، ويتدبر العلامات دون سآمة أو إعياء، يناجي كتاب الكون حينا، ويحنو على الأشياء والأحداث حينا آخر، يقرؤها على أنها رسائله جلّ وعلا، يتنسم أريجها، ويكحل عينيه بجمالها.. وفي أحيان أخرى يخفق قلبه لسماع عبارة من بيانه العجيب فيروّح عن قلبه ببعض العَبَرات، وأخيرا يقف عند إيماءات تشير إليه ودلاّلين يَدعون إليه، متأملا فيها مستغرقا في معانيها، موصولا بدقيق أسرارها بوجد عميق، متنسما نسمات الحب في كل لحظة وحين.
هذه حال السعداء الذين يسعون متلمسين يد الصانع في صنعته العجيبة، منتبهين إلى الجميل المتعالي في كل بديعة من بدائع الحسن والجمال، مرهِفين أسماعهم بدقة متناهية إلى كل همسة من همسات الكون التي تحدثهم عنه، عاطفين على كل كائن في الوجود بحب عميق وعناية فائقة لأنه من صنعه وأثره سبحانه، ومن ثم ناسجين كل فقرة من قصيدة حياتهم على لُحمة العشق وسَدَى الحب.
هذا، وإن من طبيعة القلوب أن يهيّجها الحزن، ومن شأن العيون أن تفيض بالدمع لدى مفارقة الأحبة أو وصالهم.. غير أن منـزلة الدموع في عالم الغيوب تقدَّر بحسب عمق المشاعر، واتساع التصورات، وسموّ النوايا التي يحملها صاحب النحيب والأنين. فإن من يذرف الدمع ويئن بلواعج قلبه خشية وتخشّعا ومراقبة وتبصّرا؛ أو من يكظم أمواج العواطف المتلاطمة في قلبه، ويخفي غلَيان المشاعر المتأججة في ضميره، فيدفنها في غَور أعماقه مقتفيا أثر القائل:
إذا ألمّ بك الهمّ، فحذارِ من التأوّه حذارِ،
اُكتمْ آهاتك في صدرك، ولا تُفشِها للأغيار..
أجل، إن هؤلاء أرقّاءُ بابِ الحبيب بصدق، كَحِيلُو الطَّرْف(1) والأجفان، أوفياء له بحقّ، يصونون سِرّهم كما يصونون عِرضهم، ويغارون عليه ولوْ من عيونهم. وإن حال هؤلاء تعبر عن معان عميقة دوما، سواء أجهشوا بالبكاء أو لاذوا بصمت طويل.
وبالمقابل فإن التباكي الذي لا ينبعث من صميم القلب عذاب للعيون وإهانة للدموع وخديعة للناس كافة. ومن هنا فإن تصنّع البكاء لا يُفرح إلا إبليس، بل ويلوّث إكسيرا عجيبا صنعه الخالق ليطفئ نيران جهنم، ويُبطِلُ مفعولَه الخارق بما يحمل من آفة الرياء. إن الدموع التي تنم عن الاعتراض والإنكار وعدم الرضا في أوقات المصيبة والبلاء محرّمة ألبتة، وإن الارتعاد بهواجس القلق والاضطراب مما يخفيه المستقبل، ما هو إلا لوثة نفسية وداء عُضال؛ كما أن التلهف والشكوى على ما ضاع في الماضي عبث في عبث وهدر للدموع.
لقد ذرفت عينا يعقوب عليه السلام دموعا ساخنة على ولديه العزيزين بدافع من حنين الوالد إلى فِلذتيْ كبده، وبدافع من عاطفةِ شفقةٍ ارتعش لها قلبه. ولعل النبي الكريم عليه السلام قد سكب غزير الدمع عليهما لما توسم فيهما من أمارات الأمل المشرق في المستقبل، ولِما عَرف لهما من مكانة سامية لدى الباري عز وجل. فإذا صح هذا التفسير -ونحن نؤمن بصحته- فلا حرج في هذا اللون من البكاء. أما الدموع الزائفة التي انحدرت من عيون إخوة يوسف عليه السلام عند والدهم الكريم، فما هي إلا كذبة فاضحة وخديعة مشينة واجههم بها سيدنا يوسف حينما كتب الله له لُقياهم قائلا: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، فحمدوا له صنيعه قائلين: ﴿تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا﴾.
إن قطرات الدمع التي تنهمر لوجه الله عز وجل، هي أصدق أنات القلب الذي يمور بالحب الإلهي مورا. وإنّ من تأججت أضلاعه بنيران الوجد تلألأت عيناه بالدموع، أما من أقفرت عيناه وتصحرت فلا أثر للحياة في جوانحه.

