من الحقائق الثابتة والمعروفة عن الإنسان أنه -إن تجاوزنا هيكله الجسدي- كيان ذو حقيقتين: أولاهما الإدراك ومحله الدماغ، الثانية الوجدان ومكانه القلب. ونعني بالإدراك الوظائف التي ينهض بها العقل، ونعني بالوجدان العواطف الدافعة والرادعة والممجدة، وهي عاطفة الحب والكراهية والتعظيم والانبهار. والإنسان إنما يتعامل مع الحياة وشؤونها بهاتين الملكتين؛ أولاهما، ترسم وتخطط، والأخرى تحرك وتدفع إلى التنفيذ. وبعبارة أجلى وأوضح نقول: أما ملكة العقل والوعي فإنما تؤدي عملها بشكل آلي ووظيفة محدودة لا تزيد على كشف الحقائق الخفية وإزاحة الحجب عن القضايا الغامضة. ثم إنها لا تملك بعد ذلك أي سلطان على السلوك، إنها أشبه ما تكون بالمصابيح المثبتة في مقدمة السيارة تبصّر صاحبها بطبيعة الطريق الذي يُسلَكُ إليه، ثم لا تزيد على ذلك. وأما ملكة الوجدان فهي قوة دافعة بل وقودٌ محرك، إنها أشبه ما تكون بالوقود والمحرك داخل السيارة. إذن، فالحياة السلوكية للإنسان تنهض على هاتين الملكتين: إحداهما، تبصّر وتكشف، والأخرى تقود وتدفع.
ثم إن ملكة الوجدان (أي العواطف) في حياة الإنسان يتجاذبها عاملان اثنان: أحدهما: الرعونات النفسية المتمثلة في الأهواء والشهوات وحب الذات ومشاعر الاستكبار، ثانيهما: القرارات العقلية التي يكشف عنها العقل ويضعها أمام صاحبه مجلوّة بعد جهالة أو غموض. والغلبة إنما تكون في أكثر الأحيان للرعونات النفسية، فهي التي تسبق العقل إلى ملكة الوجدان لكي تجندها لحسابها. ومن هنا، ولهذا السبب، نجد كثيرا من الناس يستجيبون في تصرفاتهم السلوكية لهاجس الغرائز النفسية معرضين عما تمليه عليهم قراراتهم العقلية، إذ تفوز غرائزهم وجموحاتهم النفسية بالسبق إلى مكمن العواطف في كيان صاحبها فيصبح القرار لها لا للعقل وأحكامه.
وقد أدركت المجتمعات الإنسانية منذ أقدم العصور المشكلة التي تنبثق من هذه الظاهرة، فسعت إلى حلّها عن طريق اللجوء إلى ما يسمى بـ”التربية” وأخذ الأجيال بها، وهي تعني العمل على إخضاع غرائز النفس لما تمليه قرارات العقل، ولكن المشكلة بقيت في جملتها قائمة، لأن معظم الوسائل التربوية كانت -ولا تزال- وسائل عقلانية تخاطب الوعي والفكر، والمشكلة لا تكمن في عجز العقل عن الإدراك، وإنما تكمن في هيمنة الغرائز النفسية على العواطف والوجدان. وإنما يكمن الحل في هذا الذي سنقوله هنا.

