قيم البيئة في القرآن والسنة

القيم تبني القناعات وتخاطب الضمير، وتخلق رقابة ذاتية للإنسان تجاه أفعاله وتصرفاته في البيئة المحيطة به، والقيم نجحت فيما فشلت فيه القوانين الزجرية القائمة على الرقابة الخارجية. والقيم الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، قريبة من الروح والوجدان محببة إلى القلوب، وتنسجم مع الفطرة البشرية والعقول السليمة. وقد حدد هذا المقال القيم الخاصة بالبيئة في القرآن والسنة، وقسمها إلى قيم الجمال، وقيم الاستخلاف والتسخير، وقيم المسؤولية والمحافظة على البيئة.

1- قيم الجمال

قيم الجمال في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كثيرة ومتعددة، تهدف إلى بيان الجانب الجمالي في الإسلام، باعتباره دينًا سماويًّا جاء لهداية البشرية وإرشادهم لكل ما هو جميل في الصفات والأفعال والأقوال والأحوال، وملبيًا لحاجات الإنسان الذي فُطر على حب الحُسن والجمال. فالجمال موجود في كلام الله تعالى، في كلماته ونظمه ومعناه، كما أن الناظر في النصوص الشرعية يجدها حافلة بمعاني الجمال بداية بخِلقة الإنسان وهيئته التي خلقه الله تعالى عليها.

وينبه القرآن الكريم على مظاهر الجمال في هذه البيئة التي هي مأوى الإنسان في الحياة الدنيا، جمال الكون عامة وجمال الأرض خاصة، حيث يقول الله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(الكهف:7)، فكل ما خلقه الله على الأرض، هو بقصد تزيينها وتهيئها لاستقبال الإنسان، يقول الله تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)(ق:6)؛ فالسماء أيضًا فيها زينة، والله تعالى هو الذي زينها كما زين الأرض وأحسن خلق الإنسان. وهذه الزينة مقصودة حتى يعيش الإنسان في سعادة، كما أن حب الجمال أمر طبيعي وغريزي في الإنسان.

والجمال مبثوث في الحيوانات أيضًا التي خلقها الله تعالى لنا، لكي نستفيد منها ونستعين بها على تذليل صعاب الحياة، بما للإنسان فيها من منافع الأكل والشرب والدفء، حيث يقول تعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ # وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)(النحل:5-6)، وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة. فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة، وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب؛ بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات، تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان.

لكي يستفيد الإنسان من الكون المسخر له، حددت النصوص الشرعية مجموعة من القيم الضابطة لتصرُّفه في الموارد البيئية، ومن هذه القيم، الوسطية والاعتدال.

والزينة موجودة في البحار أيضًا وما تحتويه من حلية اللؤلؤ والمرجان، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(النحل:14)؛ ففي البحر منافع للإنسان وفوائد منها الزينة والجمال. وفي مجال التجمل والتزين أَمَر الله تعالى بأخذ الزينة عند التوجه لِدُور العبادة في منظر تعبُّدي جميل، فقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)الأعراف:31). كما طلب تعالى من المسلمين مراعاة الجمال والحسن في المشي وفي رفع الصوت، لأن الإسراع في المشي أو البطء فيه مظهر غير لائق حضاريًّا، والمطلوب هو المشي في توسط واعتدال، ومثله التوسط في استعمال الصوت وعدم رفعه، لأن الأصوات العالية مزعجة، وهناك تلوث سمعي نتيجة الضجيج الناتج عن المحركات والآلات، لذلك قال الله تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(لقمان:19).

وفي ذلك مظهر اجتماعي راق، وبيان من الله تعالى لنعمه على العباد، وتبصرة لهم بمواطن الجمال في البيئة، وتنبيهًا لهم على ضرورة الحفاظ عليها وعلى الجانب الجمالي فيها، حتى لا تفسد هذه البيئة ويذهب جمالها، فتفسد حياة الإنسان ويصيبه الضنك والشقاء.

وقد أمر الله تعالى بالإحسان، ونهى عن الإفساد في الأرض، وخاطب الإنسان المسؤول عن البيئة وعن جمالها وخيراتها، لأنها مسخرة له بما فيها من الثروات المائية والنباتية والحيوانية. وبيان الجانب الجمالي في البيئة مقصود منه تنبيه الإنسان لهذا الجمال وعدم إغفاله، وأخذه بعين الاعتبار في إعمار الأرض وإصلاحها، وتنمية للذوق وصقلاً للملكات والمواهب في الإنسان للإبداع الجمالي في الحياة بما هي عبادة لله بمفهومها الواسع.

