معايير منهجية في التعامل مع الشائعات والاتهامات

لم يغفل الإسلام العظيم بيان كل ما يتعلق بالإنسان من مواقف وأحداث تقع معه… فكيف إذا كانت هذه الأحداث جسيمة، لها صلة وتعلق بمسير الإنسان وما يحمله من قيم، وما يدافع عنه من مبادئ؟ ويأتي تقرير هذا الأمر في سياق ما يصاب به الإنسان من ابتلاءات، تختبر قدراته وصدق انتمائه، وبخاصة في مسيرة قيامه بواجب الدعوة والإرشاد، وهي في حياة المسلم فرصة ليتعرف على حقيقة إيمانه وثقته بالله تعالى.

ومما يجب الوعي عليه جملة أمور:

• أن الابتلاءات سنة الله في الدعوات.

• النبي صلى الله عليه وسلم كان قد اتهم بأكثر من تهمة في مسيرة حياته الدعوية، على المستوى الشخصي، وعلى مستوى ما تحمّله من أمانة هذا الدين.

• العلماء والدعاة اتهموا أيضًا على مرّ الزمن.

• الأخطاء أمر طبيعي عند من يعمل، فلا أحد معصوم.

• لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، ليقرر أن يكون حكمًا على الآخرين.

• لا يمكن لأحد أن يتحمل الخطأ وحده، إنما هناك أسباب متداخلة قد يتحمل فيها الأطراف جميعًا مسؤولية الأخطاء، ولعل من تقبّله الله من ابني آدم قد استفز أخاه بقوله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(المائدة:27)، فأظهر أسوأ ما عنده.

موازيين ومعايير منهجية في التعامل مع الأشخاص والآراء والمواقف والحكم عليها

لا بد من التأكيد على جملة من الموازين المنهجية التي تحقق للإنسان العدالة ووجه الحق في الحكم على المواقف والأقوال، ويمكن إجمال ذلك في نقاط مهمة أساسية:

1- التأكد؛ لنتأكد من كونها حقائق وليست مجرد شائعات أو افتراءات، وقد أكد القرآن هذه القيمة بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(الحجرات:6).

2- الفهم؛ أي فهم المواقف والأقوال بعد أن تأكدنا من صحتها، من خلال وضعها في سياقاتها الصحيحة من مثل:

• سياق الكلام المباشر، والسياق الشخصي، حتى لا ينتزع الكلام انتزاعًا ويوجه إلى غير وجهته.

• سياق العمل الكلي، أي أن ننظر في فهم الأشخاص من خلال مجموع إنجازاتهم؛ فهي تعطي توضيحًا دقيقًا لكل ما يؤمنون به.

• سياق الرصيد السابق من المعرفة والثقة، فلا يصحّ فصل الإنسان عن تاريخه السابق ما دام خيرًا ولم يتبرأ منه أو يخالفه، وهكذا كان الحال مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إذ عُرف بأنه الصادق الأمين، وكان لذلك أثره على صدق دعوته.

3- التحليل وليس التخمين؛ وهو أمر مرتبط بفهم الأقوال والمواقف، للوقوف على أسبابها ومحاولة تفسيرها دون التوقعات أو التخرصات.

4- التماس العذر من الشخص في أي موقف يمكن أن يقع فيه خطأ، وعدم التجريح أو الإساءة.

5- البعد عن الدخول في النوايا والمقاصد التي تؤدي إلى الاتهامات.

6- البعد عن التعميم في الأحكام.

قراءة في حادثة الإفك ومنهج مواجهة الاتهامات والتشكيكات

كلنا نقرأ خبر حادثة الإفك كما يصورها لنا القرآن الكريم، حيث تجاوز فيها الأشخاص ليقف معنا فيها، من خلال الحديث عنها كظاهرة يمكن أن تكون في أي مجتمع، وأن يتعرض لها أي إنسان في حياته.

