من الأعشاب ألبان خالصة

أعشاب خضراء ويابسة، وأعلاف وحشائش ناضرة، وأخري مُركزة تتناولها المجترات.. كبيرها وصغيرها. ثم اجترار، وهضم، وتمثيل، ونواتج في الدم، فألبان “خـَالصة” سائغة الطعم، ومتنوعة التكوين، والفائدة الصحية. ألا يستحق ذلك تأملاً، وتفكرًا، وتدبرًا، واعتبارا لتمثل “الإخلاص” سُنة ماضية في الأقوال والأفعال، كما في الآفاق والأكوان؟

تتنوع المجترات (البقر، والجاموس، والإبل، والضأن، والماعز) في أشكالها، وأحجامها، وأوزانها، وألوانها، ونسق رعايتها، وحجم وخصائص ألبانها. ولقد وُهبت جهازاً هضمياً متناسباً مع خِلقتها، ووظيفتها التسخيرية. فتركيب الفم، وتجويفه متأقلم مع نوعية وطريقة أكلها. وتتكون معدتها من أربعة أقسام، ثلاثة منها للهضم المبكر: “الكرش”، و”الشبكية/ القلنسوة”، و “أم التلافيف/ الوريقة”. والقسم الرابع: “الأنفحة” للهضم النهائي/ معدة العصارة. بينما تغيب “أم التلافيف” عن معدة الإبل.

ومن أجل إنتاج حليب طوال العام (توفر الأبقار نحو 90 % من المستهلك عالمياً) يراعي توفير احتياجاتها الغذائية بطريقة صحيحة. وقد تتفاوت من مكان لآخر، لكنها تتكون إجمالاً من: عشب أخضر (برسيم، وحشائش)، وتبن وقش (60%)، وذرة/ عشب مخمر/ سيلاج (20%)، ومركزات من الحبوب وفول الصويا وأعلاف مكملة (18%)، وفيتامينات ومعادن (2%). وأصبحت نـُظم وكميات التغذية تـُضبط بواسطة برامج حواسيب وفق احتياجات الحيوان، وعمره، وإنتاجياته (لبن، لحم، جلد، وبر، صوف، شعر الخ). فعلي سبيل المثال.. تحتاج البقرة التي تنتج (20- 25 لتر حليب/ يومياً) إلى 12 كيلو من العلف يومياً (بروتين 18%)، و6 كيلووات قش (تبن أو أعشاب وبقايا جافة).

وتمضغ المجترات طعامها جزئياً في الفم، وتمزجه باللعاب، ثم بلع لتك الأعشاب. فتخزنه/ تفككه في المعدة المخصصة للتخمير (حيث العصارة القلوية، وملايين البكتيريا والطلائعياتprotozoa ثم تجتره، ثانية، إلى فمها، فتعيد مضغه مجدداً. فتقضي عدة ساعات يومياً في عملية الأكل، والاجترار. ثم يمر الغذاء (ألياف نباتية يتفاوت ذوبانها في الماء، وبروتين نباتي وبكتيري، ونشويات وسكريات، ودهون وأحماض دهنية مشبعة، وحرة) بمرحلة امتصاص (من المعدة، والأمعاء) للمُغذيات المطلوبة. ثم تدخل المواد الممتصة في الدم البوابي الوارد للكبد للإجهاز عليها وتكسيرها إلى أبسط مركبات، ليضخها القلب إلى جميع أنسجة، ومنها النسيج الغدي للضرع.

ضرع المجترات

لضرع الأنعام نسق مناعي وقائي طبيعي. يتمثل في تقسيمه نصفين متساويين أو أربعة أرباع Quarters غدية منفصلة مستقلة عن بعضها البعض. فإذا ما أصيب أحد الأرباع بالتهاب أو نحوه فلا يعني بالضرورة إصابة الرباع الباقية. ويتدلى أسفل الضرع أربع حلمات. لكل واحدة منها عضلة عاصرة قابضة على فتحتها الخارجية. تمنع صعود الميكروبات. ثم هناك “قناة الحلمة”، كمضيق قبل مستودع اللبن في الحلمات، وصمام اختناقي من نسيج ضام والياف عضلية وشبكة وريدية. وللحلمات جدار مخاطي يفرز مواد مناعية طبيعية. ويتعلق ضرع البقرة (وزنه فارغاً نحو 25 كجم، بالإضافة لمتوسط وزن اللبن نحو 30 كجم فيصل وزنه إلى 55 كجم) بأربطة قوية تربطه بعضلات جدار البطن كي لا يتدلى على الأرض.