ونجد في السنة النبوية الشريفة حديثًا مستفيضًا عن قيم الجمال، وحثًّا عليها وبيانًا لها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله جميل يحب الجمال”؛ فينبه صلى الله عليه وسلم إلى قيمة الجمال في الحياة، وأنها مطلوبة من الإنسان، وأن الله تعالى يتصف بصفة الجمال في صفاته وأفعاله وله كل صفات الكمال والجمال، وهو تعالى يحب الجمال، والمؤمن مطالب بفعل ما يحبه الله تعالى والابتعاد عما يكره، وسياق الحديث هو بيان تحريم الكبر وذمه وتقبيحه.

ونجد قيمًا جمالية كثيرة في السنة النبوية تضيء لنا دروب الحياة، وترشدنا نحو نمط راق في السلوك اليومي الحضاري، مثل نهي  عن تلويث الطرق، فقال: “اتقوا اللعانين” قالوا: وما اللعانان؟ قال: “الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم” (وراه مسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضْعٌ وسبعونَ -أو بِضْعٌ وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان” (وراه البخاري).

والغاية من كل هذه الإرشادات والتوجيهات النبوية، هي أن تكون طرقنا وشوارعنا وأحياؤنا خالية من التلوث والنفايات المنغصة للحياة، وتبقى نقية جميلة مريحة في المشي، تبعث في النفس الاطمئنان والراحة والسكينة.

2- قيم التسخير والاستخلاف

لكي يستفيد الإنسان من الكون المسخر له، حددت النصوص الشرعية مجموعة من القيم الضابطة لتصرف الإنسان في الموارد البيئية، ومن هذه القيم الوسطية والاعتدال في الاستغلال. ومَن تأمل في النصوص الشرعية قرآنًا وسنة، يجدها تأمر بالوسطية والاعتدال في كل شيء. ومِن مبادئ الشريعة الإسلامية، اتباع الطريق المعتدل والمتوازن في التكليف. وهذه الوسطية شيمة الأمة المسلمة، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)(البقرة:143). ومعلوم أن تسخير الله تعالى الكون للإنسان واستخلافه في الأرض، قائم على سنن وقوانين ربانية صارمة، متى حاد عنها الإنسان وقع خلل واضطراب في حياة البشر.

إن الله تعالى خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض من أجل إعمارها وإصلاحها، بما له من مؤهلات الاستخلاف التي ليست لغيره من المخلوقات. كما خلق الله تعالى في الإنسان حب البقاء والخلد والتملك.. وهذه الغرائز تدفعه إلى العمل والجد وإعمار الأرض، وبذل كل طاقاته لإشباع غريزتي “الملك” و”الخلد”، وهاتان الغريزتان شكَّلتا المدخل الذي دخل منه إبليس لغواية آدم للأكل من الشجرة المحرمة عليه في الجنة.

قيم الجمال في القرآن والسنة النبوية، تهدف إلى بيان الجانب الجمالي في الإسلام، باعتباره دينًا سماويًّا جاء لهداية البشرية وإرشادهم لكل ما هو جميل في الصفات والأفعال والأقوال والأحوال.

وبالإضافة إلى هذه الغرائز التي أودعها الله في الإنسان، أمدَّه بدين قيِّم يتضمن منهجًا واضحًا للسير والعيش في هذه الأرض في هداية وسعادة، قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى)(طه:123)، وبهذا استخلف الله آدم عزوجل في الأرض واستعمره فيها.

وباستقراء نصوص القرآن والسنة النبوية، نجد عددًا كبيرًا من الأحاديث تأمر بكل ما من شأنه عمارة الأرض، بدأ بالحث على العمل والكدح، ومن ذلك قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(التوبة:105).

وفي السنة النبوية أيضًا، نجد الحث على عمارة الأرض وإحياء الأرض الموات، قال صلى الله عليه وسلم: “من أحيا أرضًا ميتة فهي له”، والأرض الميتة هي الأرض الخراب التي لا مالك لها ولا عمارة بها، وإحياؤها عمارتها، وفيه تشجيع على السعي في عمارة الأرض بما ينفع الخلق عمومًا. وفي حديث آخر حثَّ صلى الله عليه وسلم على زراعة الأرض وفعل الخير والإصلاح وإعمار الأرض، بما يحفظ للبيئة استمرارها وتوازنها، قال صلى الله عليه وسلم: “إنْ قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”؛ هنا يحض صلى الله عليه وسلم على فعل الخير ونفع الغير، وفي ذلك قيم الإيجابية والمبادرة.