والقرآن الكريم يبين لنا أن مثل هذه المواقف لصعوبتها، فإنها تمس مكونات المجتمع جميعه حتى ولو كانت على مستوى فرد من أفراده؛ إلا أنها تتصل بالمكون الاجتماعي والأخلاقي والسلوكي لهذا المجتمع… فكيف إذا كانت تتعلق أحيانًا بأفراد لهم دورهم ومكانتهم في المجتمع؟

انقسام مجتمع المدينة بسبب الحادثة إلى فئات

1- المتهم “محمد صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها”؛ أي المشروع وليس الأشخاص، ولا يملك ليدافع عن نفسه إلا رصيد أقواله وأعماله وثقة إخوانه الذين يعرفونه بهذه الأقوال والأعمال.

2- الذين صنعوا الشائعة وأثاروها، هم “المنافقون”، ولكل حق أعداؤه الذين يتصيدون ويحقدون ويبالغون ويكذبون ويشوهون.

3- الذين يرددونها؛ وهم عامة الناس ممن لم يُفعّلوا المنهج الحق المنضبط في التعامل مع مثل هذه المواقف. وهؤلاء ليس لهم رصيد من الوعي الكامل أو الثقة، أو أنهم لم يفعّلوا هذا الرصيد، أو أنهم لم يحسبوا حسابًا لخطورة مواقفهم، وهم في الغالب “سذج بسطاء”، وأسراء الانطباع الأول، ومثلهم في مجتمع المدينة الصحابة الكرام “مسطح بن أثاثه، وحسان بن ثابت” رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين.

4- المترددون الحائرون -وهم كثير- ومواقفهم سلبية لم يحددوا وجهتهم بعد، يكونون متفرجين لم يتخذوا موقفًا، وموقفهم هذا بحد ذاته هو خذلان للحق وأصحابه.

5- المدافعون الذين تملأ الثقة قلوبهم، ويقفون على رصيد عال من الوعي والمنهج القويم في التعامل مع هذه المواقف، ويحسون بالمسؤولية تجاه ما يؤمنون به ويثقون به، هؤلاء هم الأبطال الشجعان الواثقون؛ ونموذجهم أبو أيوب الأنصاري وزوجته رضي الله عنهما.

كيف كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم؛ القائد الحكيم الملهم؟

تجاه هذه الأحداث وصعوبتها وتعقيدها، كان أمامه عدة حلول:

1- الطلاق والانفصال؛ ويمثل فكرة التخلي عن اختياراتك ومواقفك وحتى قناعاتك ورصيد إنجازاتك.

2- المدافعة بنفسه عن نفسه ومشروعه وبيته، ولكن هل يستطيع ذلك وحده في ظل هذه الهجمة المستعرة الملتهبة؟

3- أن يترك الموضوع ويهمله، ليتكفل الزمن وحده بالحل.

4- أن يشارك المجتمع معه ويضعهم أمام مسؤولياتهم تجاه مشروعهم ومستقبلهم.

وقد اختار صلى الله عليه وسلم الرابعة؛ فذهب يتكلم مع “أم أيمن” وهي جاريته، ثم زينب بنت جحش زوجته، ثم توجه للشباب أمثال أسامة بن زيد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم توجه إلى من لهم تأثير فيمن حولهم، ومن كان لرأيه أثر كبير في دعم النبي صلى الله عليه وسلم ومساندته، وفي تغيير مجريات الأمور؛ ذهب إلى عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه… فقال له عمر: من زوجك إياها؟ فقال: “الله”، فقال أيدلس عليك الله؟

فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر هذه الكلمات ومن ينشرها، فقال لعمر رضي الله عنه: “قل لهم يا عمر، قل لهم يا عمر”، ويشير ذلك إلى أهمية “المدافعة الإعلامية”.

كيف ستكون النتيجة؟

في ضوء الخيارات السابقة والموقف الذي اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم، يمكننا تأكيد أهم القضايا الأساسية التالية:

1- يجب أن نأخذ بالأسباب مع كامل التوكل على الله والثقة بقدره، ولذلك جاءت التبرئة للمتهم من الله تعالى. فإن كنت مؤمنًا صادقًا مع الله، فالله يدافع عنك: (إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)(الحج:38).