إن الحزن والبكاء من أبرز الخصال التي اتسم بها الأنبياء الكرام،

نبي الأحزان صلى الله عليه وسلم

إن الحزن والبكاء من أبرز الخصال التي اتسم بها الأنبياء الكرام، فقد كان لآدم عليه السلام أنين متصل مدى الحياة، وها هي دموع نوح عليه السلام قد تحولت إلى طوفان غمر سطح الأرض. أما مفخرة بني الإنسان عليه أفضل الصلاة والسلام فقد نظم قصيدة لواعجه وأحزانه بالدموع، ولذلك فلعلنا لا نخطئ إذا سميناه “نبيّ الدموع والأحزان”. ألا تذكر يوم بكى بحرقة حتى الصباح تاليا الآيتين الكريمتين مرة بعد أخرى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(المائدة:118)، ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(إبراهيم:36). فلما أخبر جبريلُ عليه السلام ربَّ العزة عز وجل بسبب بكائه -وهو أعلم- زفّ إليه بشرى أثلجت صدره، وسكّنت خفقان قلبه وأنين وجدانه: “يا جبريل، اذهب إلى محمد وقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك”. (صحيح مسلم).
لقد كان دائم الفكرة متواصل الأحزان (الترمذي)، إذ كان في كثير من الأوقات يستغرق في تأملاته التي تنتهي إلى دموع حارّة تتحدر على خديه المباركين. صحيح أن وجهه الحزين كان يشرق فرحا حينما تصله بعض البشائر، إلا أنه كان في أغلب الأحيان يبكي ويئن أنين البلبل الجريح. إن البلبل لا ينقطع عن النواح والأنين حتى وإن حطّ على الورد، فكأنه قد خلق لكي يصدح بنغمات الهم الدفين والحزن المتصل. أما الغربان فلا يحمل نعيقها أدنى معنى من ذلك الهم والحزن، وأما نعيب البوم فهو أبعد ما يكون عن مثل هذه المعاني النبيلة.