العقل والوجدان وأثرهما في سلوك الإنسان

الآن.. وقد عرفنا أن الإنسان كيان ذو حقيقتين: العقل الذي يكون به الإدراك، والوجدان الذي هو مصدر الحب والكراهية والتعظيم. فلنعلم إذن، أن هاتين الحقيقتين هما الجناحان اللذان لا يرقى الإنسان إلا بهما إلى مرضاة الله جل جلاله. أي فلا يتحقق بلوغ مرضاة الله تعالى بالعقل وحده ولا بالحب وحده، وإنما يتحقق ذلك باجتماع كل منهما على النهج الذي رسمه بيان الله في محكم تنـزيله. كثيرون هم الذين عرفوا الله بعقولهم واستدلوا على وجوده ووحدانيته بعلومهم، ولكن عواطفهم القلبية بقيت مستلبة لصالح الرعونات والغرائز النفسية، فلم تفدهم عقولهم وعلومهم شيئا ولم يتقربوا إلى الله بذلك كله شروى نقير. وكثيرون هم الذين توجهت عواطفهم بالحب إلى الله جل جلاله، ولكن عقولهم ظلت بحاجة إلى معرفة حقائق الدين وأحكامه وضوابط السلوك في حياة المؤمنين، فلم تفدهم عواطفهم الإسلامية شيئا بل تحولت في حياتهم السلوكية إلى عواصف وسلوكات خاطئة شاردة عن ضوابط الدين وأحكامه. ولنعلم أن الوظيفة التي حمّل الله عباده مسؤولية النهوض بها تتلخص في أن على الإنسان أن يجعل عواطفه من حب وكراهة وخوف وتعظيم تابعة لقرارات العقل وأحكامه، بأن يحب ما يدعو إليه العقل وأن يكره ما يحذّر منه العقل.
وليس في العقلاء من لا يدّله عقله على وجود الله وعلى أنه متصف بكل صفات الكمال، منـزه عن كل صفات النقصان، ومن ثم فإنه ليس في العقلاء من لا يبصّره عقله بهويته عبدا مملوكاً لله، ولكن عواطف الإنسان تكون في الغالب مجندة لرغائب النفس ورعوناتها وأهوائها. ومن ثم فإن ذلك يحول دون الاعتراف بقرارات العقل وأحكامه. إذن، فمشكلة توجه الإنسان بفكره وسلوكه إلى الله لا تكمن في العقل ووعيه، بل إن مشكلته محلولة، لأن إدراك العقل للحقائق عملية آلية لا اختيار له فيها. إن العقل لا يملك أن يختار عدم الإدراك للقضايا الموضوعة أمامه ما دامت موضوعة تحت بصيرته وإن كان صاحب العقل يملك أن يتجاهل القرار الذي وصل إليه عقله.
فأين تكمن إذن مشكلة توجه الإنسان إلى الله؟
إنها تكمن في أن العاطفة التي هي الوقود المحرك لأنشطة الإنسان، تكون في الغالب مستلبة لصالح الرعونات والأهواء النفسية. ما فائدة أن يؤمن العقل بالله إذا كانت محبة القلب لرغائب الشهوات النفسية وملذاتها الحيوانية؟ وقد علمنا قبل قليل أن العقل ليس أكثر من مصباح كاشف، أما الدفع والتحريك فلعواطف الحب والخوف والتعظيم.

عوامل الحب ثلاثة

والسؤال المترتب على هذا هو: فكيف السبيل إلى أن تتحرر العواطف الإنسانية من أسر الرعونات والأهواء النفسية وأن تتحول فتصبح مجندة لمحبة الله والخوف منه والتعظيم له؟ أي كيف السبيل إلى أن نكون ممن قال الله عنهم: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾(المائدة:54). ونلاحظ أنه جل جلاله لم يقل: “فسوف يأتي الله بقوم لا يرتابون في وجوده ووحدانيته”، لأن المشكلة لا تكمن في الارتياب أو عدم الارتياب العقلي، وإنما تكمن في الحب إذ يكون متجها إلى الله أو إلى غير الله جل جلاله.
والجواب يحتاج إلى تفصيل طويل الذيل، ولكنه يتلخص فيما يلي:
عوامل الحب في حياة الإنسان ثلاثة لا مزيد عليها: إحسان يأسر القلب، أو جمال يأخذ بمجامع النفس، أو عظمة تبهر الوجدان. وهذه العوامل الثلاثة موجودة في ذات الله جل جلاله، غير أن الغفلة التي تحيق بالإنسان تجعله يتيه عن ذلك.