3- قيم المسؤولية والمحافظة

تنبني قيم المحافظة على البيئة على أصل التكليف الأول، التي تفيد تكليف الإنسان بحمل الأمانة التي عجزت السماوات والأرض عن حملها. وتَحمُّل الإنسان لأمانة عمارة الأرض وإصلاحها، يفرض عليه الحفاظ على ما هو موجود في البيئة من نعم وموارد طبيعية وموارد صناعية اقتضتها منه طبيعته الاستخلافية وحاجاته الاجتماعية والمادية.

القيم تحتاج إلى بيانها وتقديمها للناشئة في المحاضن التربوية، بدءًا من الأسرة إلى المدرسة إلى المجتمع المدني.. لترتبط الأجيال بخالقها فتستمد منه الهداية ويصلح أمرها، وبصلاحها تصلح الأرض بما حوته من موارد بيئية.

وأول هذه القيم الخاصة بالمحافظة على البيئة ومسؤولية الإنسان عنها، هي قيمة الأمانة التي تحملها الإنسان، حيث قال الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب:72)، وهي أمانة حفظ حقوق الله وحقوق العباد، والحفاظ على موارد البيئة، من ضمن حقوق الله تعالى وحقوق الناس على بعضهم البعض أيضًا، لما يتوقف عليه حقهم في الحياة والمأكل والمشرب والمأوى. لقد جعل الله تعالى التكليف وتحمّل المسؤوليات في الأرض، لمن اتصف بحفظ الأمانة.

ومن قيم المحافظة، قيم الإصلاح في الأرض بصفة عامة، ولذلك جعل الله تعالى من صفات المؤمنين الصلاح والإصلاح، وقرن الإيمان بالعمل الصالح، وأمر بالإصلاح ونهى عن الفساد والإفساد، فقال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)(الأعراف:56). وجعل الله مهمة الإنبياء هي الإصلاح، فنبي الله شعيب عليه السلام يقول: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ)(هود:88)، والإصلاح يدفع عذاب الله وعقوباته ويجلب الأمن والاستقرار والنعم.

وبالرجوع إلى نصوص السنة النبوية، نجد قيم المحافظة على البيئة، بينة واضحة تفصل ما جاء في القرآن الكريم، ومنها المحافظة على مصادر المياه -خاصة من التلوث- وعدم الإسراف في استعماله، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تلويث المياه في الحديث فقال: “لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه”.

ونجد في السنة النبوية أيضًا الحفاظ على الحيوان وحمايته في أحاديث كثيرة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على نفر من الأنصار يرمون حمامة فقال: “لا تتخذوا الروح غرضًا”. وفي المقابل نجد في السنة النبوية الأمر بالحفاظ على الحيوانات والرفق بهم ورحمتهم، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثري من العطش، فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له”. قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ قال: “في كل كبد رطبة أجر”.

ومن المحافظة على البيئة الحفاظ على الصحة من الأمراض والأسقام، والأوبئة التي تنغص على الإنسان الحياة وتؤثر سلبًا على البيئة، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الوقاية من الأمراض -وخاصة المعدية منها- فقال: “إذا سمعتم بالوباء بأرض فلا تقدموا إليه، فإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه”.

لقد تناولنا بعضًا من القيم البيئية في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والنماذج التي ذكرناها في هذا الباب هي غيض من فيض، ومن يستقري هذه النصوص يجدها كثيرة جدًّا وغنية جدًّا، كما نؤكد على أهمية المدخل القيمي في معالجة قضايا البيئة ومشكلاتها المعاصرة، وقد رأينا أن استنطاق هذه النصوص يمدّنا بمجموعة من القيم والمبادئ الموجهة للسلوك البشري القويم. وأن البشرية اليوم تحتاج إلى هذه القيم الدينية، بعد أن جربت المداخل القانونية والزجرية وغيرها.

وهذه القيم تحتاج إلى بيانها وتقديمها للناشئة في المحاضن التربوية، بدءًا من الأسرة إلى المدرسة إلى المجتمع المدني.. لترتبط الأجيال بخالقها فتستمد منه الهداية ويصلح أمرها، وبصلاحها تصلح الأرض بما حوته من موارد بيئية.

 

(*) باحث في الدراسات القرآنية / المغرب.

المراجع

(1) التحرير والتنوير، لابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس 1997م.

(2) تفسير الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الفكر.

(3) التفسير الكبير، للإمام فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية، ببيروت، سنة النشر 2004م-1425هـ.

(4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، دار المعارف.

(5) الفوائد، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1973م.

(6) فيض القدير شرح الجامع الصغير، لمحمد عبد الرؤوف، المناوي، بيروت، دار المعرفة 1972.

(6) وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية ، للشيخ مناع خليل القطان، مجلة البحوث الإسلامية، ع1، سنة 1395هـ.