أنين الأصفياء

إن الحزن والبكاء حال الأصفياء دائما، وإن أنين الليل والنهار أقصر طريق إلى الله سبحانه. ومن عاب العاشق في بكائه فقد فضح نفسه وأبان عن رعونته. ومن لم يفهم حقيقة النفوس التي احترقت وجدا وتأججت شوقا، فسوف يصبح متقلبا بالحسرات ويمسي مكتويا بآلام البعد والهجران يوم يقوم الناس أمام رب العباد.
وإن القرآن الحكيم لَيلفت الأنظار باستمرار إلى أصحاب القلوب المضطرمة والعيون الملتهبة مُشِيدا بذكرهم نماذجَ مثالية يجدر التأسي بها وتمثّل سلوكها. فهو ينوه بهؤلاء الربانيين أنقياء الروح أصفياء القلب يقِظي الفؤاد، ويثني على الدموع التي انحدرت من أعينهم، خوفا من جلال الله، وهيبة من جبروته، أو شعورا بثقل الذنوب وتعاظمها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾(الإسراء:107-109)، فيعد الدموع التي تقاطرت حبا لله هدية صدقٍ قدّمت بين يدي نجواه سبحانه.
وكذلك حينما يثني على الأنبياء واحدا تلو الآخر بميزاتهم التي تميزوا بها، ومحامدهم التي تفردوا بها، ينبه إلى الجامع المشترك بينهم، أي البكاء والأنين، إذ يقول: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾(مريم:58). وتأكيدا لمكانة الدموع لدى الباري عز وجل نقرأ في الكتاب المبين آية ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾(المائدة:83)، وذلك في معرض تبجيل المؤمنين قديما والموقنين حديثا ممن استيقظوا على النور من خلال الكتب المنـزلة والرسالات السابقة، ثم التقوا بالرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام، فسمعوا منه رسالة السماء غضة طرية، فتقلبوا في أحضان الإيمان من حال إلى حال.
وها هو القرآن مرة أخرى يشيد بأبطال الدموع، يهدّئ من روعهم، ويعزّي قلوبهم المنكسرة، ويخفف من وطأة أحزانهم بثناء سماوي، إذ لم يجدوا العدّة المطلوبة التي تساعدهم على الجهاد في سبيل الله بسبب ضيق ذات اليد فيقول: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾(التوبة:92). وبينما يذكّر القرآن بأن البكاء من سمات الربانيين التي لا تفارقهم، يحذر هؤلاء الطائشين الذين يعدّون الحياة لعبا ولهوا فيقضون أعمارهم ضاحكين عابثين قائلا: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(التوبة:82)، وبالتالي فإنه ينوه بمكانة الدموع من باب آخر. أجل، إن القرآن يستميل أنظارنا إلى الحقيقة نفسها بأساليب شتى وبعشرات من الآيات، ويرشدنا إلى أن نقف موقفا يليق بمكانتنا الكونية.

إن الحزن والبكاء حال الأصفياء دائما، وإن أنين الليل والنهار أقصر طريق إلى الله سبحانه.