ونحن هنا إنما نتحدث عمن آمن بالله جل جلاله إيمانا حقيقيا بمقتضى الدلائل العقلية والعلمية؛ من هو المحسن الذي تفد إلى الإنسان في كل لحظة منائحه وإنعامه؟ لا يرتاب ذو عقل آمن بألوهية الله بأن المحسن الأوحد إلى الإنسان في الكون إنما هو الله؛ هو الذي ينيمك إذا تمددت على سريرك في انتظار نعمة الرقاد، وهو الذي يوقظك إذا أخذت حظك الكافي من هذه الإجازة الربانية، وهو الذي ينقيك من شوائب السموم ويطهرك من أوضارها إذا دخلت الحمام، وهو الذي أنجدك بالماء الذي تحققت فيه عوامل التطهير، وهو الذي إذا جلست إلى مائدة الطعام أنعم عليك بكل ما لذ وطاب فوقها، إن جميع ذلك ليس إلا حصيلة سماء أمطرت وأرض أنبتت وأنعام سخر الله لك لحومها والألبان التي في ضروعها، وهو الذي يمدك بالعافية ومقومتها لحظة فلحظة. فإذا تذكرت هذه النعم وأضعافها التي تفد إليك وربطتها بالمنعم المتفضل جل جلاله، تفجرت في قلبك من هذه المشاعر محبة عارمة لهذا الذي يتوالى إليك إكرامه ولا تنقطع عنك مننه.
ثم من هو الجميل الذي لم تتفرع صور الجمال كلها إلا من جماله؟ لا يرتاب أيضا ذو عقل سبق أن آمن بألوهية الله في أن مصدر الجمال كله بشتى صوره وأنواعه إنما هو الله جل جلاله. فمن كان من شأنه أن تأسر صور الجمال المتنوعة لبه وأن تأخذ بمجامع نفسه، وكان ممن عرف الله وآمن به، لابد أن تهيمن عليه محبة خالق الجمال في الكون ومبدع الرائحة في العطر، ومفجر العبق في الزهر ومنسق الألوان في الورد. وهل هو إلا الله جل جلاله؟ هل من خالق غير الله؟ أما الذين تأسرهم مظاهر العظمة والهيبة والكبرياء، فلن يجدوا بعد الله عظيما لا تخرج الأكوان كلها عن قبضته ولا يفتر ملكوته عن التسبيح بحمده والدينونة لسلطانه، هو المسيّر لنواميس العالم كلها، أعطى كل شيء صورته التي أفرغه فيها، ثم أقامه على الوظيفة التي هداه إليها.
إذن فعوامل الحب الثلاثة لابد أن تسوق إلى محبة الله. لا يستثنى من هذا القرار إلا من لم يهتد إلى معرفة الله بعد.

نتائج محبة الله

والآن ما هي النتائج التي تحققها محبة الله في كيان الإنسان؟
إنها تحقق أولا طهارة النفس من آفة الضغائن والأحقاد ومشاعر الحسد والاستكبار على الآخرين. إن من توهج قلبه بمحبة الله جل جلاله، لا يبقى في جوانبه أي مكان لرعونات النفس وأهوائها الغريزية كالضغائن والشحناء ودوافع الظلم ونحوها. لأن هذه الرعونات إنما تثور في النفس بدافع من حب الذات والعصبية للـ”أنا” فإذا هيمنت محبة الله على النفس غابت محبة الذات وحل محلها الانشغال بمراقبة الله وذكره ومحاسبة النفس على ما يصدر عنها من سوء أو تقصير.
وإنها ثانياً تحقق معنى الأخوّة مع الآخرين من أفراد الأسرة الإنسانية. وبيان ذلك: أن الذي يحول دون مدّ جسور هذه الأخوّة بين أفراد الأسرة الإنسانية حواجزُ الضغائن والحقد والحسد والتنافس على المصالح والاستكبار على الآخرين. فإذا ذابت هذه الحواجز في ضرام محبة لله جل جلاله فلابد أن تتجلى في مكانها مشاعر الأخوة التي كانت غائبة عن الأذهان والمشاعر تحت تأثير تلك الرعونات والآفات النفسية.