ويغذي نسيج الضرع (عناقيد، وقنوات صغيرة وكبيرة، وجيوب/ مستودعات)، أوعية وشعيرات دموية (شريانية، ووريدية)، وغدد ليمفاوية، وشبكة عصبية. وشرايين الضرع أدق من أوردتها للبقاء على أكبر قدر ممكن من المواد البروتينية والتي بطبيعتها صعبة التحرك بسبب حجمها. كما له وريدين ضخمين منتفخين أسفل البطن يجمعان الدم من الشعيرات الوريدية. ويمر نحو 55 لتراً من دم الأبقار على الضرع لتنتج لتراً واحداً من الحليب الصافي. كما تحتاج إلى أكثر من لترين من الماء النقي لتنتج لتراً من اللبن.

ولا يستخلص الضرع من الدم إلا ما يحتاجه لإفراز اللبن فقط. فيأخذ سكر الدم “الغلوكوز” ليكون سكر الحليب “اللاكتوز” حيث يتفوق الحليب على مصل الدم في (اللاكتوز) بنحو 90-95 مرة. ويستخلص الدسم (تتراوح نسبة دهون الحليب %2-7%) من الأحماض الدهنية الأحادية، ومركبات الكيتون، والخلات والجليسيرول. أما بروتين اللبن فيتشكل من الأحماض الأمينية. ويكتسب الحليب لونه من امتزاج تلك العناصر مجتمعة مع القشدة والأملاح والمعادن، ومادة الكازين (بروتين الحليب) الغني بالكالسيوم، ولونها أبيض.

ويعمل الضرع على إفراز هرمونات (الأوكسيتوسين، والبرولاكتين) من الغدة النخامية بالدماغ. فيسبب “الأوكسيتوسين” انقباضا في الغدد الموجودة بالضرع فيتدفق الحليب. أما هرمون “البرولاكتين” فيتحكم في كمية الحليب الناتج. فكلما زاد عدد مرات الرضاعة الطبيعية، أو الحلب (تُحلَب الأبقار، آليا أو يدوياً، 2 ـ 3 مرات يومياً)، زاد إفرازه وبالتالي يزيد الإدرار. ومن المعلوم أن أبقار الفيرزيان تنتج ما بين (6000 -8500 لتر حليب سنويا) بنسبة دهن 3.7%.
فبعد مدة حمل حوالي (9) أشهر في الأبقار.. تلد عجولاً تتمكن من الوقوف والمشي خلال ساعات قليلة. وسريعاً ما تفرز لها الأمهات، حليباً خاصاً “اللباء/ السرسوب/ الصمغة”. ويحتوي على نسبة عالية من المضادات الحيوية (جاما جلوبيولين) اللازمة لمناعتهم في أيامهم الأولي حتى ينمو جهازهم المناعي الخاص بهم. كما يحوي المواد الغذائية الضرورية لصحة جيدة. وخلال أسبوع من الولادة تتمكن الأمهات من بدء إنتاج الحليب اللازم لإرضاعهم حتى يبلغوا سن الفطام. وتستمر فترة الإرضاع وإنتاج الحليب لنحو (300) يوماً.

وتعتبر الأبقار من الحيوانات المسالمة والصبورة. تتحمل الألم (مقارنة بغيرها) بهدوء وصبر. تتبع بعضها إلى داخل/ خارج الحظائر، وتقف عند المحلب تنظر بصبر موعد حلبها. فتجود بحليبها المتراكم في ضرعها. وتُوجد محالب آلية للأبقار، والإبل والمعز تقوم بحلب أكثر من (100) حيوان/ الساعة. وهنالك مزارع تستعين بالحواسيب لتساعد على تنظيم عمليات الحلب، وتسجيل كميات الحليب المنتجة يومياً، وسنوياً.

والحليب غني بالبروتينات والكالسيوم وفيتامين (D) اللازم لبناء العضلات وتكوين العظام والأسنان. فتناول كوب من الحليب (نحو 0.25 لتر) يزود الإنسان بـ: 17 % من الإحتياج اليومي للبروتين، 29 % من الكالسيوم، 23 % من الفسفور، 25 % من فيتامين (D)، 15 % من فيتامين (B12). هذا بالإضافة إلى أهمية لبن الإبل، وفيه ما فيه من فوائد صحية جمة كتب عنها كثيراً. يقول صلي الله عليه وسلم: “من أطعمه الله طعاماً، فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه، ومن سقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب غير اللبن” (رواه أحمد، وأبو داود).