هذه تنبيهات القرآن الملحة في هذا الشأن، وإليك نفحات من الحياة السنيّة للنفس الزكية والروح الطاهرة مبلّغ وحي السماء عليه الصلاة والسلام الذي سارت حياته مستقيمة على هذا النهج القويم؛
فقد كان يقول لأصحابه الأوفياء من حين إلى آخر “طوبى لمن مَلَكَ نفسَه، ووسِعه بيتُه، وبكى على خطيئته” (الطبراني)، فيدلهّم على معراج ذي ثلاثة مدارج يستدرجهم من خلالها إلى الآفاق السامية التي يعيش فيها، ثم يلفت أنظارهم إلى ما يقع في عوالم الغيب من شؤون جسيمة تهز القلب هزا فيقول: “واللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا” (البخاري).
كما كان يوقظهم دوما إلى أهمية البكاء والأنين، وينبههم -وينبهنا معهم- إلى أن قطرات الدمع النقية التي فاضت خشية من الله تشكل حجابا إزاء عذاب النار ما لم تتلوث بزيف الرياء وكذبه، “عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله” (الترمذي). وتأكيدا للمعنى نفسه وتنويها بقيمة الدمع لدى الحق تعالى كان يستخدم أساليب مختلفة في حديثه إذ يقول: “لا يَلِجُ النارَ رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللّبنُ في الضَّرْع” (الترمذي).
فما بالك إذا انسكبت هذه الدموع، وتعالت تلك الآهات في خلوات محجوبة عن العباد مكشوفة على رب العباد.. الحقيقة أنني لا أعرف ميزانا يستطيع أن يزن قدرها. أجل، كان نبيّ الحزن صلى الله عليه وسلم يصدح بهذه المعاني وينبه إليها حيثما نزل وأينما حلّ، مع العلم بأنه لم يتخلف عما أشاد به من مُثل عليا قطّ، ولم يبطئ السير نحو الآفاق البعيدة التي أشار إليها أبدا، بل كان متجاوزا لها بمسافات شاسعة، فعندما كان يقوم أمام الباري عز وجل للصلاة يُسمَع في صدره أزيز كأزيز المِرْجَل من البكاء (أبو داود). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم “اِقرأ عليَّ”، قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أُنزِل؟ قال “نعم”. فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً﴾، قال “حسبُكَ الآن”، فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرِفان (البخاري).
أجل، كانت الدموع تسيل من عينيه سيلا، فهل كان أصحابه الأنقياء الأطهار يشهدون دموعه وهم واجمون؟ كلا، بل كانوا يجهشون معه بالبكاء، فيتحول المشهد إلى بكّائين يتغنون بأناشيد البكاء ويترنمون بأنات الدموع. وذات مرة ما إن تلا عليهم قوله تعالى: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ﴾(النجم:60-61) حتى علت أصواتهم بالبكاء وارتجّت السماء بالأنين، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهم طفق يبكي معهم بدموع حرّى، فما كان ذلك إلا أن أثار شجونهم ولمس شغاف قلوبهم فطفقوا يذرفون دموعا أكثر من ذي قبل (البيهقي). فقد كان بكاء الليل وأنين النهار دأبهم؛ إذ كانوا يشعرون بحلاوة الإيمان ولذة العرفان فيبكون، وتثور نيران الحب والشوق لديهم فينتحبون، ويراقبون عملهم فيحذرون من أن يكون قد خالطه شيء من الذنب فيستعبرون، وتلوح لهم مشاهد الآخرة فيرتعشون خوفا ويئنون، وتغطي الغيوم آفاقهم فتحجبهم عن الرؤية فيضطربون، ويعاودون الكرّة فيبكون.. تلك حالهم ما بين بكاء وأنين يُزْجَى بأخلص عبارات التضرع والابتهال إلى عرش الرحمن.
إن أسرع الأدعية وصولا إلى الله ما صدر منها مصحوبا بدمع العين وأنين القلب، إذ ما من شيء يمكن أن يترجم حرقة الفؤاد ولوعة الضمير بأقصى سرعة وأسمى نقاء مثل العَبَرات والدموع. وما رَفعت دموعُ القلب رايتها في ساحة من الساحات إلا تبددت جيوش الإثم أمامها مقهورة مخذولة. وإن النفوس المرهفة حينما تحس بهذا النوع من نسمات القبول تلامس أوتارها، تهدأ ثورة نيرانها، وتنتشي بلحظات من البرد والسكينة والسلام.
إن الأوّاهين الذين عاشوا في بكاء وأنين متصل هم بلابل الحب الصادق عند أهل السماء. فإذا انطلقت أصواتهم بالتغريد أنصت سكان الملإ الأعلى، وراحوا يصغون إلى ترانيمهم بسكون عميق. فإذا بلغ البكاء هذا المبلغ من الوفاء والنقاء، وكان ترجمة صادقة لما يمور ويهدر من شلالات في القلب، فعلى المرء أن يوجهه ناحية “الأبد”، ويقدمه إلى “سلطان الأبد” في منتهى السرّية والكتمان، وأن يحذر من تلويثه بشائبة الرياء، وإلا تحول ذلك الشلال المطفئ للنيران إلى سم زُعاف.

