يقولون ليلى في العراق مريضة فيا ليتني كنتُ الطبيبَ المداويا
مجنون ليلى
الأُم تخاطب ابنتها “ليلى”:
يا قمر الليالي… يا ندى الأسحار… يا رقيقةً كالورد… يا طاهرةً كالثلج… يا نقيّة كالطّل… يا أريجًا سماويَّ الشذى… يا فراشةً شرابُها الطُّهر، ورحيقها النور.. ليلى! يا حبّة الفؤاد… من قلبي الوجيع أُناديكِ… ومن روحي المتألّمة أسألكِ… ما بكِ يا ليلى؟…. يا لعَينَيكِ المطفأتين… ويا لـخَدَّيكِ الشاحبين… عاصف حُزْنٍ يجتاحُكِ… وأسًى دفينٌ يَلُفُّكِ… ظلمة غشيتكِ… وليلٌ ألْيَل طواكِ…!
من المدرسة جئتِ… وسريعًا إلى غرفتكِ دَلَفْتِ… وحقيبةَ كُتبُكِ على الأرض ألقيتِ… وَوجهَكِ بين يديك دَفَنتِ… وبالبكاء أجهشْتِ… ودمعًا غزيرًا سكبتِ… وآهاتٍ كثيراتٍ أطلقتِ… لماذا يا ليلى…؟ بحق الله قولي، ماذا دَهَاكِ… وأيُّ خَطبٍ اعتراكِ…؟!
ليلى:
أُمّاه… يا أُمّاه… إلى صدرك الحنون ضمّيني… وتحت جناحِ أُمُومَتِكِ آويـني… واغسليني وطهّريني… وإن شئتِ فاقتُليني… ومِن عاري خلّصيني… ليلى اليومَ أنقاض… شظايا إنسان… فُتَاتُ لؤلؤةٍ مسحوقة… لهب أحمر يلهبُ كياني… دخان شيطانيّ أسود يجتاح روحي… أدركيني يا أُمّي، أدركيني… دثّريني… وعن كلّ عينٍ احجُبيني… وفي التراب دسّيني… ليتني مِتُّ قبل هذا ونسيًا منسيًا كُنتُ وَدُفنتُ… وعن الأنظار توارَيتُ…!
من قارعة الطريق أخذوني وقيّدوني… كمّمُوا فمي… أوجعوني ضربًا… ذئبٌ عَوَى… ثم عَدَا وَسطَا… وكشَّر عن نابٍ ومِخلَبٍ… ولاَّغُ دَم… سفَّاح حُرمَة… خَطَّاف عِرض… ها أنَذِي بين يديك… كسيرة الجناح… مُحطَّمة النفس… مُلَوّثة الروح… مثلومة الشرف… فافعلي بي ما شئتِ…!
الأمُّ:
وَيْلمُّكِ يا ليلى… يَا لَهَولِ ما أسمع… ويا لفَجيعةِ ما أرى… تفَجّرْ يا قلبي أسًى… احْترقْ يا فؤادي ألَمًا… وانزفي يا روحي دمًا…!
أوّاهُ يا ليلى… أعَليكِ أنُوح…؟ أمْ على نفسي أنا نائحة..؟ يا برُوق السماء أبرُقي وارعُدِي وزمجري… وجَسَدَ ليلى حَمّمِي وطهري… وصدَأَ الروح الْسَعِي وامْسَحِي… وغاشياتِ العذابِ أحرقي… لَفَّ “ليلاي” عَاصِفٌ مجنون… غَادرٌ بالإثمِ مشحون… يا أيُّها الوَيلُ الوبيل: يا مغتال البسمات…. يا خانقَ الضحكات… يا مجَفِّفَ ماءِ الحياة… شابَت ليلى… صوَّحَت زهرة الحياة فيها… غَدَتْ خَلاَءً مهجورًا… وَجِذعًا منخورًا… وقلبًا مفطورًا… وروحًا مدحُورًا… وأمَلًا مقهورًا…!
رُحماكَ يا رَبُّ… ماذا أفعل…؟ وأيّ بابٍ أطرق…؟ وبِمَنْ ألتجي وأستجير؟.. على بَلْوانا يا ربُّ أعِنّا… وصبرًا ألهِمنا… وحَنَانًا من لَدُنكَ أعطِنَا… زَكِّنا… طهّرنا… وإيمانًا عظيمًا امْنحنا… داوِ جِرَاحاتِنَا… وعلى آلامِنَا قَوّنا…!
يخرج الطبيب من غرفة “ليلى” في عينين طافحتين بالدموع، فتستقبله الأمّ المفزوعة في جانب قصيّ من جوانب حديقة المنـزل.
الطبيب للأمّ:
“ليلاكِ” -سيدتي- فقدتْ إلى الأبد شهيّتها للحياة، انْطفأ حماسها… همدت روحها… فما جدواي إذن… وماجدوى دوائي وعلاجي… نحن الأطباء نأخذ بأيدي أولئك المرضى الراغبين بالحياة… المتشبثين بها… العاضّينَ عليها بالنواجذ… أمّا العازفون عنها… والصادّون عنها… فكيف نُعينهم… ومن أمراضهم نقيلهم…؟
ليلى -اليومَ- شلاّء الروح… كسيحة الإرادة… جامدة الأحاسيس… ميّتة المشاعر… وإلى أعماق عدمية سحيقة أخذتها لجج اليأس… وألقت بها إلى خلاءٍ نفسيٍّ ساكنٍ عديم النبض… إني أعلن -والألم يمضّنـي- عن إخفاقي في كل ما بذلته من جهدٍ لاستلال “ليلى” من عالم “اللاّمعنى” الذي دفَعتها إليه معاناتُها الجسدية والنفسية…!
الأُم في وَلَهٍ مخيف وأنينٍ يُقَطِّعُ نياط القلب:
ماتت ليلى!.. ليلى ماتت!.. فيا أرض اسكني ولَيلايَ فاحتضني… ويا سماءُ أبوابًا تفتحي وروحَ ليلى استقبلي…! يا عذَارَى التُّقى… حقًّا ماتَت ليلى…؟ يا صويحباتِ ليلى أين ليلاي بينَكُنّ…؟ هل طوَيتنّ بساط ليلى وإلى الأبد…؟ فلِم يَعُدْ لليلى بينكُنّ بساط…؟
وعلى الأرض خَرّت ساجدة… مجنونةً هي القبلاتُ التي قبّلت بها الأرض… تأوهت… زفَرَت… سَالَت دموعها… ذرفَت عَبَراتٍ حَرّى… اخْتَضّتْ نفْسُها… اخْتَلَجَ بَدَنُها… شَعَرَتْ وَكأنّ روح العالم يبكي في روحها… أنبياء وأولياء زاروا روحها في تلك السجدة الفريدة… ويد الله تلفُّ الكونَ وفي قلبها تضعه لكي يخفقا بالآلام معًا… ومأساة الأرض -كُلّ الأرض- لم تَعُد غير سطرٍ شاحبٍ في كتاب مأساتها الكبير… وفي شرود لُبٍّ وتيه نظرات تهتف بِمَن حولها:
خَلُّوا سبيلي… دعوني أضرب في الأرض وألاحق قبسي المنير… وأعْدو وراءَ ضوئي الشارد…!
وفي لحظة قدسية تنتبه إلى نفسها:
اشْكُري اللهَ -يا امرأة- الذي وهَبَكِ هذا القلب الكبير اللاّئق بهذا الألم العظيم…
وإذا بوجهها يشرق بابتسامة فيها توسل ورجاء… وبقلبها يومض فيه نور سكينةٍ ورحمة…!