أما النتيجة الثالثة التي تحققها محبة الإنسان لله، فهي شيوع صلة التراحم لاسيما بين الذين يتمتعون بوهج هذا الحب لله تعالى بين جوانحهم. عندما يتلاقى القلبان على معين صاف من محبة الله تعالى، فلابد لهذين القلبين أن يتآلفا وأن يتراحما، كيف لا وقد جمعهما الارتشاف من كأس واحدة هي محبة الذات الإلهيه؟ تأملوا في هذا الذي وصف الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إذ قال له: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾(آل عمران:159)، إنها الرحمة التي كان يعامل بها الآخرين وهي -فيما تقرره الآية- منحة له من رب العالمين، ولكن من أي طريق وصلت إليه هذه المنحة؟ إنها وصلت إليه عن طريق الحب الرباني المهيمن على قلبه، وهو حب متبادل بينه وبين مولاه جل جلاله. فبهذا الحب كان يعامل الناس أيا كانوا باللين واللطف، ولم يُعهد عنه أنه واجه أحدا من الناس بالغلظة أو الفظاظة.
والنتيجة الرابعة التي تثمرها محبة الإنسان لله الاندفاع إلى الموعظة والنصح والدعوة بعامل الشفقة والرحمة والغيرة. ذلك لأن حبه لله تعالى يدعوه إلى الانقياد لأوامره واتباع وصاياه وهو يقرأ فيما يقرأ من وصاياه وأوامره قوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل:125)، ولأنه يقرأ فيما يقرأ قرار تكريم الله للإنسان وأمره الملائكة بالسجود له متمثلا في شخص أبيه آدم. إذن، لابد أن يقوده حبه لله جل جلاله إلى تكريم من كرّمه الله وتبجيله، فإذا قام بواجب نصحه ودعوتِه إلى الحق وتحذيره من التوجه إلى الباطل، فإنما يقوم بذلك بدافع من حبه له وغيرته عليه والرحمة به. وهيهات أن يجتمع الحب الحقيقي لله مع الدعوة إلى الله بدافع من التعالي على من يلاحَقُون بالدعوة ويواجهون بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أو بدافع الانتقاص من مكانتهم أو التشهير بهم أو ابتغاء الوصول إلى مصالح شخصية أو مكاسب مادية لأنفسهم. وإن لنا في سيرة رسول الله ومواقفه من المشركين وأذاهم له واستكبارهم عليه، ما يجسد لك هذه الحقيقة ويضعنا أمام المزيد من نتائج محبة الإنسان لله جل جلاله.

محبة الله للإنسان أسبق من محبة الإنسان له

وبعد، فلنتسائل أيهما أسبق من الآخر: حب الله للإنسان أم حب الإنسان لله؟
والجواب أن مما لا ريب فيه أن محبة الله للإنسان أسبق من محبة الإنسان لله. والدليل الأول على ذلك قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة:54) فقد قرر البيان الإلهي محبته لهم قبل محبتهم له، أي فهم يحبونه بحبه سبحانه وتعالى لهم.
والدليل الثاني يتمثل في التكريم الذي أضفاه الله على الإنسان، إذ نسب روحه السارية في كيانه إلى ذاته العلية، وفي أمره الملائكة بالسجود له متمثلا في شخص أبيه آدم، وفي إعلانه البياني عن هذا التكريم بقوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(الإسراء:70)، والتكريم لا يكون إلا أثرا من آثار الحب. إذن، فقد كان حب الله للإنسان سابقا على حبه له. ثم إن مآل هذا التكريم إلى ما يقرره الإنسان ويصنعه بحق نفسه. فمن الناس من ازدادت مكانتهم عند الله علوا وتكريما، ومنهم من تدنّت بشكل جزئي، ومنهم من تحولت بهم إلى النقيض، فردهم الله -كما قال- أسفل السافلين. والمهم أن الإنسان -أيا كان- مكرّم في أصل نشأته عند الله، وذلك دليل على حبه السابق له.
ومما لا ريب فيه أن كل مسلم صادقٍ في إسلامه لابد أن يكون له نصيب من محبة الله له. وأقل ذلك ما يدل عليه إسلامه وإيمانه بالله جل جلاله. إذ لو لم يكن له عند الله من المنـزلة ما يستدعي انجذابه إلى الإسلام وتوجُّهَ قلبه إلى الإيمان، لما تمتع مظهره بتعاليمه، ولما سرت عقائده إلى قلبه. وصدق الله القائل: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ﴾(الحجرات:7). ثم إن المسلم تزداد منـزلته عند الله علوًّا، كلما ازداد صدقاً مع الله في إسلامه والتزاماً بأحكامه وأوامره.