إكسير الدموع

إننا نعيش في عالم فَقَد النورَ الذي يهتدي به، فادلهمّت الأرض وأظلمت السماء، وخيمت الفوضى على كل مكان… هلمّ بنا إذاً، نَذُبْ ذوَبانَ الشمعة الملتهبة ونحنِ رؤوسنا انحناءها وهي تشتعل وتذوب، ونتأمل مئات الذنوب وآلاف المعاصي التي اقترفتها أيدينا، ثم نطلق أناتنا كالبلابل المفجوعة حتى ينتفض أهل السماء يلحَظون، فيهبّوا مسرعين يحملون مشاعل النور في أيديهم لكي يشهدوا مهرجان البكاء العظيم. إنني أرى أن هذه الفترة التي شبّت فيها ألسنة النار في الهشيم، لَهِي أنسب الأوقات لكي نُفتّق سحائب عيوننا بشلالات من الدموع. وإذا كان دمع العين إكسيرا عجيبا يبطل سحر كل مؤامرة شيطانية -وهو كذلك- فما علينا إلا أن نتخلى عن مشاهد الابتهاج الفجة حيثما حللنا وارتحلنا، ونلجأ إلى الاسترواح بغيوث البكاء، ونسعى إلى إخماد نيران الأنين بإكسير الدموع.
إن دمع العين لدى أصفياء الحق سبحانه مَثَله كمَثَل أنفاس المسيح عليه السلام فيها سرّ بعث الروح في الأجساد الميتة، وكمثل ماء الحياة تنتعش به الأراضي القاحلة، وتنتفض بالحيوية، وتتدفق بالخضرة والنماء. وإن السعداء الذين أووا إلى خلوات الليل المحجوبة عن العباد المكشوفة على رب العباد، فزادوها عمقا ببكائهم، وشفافية ورقة بنحيبهم، وأسمعوا مكامن أرواحهم ترانيم من الأنين ونغمات من الحنين، سوف يُمنَحون سر البعث حتما، إنِ اليومَ أو غدا، ويبثون الروح والحياة أينما نزلوا وحيثما ساروا.
منذ سنين وسجاداتُ الصلاة ظمأى إلى الارتواء بأنداء الدموع.. ومنذ عقود وآذاننا متشوّفة إلى أنين القلوب.. اكفهرّت سماؤنا وتصحرت أوديتنا.. بتنا لا نشعر بلهيب النيران التي تضطرم في أحشاء أهل المكابدة فينا.. فكأن وجوهنا قطع من الجليد، وأنظارنا خِلْوٌ من أي معنى نبيل.. لا أثر للهمّ المضني والمعاناة المبرّحة في الأفئدة.. ونظراتنا لا تعبر عن الصدق الذي يبعث الإيمان في القلوب. وإنه لمن المحال بمكان أن ننطلق نحو المستقبل، وأن يكون لنا وزن في لاحقِ الأيام بهذا العبء من الغفلة.
ومنذ أن أحجمت عيوننا عن الدموع، جفّت ينابيع السماء من خيراتها، وأمسكت أنوار التجليات وغيوثُ الإلهام عن الهطول.. فلا ورد ينبت ولا زهر.. وباتت الأنوار تنحدر من السماء متعثرة، والنسيم يهب بين الحين والآخر منهَكا.. سكان السماء لَهْفى إلى أنّات أهل الأرض ونحيبهم.. والرحمة التي تريد أن تتحول إلى سحائبِ بُشْرَى، تستغيث الأجفانَ دموعَها. كما بكى “ذهني” قائلا:
كأنّ رياضَ الورد اشتعلتْ فيها النيرانْ،
واستلبتْ الحيّةُ السوداء عرشَ سليمانْ،
واستعرتْ بالأنين حتى ذابت أحشاءُ العاشقينْ،
وتحولتْ أيام الوصال إلى غمّ وهجرانْ…
ومن يدري، فلعل الأرواح الطاهرة التي ترفرف في السماء، تترقب تدفق الدموع من عيوننا لكي تناجي الغيوم وتستحثها على الهطول. ومن يدري، فلعل عيوننا تفيض بحارا من الدموع إزاء ما ألمّ بنا من نوازل ومهمّات، فتمتلئ للتوّ آفاق الملكوت بسحائب محمّلة بالرحمة الواسعة، وتنتبه السحائب إلى أخطائنا ومعاصينا تجرفها أمواج الدمع المتدفقة من أجفاننا، فإذا بها تهلل فرحا، وتتألق ابتهاجا، وتغني أناشيد الربيع، ثم تنهمر علينا بالرحمة والبركات.