2- إنّ المسلم الصادق المؤمن بربه، الواثق بقدره، يتجاوز مثل هذه المواقف برصيد المحبة والأخوة حتى لمن أساء إليه. فبعد ظهور الحقّ، لا يقبل لك أن تمتنع عن الإنفاق على إخوانك المخطئين، وعليك أن تسامحهم وأن لا تحقد عليهم.

ويؤكد الأستاذ فتح الله كولن موقفه في الخدمة مع إخوانه -على الرغم من كل الإساءات والاتهامات- على جملة من المفاهيم الإيمانية، منها:

1- ضرورة التماسك والثبات على ذات القيم، لأنها قيم قرآنية ثابتة، يقول:

“نحن اليوم في المكان نفسه الذي وقفنا فيه بالأمس، أما من بدل مكانه فهو من يجب النظر إليه”.

2- وجوب الإخلاص لله تعالى وضرورة التواضع في تقديم الخدمة للناس، وهو يرفض ربط الناس بنفسه، ويؤكد الالتفاف حول القيم ذاتها، يقول: “حاولت أن أكون عبدًا”.

3- الدعوة للثقة والروح الإيجابية في مثل هذه المواقف، ليسهل استشراف المستقبل، والسير على خط الأنبياء عليهم السلام. يوضح ذلك من خلال قول الله تعالى: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(يوسف:18) فيقول: “لا بد لهذه الكربة أن تزول كما زالت شقيقاتها الأخرى”.

4- السعي للهمة العالية، والحرص على صدق الهمة، يقول: “سنواصل الخدمة قدمًا، إكرامًا لأمتنا وإكرامًا للإنسانية”.

5- ضرورة التضحية، لنختبر صدقنا وعزمنا، يقول في هذا المعنى: “لو علمت أن موتي سيكون حلاًّ لمشاكل تركيا، لاخترت أن أموت في اليوم ألف مرة”.

ويقول: “ولكي لا أعطي مبررًا لمن يريد أن يغتال أمن تركيا وسلامتها واستقرارها، فسأدفن أشواقي في أعماق قلبي، وأبقى هنا مزيدًا من الوقت”.

الأستاذ كولن يعكس الفهم القرآني في واقع حياته، مستفيدًا من كل هذه التوجيهات القرآنية الدقيقة، ومستفيدًا من هذا الرصيد القرآني فيما ذكره لنا من نماذج عن الأنبياء عليهم السلام وعن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. كما يقدم الأستاذ كولن توصيات أساسية ومنهجية ليحافظ فيها المسلم على قيمه، ولكي لا يهتز في مواقف الابتلاءات والاتهامات.

وهو يمثل تحديدًا دقيقًا لما يجب في هذه المرحلة والمرحلة القادمة، وذلك بالاستعداد لكل ألوان المحن، بحيث لا يحق لنا الشكوى أو التذمر. ويذكر لذلك ثلاثة أمور أساسية:

• استحضار الغاية، وهي عندنا “أن نتحرى مرضاة الله تعالى”.

• حضور الهدف، ويكون بـ”خدمة القيم الإنسانية السامية، وغرسها في القلوب من منظور إيماني”.

• التفاعل بخطوات عملية لتحقيق ذلك، وتتمثل فيما يلي:

1- الصمود والصبر والتوكل.

2- التعامل بأخلاقنا وقيمنا.

3- الثبات مكاننا.

4- المواصلة في خدمتنا.

5- الزيادة في سرعتنا.

6- عدم التفكير بردة فعل على ما يجري.

7- عدم اليأس أو فقد الثقة والأمل.

8- البحث عن طرق وفرص جديدة ومتعددة للنجاح.

9- أن نتحرى مرضاة الله.

10- العفو عن الآخرين ومسامحتهم.

وبهذا تتحقق لنا النتائج الآتية:

1- الفوز الحقيقي وهو كسب مرضاة الله.

2- انتصار العقل السليم والمنهج القويم.

3- مجيء الآخرين نادمين معتذرين.

يقول الأستاذ: “حينها، عليكم أن تعفوا وتقولوا لهم: (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ)(يوسف:92).

(*) رئيس قسم أصول الدين في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية / الأردن