وإذا علم أحدنا أن ما يشعر به من حب وتعظيم لله تعالى ليس إلا ثمرة محبة الله له ورحمته به وفضله عليه، فإن علمه هذا سيحول دون دخول شيء من التباهي أو العجب في نفسه، بل يشعر بمزيد من منة الله وفضله عليه. والشأن في هذا الشعور أن يزيده حبا لله وتعظيماً له وتعلقاً به. لقد أحبك الله فجذبك إليه وعرّفك على ذاته وحبب إليك الانقياد لأوامره، أفلا تنبعث في نفسك نشوة قدسية من هذا الشعور؟ ومن ثَمَّ أفلا تُلهِبُ هذه النشوة فؤادك بمزيد من الحب له؟ هذه النشوة هي التي دفعت امرأة صالحة كانت تخدم في دار رجل ثريّ أن تناجي ربها ليلا في سجودها قائلة: “أللهم إني أسألك بحبك لي أن ترحمني وتكرمني”. فسمع الرجل دعاءها وانتقدها قائلا: “ما أدراك أنه يحبك؟ أفلا قلت: أسألك بحبي لك؟” فقالت: “يا سيدي لولا حبه لي ما أيقظني في هذه الساعة، لولا حبه لي ما أوقفني بين يديه، لولا حبه لي ما أنطقني بهذه النجوى”.
فإذا عاد أحدنا إلى نفسه، وشعر بأن شعاعا من محبة الله يسري إلى قلبه، ونظر فوجد أن الله قد أقامه من شؤون الحياة ووظائفها فيما يرضيه وصرفه عما لا يرضيه، فلترقص الفرحة بين جوانحه، إذ كان -وهو التافه الحقير- مكانا لعناية الله به والتفاته إليه، وإقامته له مقام الوداد والقرب منه. أما إن عاد إلى نفسه فرآها محجوبة عن شمس الهداية، غارقة في ظلمات الأوهام، وعاد إلى سلوكه فرأى نفسه سجينا في أودية المعاصي والآثام، شاردا عن ساحة الطاعات والعبادات، فليعلم إذن، أن هذا هو عنوان منـزلته عند الله، وليعلم أنه إن طال به الوضع على هذه الحال، فإنما هو نذير شقاء دائم لا مردّ له ولا رجوع عنه. فإذا كانت ذاته عزيزة عليه، ولم تكن قد هانت عليه إلى درجة اللامبالاة، فليتدارك شأنه اليوم ولينتهز الفرصة التي لا تزال سانحة أمامه. سبيلُ هذا التدارك أن يدخل على الله من باب الفاقة والذل، وأن يشكو إليه حاله، وأن يعتذر إليه بضعفه وعجزه، وليناجه قائلا: “لئن طردتَني يا رب عن منازل تكريمك وعن مدارج توفيقك، فحاشاك أن تطردني من أبواب رحمتك المفتّحة أمام جميع عبادك. وها أنا يا سيدي قد وفدت إليك من بابك هذا، وارتميت بنفسي في أعتاب كرمك، وكلّي ضعف وعجز وذل وهوان، فاجعل من ضعفي المتهالك وذلي المنكسر شفيعاً لي بين يديك”.
ألا ولنعلم أننا إن تداركنا أمرنا فدخلنا على الله من هذا الباب، فلسوف يستجيب دعاءنا ويقبل رجاءنا ويذيقنا بَرْدَ ألطافه الخفية ومغفرته الواسعة. وصدق من قال: “الصلح بلمحة”.
أسأل الله تعالى أن يقينا من جنون الاستكبار عليه، وأن لا ينسينا مملوكيّتنا وعبوديتنا له، وأن يجعلنا دائما على ذكر من حالنا ساعة الرحيل عن هذه الحياة الدنيا.