ومن يدري، فلعل سكان السماء، شأنهم في ذلك كشأننا حينما نأخذ ماء الورد فنضمّخ به وجوهنا وعيوننا في ذكرى الميلاد النبوي السعيد.. من يدري؟ فلعلهم يستبقون قطرات الدمع التي تستروِح بها النفوسُ الملتهبة بالهجران، يمسحون بها وجوههم، ويكحلون بها عيونهم، ويضمونها إلى صدروهم على أنها أعز هدية قدمت إليهم. إن أخطاءنا وذنوبنا قد طاولت الجبال في تعاظمها.. وإنّ حالة الأسف ودموع الندم التي تبدو علينا أحيانا، يغلب عليها غُلْواء الرياء والسمعة.. فلا أثر للمعاناة المؤرِّقة في نفوسنا.. وأغلب بكاءاتنا ذات طابع دنيوي ومشوبة بالعصيان. ومن ثم فنحن لا نحتاج اليوم إلى شيء قدر احتياجنا إلى دموع من الندم تُذرَف لِتنقّينا من الأدران التي علقت بنفوسنا منذ قرون. فعسى أن نطرق باب التوبة بها، ونعود لنبني سنواتنا البائدة من جديد.
إن آدم عليه السلام لما ضخّم “عثرته” في عينيه وكبّرها حتى بلغت ضخامة قمة “إفيرست”، لم يلجأ إلا إلى الدموع لكي يذيبها ويدمّرها عن بكرة أبيها. لقد كان مثل شجرة “العود” تحترق رويدا رويدا لتغمر المكان رائحة شذية، إذ لم يلبث أن اضطرمت النيران في أحشائه، فراح ينتحب بدموع حرّى، ويتلوّى بأنّات الندامة حتى ارتقى إلى سماء القبول، وصار محط أنظار الملائكة والملإ الأعلى. وعندما انقشعت الغمة وانتهت “المكابدة”، أصبح كل يوم جديد يشرق عليه بأبهى بشائر العفو وأزهى تهاني الغفران.
بعد أن اجترحت أيدينا ما اجترحت من الآثام، وبعد أن عانينا ما عانينا من الجفوة والحرمان، أرى أنه لا يبدو لنا سوى مخرج واحد؛ وهو أن نترصد شواطئ الخلوات المتفتحة على التجليات، ونسبل ستائر الليالي السوداء على رؤوسنا، ثم نخرّ على جباهنا ساجدين منتحبين، لا يرانا أحد ولا يسمعنا سوى السميع البصير. تعالوا بنا نبكِ ونتلهف على نقضنا لعهدنا، وانهدام وفائنا، وعجزنا المتصل عن إخلاص أعمالنا، وشرودنا ذات اليمين وذات الشمال أثناء سلوكنا، والتواء خطنا، وانحراف استقامتنا، وعدم توفيتنا حقَّ المقام الذي بوَّأَنا الباري عز وجل، وحقَّ المكانة التي تَوّجَنا بها، وعدم وقوفنا موقفا مشرِّفا قويا يوازي المنن والأيادي التي كُرِّمنا بها.. أجل، دعونا نبكِ أيضا على كل من أساء التصرف مثلنا.. بكاء لم يشهد بمثله الأولون والآخرون، حتى يعجب أهل السماء الذين كان البكاء ديدنهم، فيسكبوا دموعهم إغاثة لدموعنا، ويرفعوا أنينهم استجابة لأنيننا منذ اليوم.
أجل، نحن لم نَقدُر المكانة السامية التي كُرّمنا بها حقّ قدرها، ولم نصمد في مواقعنا بعزم صادق ووعي نافذ وإخلاص عميق. لقد انحلّت الأيدي المتماسكة، وهجر الحبيب ديارنا، وعصفت رياح الخريف برياض الورود فأبادتها، واكتوت أحشاء البلابل بلهيب الفاجعة، وأخذت تشدو بآهات محرقة، وتبكي بأنات ملتاعة… أجل، غاضت الينابيع، وجفت الجداول، وباتت الأشواك تنذر بالهول في كل مكان، ونعيب البوم يمزق أرجاء الأرض والسماء. آنَ الأوان لكي نتحدث بلسان قلوبنا، وننثر قطرات من إكسير الدمع على وحشتنا وغربتنا، فننهي عهد التصحر المميت.

منذ سنين وسجاداتُ الصلاة ظمأى إلى الارتواء بأنداء الدموع.. ومنذ عقود وآذاننا متشوّفة إلى أنين القلوب..

لقد منّ الله علينا بألطاف جليلة مثل الوجود والحياة والحس والشعور والإدراك.. ورسم لنا آفاقا ومسالك للحياة تتناسب مع ما جهّزَنا به من مواهب وطاقات. بيد أننا بددنا كل شيء وأسرفنا في ذلك إرضاء لأهوائنا الطائشة ورغباتنا الجامحة، فأخذنا نتدحرج القهقرى، ونتراجع عن المرتقى الذي شُرِّفنا به، ونهوي إلى قاع النـزوات، وإذا بنا ننحطّ بالمستوى الإنساني الرفيع، ونلوّث الكرامة الإنسانية، ونلوّث أنفسنا معها. بعد هذا المنحدر السحيق، ألا ينبغي على الأقل، أن نبذل الغالي والنفيس لكي نمضي قُدُما فيما تبقّى من أعمارنا على خط القلب الذي لا ينحرف ولا يحيد؟!

مناشدة حرّى

إذن، تعالوا نَهجُرْ أيام البؤس التي قضيناها ضاحكين عابثين، تعالوا نعزف على أوتار الدموع مترنمين بنغمات البكاء والأنين. هلُمّوا نودّع حياة اللهو والهوى، ونتدثر بدثار الهمّ والمعاناة حتى نكتشف أبعادا أخرى من الحياة ونستشعر بها في أعماقنا. تعالوا نصغِ إلى ألوان من الهموم، ونستهدِ السبل التي تقرّبنا إلى عظماء المكابدة ممن يقاسمون الأوّاهين آلامهم ويشاطرونهم أحزانهم.
لقد اندثرت أيام عمرنا الخصيبة في ضياع مخيف، وولّى ربيع الحياة دونما رجعة. وباتت طلائع الليل البهيم تلوح في الأفق الغربي تنذر بانتهاء نهار العمر الوضيء. فلم يبق لنا -والحال هذا- إلا أن نوقد مصباحا ساطعا لا يخمد نوره استعدادا لذلك الليل الطويل. فلا أقلّ من أن ننتفض -منذ الساعة- فنؤوب إلى رشدنا، ونلملم شعثنا، ونعود إلى جوهرنا، فنرطّب حرقة أكبادنا بقطرات من دموعنا.. إذ لم يقطر على وجه الأرض شيء أعزّ وأكرم من الدمع عند الخالق عز وجل، وإنّ تلك القطرات التي تناثرت على وجه التراب ستحوّل أرجاء البسيطة كلها إلى جنّات زاهرة في عهدٍ ليس ببعيد.
ناشدتكم الله أن نهبّ معا لنكون سقّائي دموعٍ في هذه الصحراء المترامية الأطراف، المتآكلة من الجفاف، فنقيم موائد زاهية حديثة العهد بالسماء، تقدم للرائح والغادي فواكه غضّة طريّة نضيرة، كلماتها شبوب شوق ولهيب أشجان، ونغماتها أنين قلب ونحيب وجدان.
ـــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.
(1) كحِيلو الطرف في الأدبيات التركية: الأصفياء أصحاب القرب الإلهي الذين حباهم الله بحدّة البصر ونفاذ البصيرة. (المترجم)