عندما يشعر المجتمع بمسؤوليته

عندما نجهد أنفسنا للوصول إلى حلول حول مشاكلنا الملحة يؤرقنا سؤال “كيف؟” دائما. مراكز الدعم المدرسي من الأفكار الرائعة التي نفذتها مجموعة “الخدمة” في تركيا بامتياز للوصول إلى الطبقات الفقيرة، والتفاعل الإيجابي معها، والرفع من مستواها، وإخراجها من الأجواء القاتمة التي تسودها مخاوف المستقبل.

كان لي العديد من الفرص للتعرف على تجربة “الخدمة” في تركيا من خلال المعاينات الميدانية التي شاركت فيها بنفسي في أوقات مختلفة مكّنتني من فهم المشروع من الناحية الفكرية والعملية.

عشوائيات إسطنبول

كان ذلك في صيف عام ٢٠١٢ عندما حططنا رحالنا في عشوائيات قضاء “مالتبه” بالجانب الآسيوي من مدينة إسطنبول. إسطنبول مدينة جميلة لا شك في ذلك، لكنها تعاني من العشوائيات العمرانية في كثير من مناطقها. الإسكانات العشوائية إشكال جميع المدن الكبرى في العالم.

الفقر نار محرقة، ورجال الخدمة إطفائيون شجعان، ما أن يروا حريقا في مكان حتى يهبوا لإطفائه وانتشال الضحايا من بين ألستنه.

كانت غايتنا من المجيء إلى هذه الأطراف الشعبية من قضاء “مالتبه” زيارة أحد مراكز الدعم المركزي الذي أسسه بعض رجالات “الخدمة”. سبق أن رأيت واحدا من هذه المراكز في منطقة غاية في الصعوبة بمدينة إسكندرون الواقعة في جنوبي تركيا، ورأيت الإنجاز الإنساني العظيم هناك، وكتبت عنه مقالا.

لكن العجيب أن أرى مراكز أخرى مماثلة هنا في إسطنبول، ملتقى الحضارات ودرة المدائن. وما الغرابة في ذلك؟ أليس الفقر أم المشاكل في عالمنا؟ الفقر نار محرقة، و”الخدمة” مؤسسة إطفاء، ورجال الخدمة مجموعة من الإطفائيين الشجعان، ما أن يروا حريقا في مكان حتى يهبوا لإطفائه وانتشال الضحايا من بين ألستنه.

الفقر قاسم مشترك لدى الشعوب كلها. اسم الحي “زمرد أولر”، أي منازل الزمرد، الاسم جميل يوحي بالثراء، لكن منازل الحي متعبة تكاد تتهاوي، الشوارع الضيقة والمتاجر الصغيرة المتواضعة تشعرك بأنك دخلت ناحية من نواحي الريف ولست في مدينة إسطنبول. واضح من الوجوه أن جلّ سكان الحي من النازحين من قرى وقصبات شرقي الأناضول.

مبادرة مجتمعية

توقفت سيارتنا إلى جانب عمارة ذات ثلاثة طوابق، سألت دليلنا عن العبارة المكتوبة على اللائحة المعلقة على الباب، فقال: “جمعية نيلوفر للتنمية والتضامن والتعليم، وتحتها مركز أحمد شلبي للدعم المدرسي”. فبادرت بالسؤال: إذن مراكز الدعم هذه تابعة لجمعيات؟” فقال دليلنا: نعم، لأنها عمل أهلي، وما تقوم به الجمعية من أنشطة قانوني مائة بالمائة، عملنا شفاف جدا، وليس عندنا ما نخفيه، بل عندنا ما يستحق الإعلان أمام الجميع حتى يعلمه الناس، فيقبل عليه البعض مستفيدا، ويقبل عليه البعض الآخر متضامنا مساعدا.

بعد قليل استقبلنا مدير المركز بوجه مرحب بشوش وأخذ يحدثنا عن المؤسسة: “انطلقت هذه المراكز بدافع الحاجة، الحاجة ولّدتها، لولا الحاجة الماسة إليها لما ظهرت، هذه المراكز جزء من الحلول التي أنتجها المجتمع بنفسه عندما رأى عجز الحكومة في حل الإشكال التعليمي في المناطق العشوائية، بعض أبناء المجتمع شعروا بالمسؤولية فانطلقوا بهذا الحل، والدولة رحبت بهم طبعا، لأنها رأت تحركهم هذا يسهم في حل إشكال حقيقي”.

سأله صديقي الصحفي: هل لك أن تعرّف لنا مراكز الدعم المدرسي بإيجاز، ما هو الفراغ الذي تسده في مثل هذه الأحياء؟

قال المدير بعد أن أدخلنا إلى غرفته المتواضعة في الدور الأول من العمارة:

“مراكز الدعم المدرسي عبارة عن مؤسسات تربوية مدنية تتموقع في الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية بغرض توفير دروس تقوية للطلبة الفقراء في المستوى الإعدادي بالأخص، وذلك في أوقات خارج الدراسة النظامية. مراكز الدعم المدرسي ليست مدارس نظامية، إنما هي داعمة للتدريس النظامي، تقدم دورات مساندة للتلاميذ. وهي مؤسسات مجانية أو شبه مجانية تؤسس من قبل جمعيات أهلية تحمل هم بناء الإنسان وتربيته وتأهيله علميا وتربويا”.

حلول محلية لإشكال محلي

توقف المدير عن الكلام لحظات ليفسح فرصة لأحد الشباب حتى يوزع علينا قهوة تركية فاحت رائحتها الذكية في أرجاء الحجرة:

“اسمحوا لي أن أوضح لكم الصورة أكثر، إن مجموعة من التجار ورجال الأعمال الذين اقتنعوا بأفكار الأستاذ فتح الله كولن هنا في منطقة “مالتبه” أسسوا جمعية نيلوفر للتنمية والتضامن والتعليم بغرض إطلاق سلسلة من مراكز الدعم المدرسي في كافة الأحياء الشعبية بمنطقة “مالتبه”. هدفهم أن يغطوا كافة المناطق العشوائية في هذه القضاء. فتحوا إلى الآن عشرة مراكز يستفيد منها حوالي ٣ آلاف تلميذ”.

سألته: وهل يفكرون في أن يفتحوا مراكز في مناطق أخرى من إسطنبول؟

المراكز أحد الحلول التي أنتجها المجتمع عندما رأى عجز الحكومة في حل الإشكال التعليمي في المناطق العشوائية.

قال: “حاليا لا، إنهم مسؤولون عن قضائهم، هذه ثقافة “الخدمة”، إنهم يعيشون في مالتبه، يتكفلون بفتح مراكز في “مالتبه”، أما المناطق الأخرى فلها أهلها وهم سيقومون بمسؤولياتهم تجاه أحيائهم هناك. الفكرة هنا أن يزرع كل واحد في منطقته، أن يحيي كل واحد أرضه، أن يساعد أهله الذين يعيش معهم، أن يسهم في بناء حيه وتنميته، أموال الحي تبقى في الحي، تساعد أبناء الحي. أما الأحياء الأخرى فنشجعهم على أن يفعلوا مثلنا، نحن نضرب لهم مثالا، نضع لهم نموذجا، نفيدهم من خبرتنا بسخاء، لكن عليهم أن يساعدوا أنفسهم بأنفسهم. هذه هي فكرة “الخدمة”، أن تحقق النهوض بذاتك وإرادتك، لا أن تكون عالة على الآخرين أو أن تنتظر منقذا من الخارج”.

في الحقيقة أعجبت بالفكرة أيما إعجاب. تعلّم كيف تنهض بنفسك، كيف تفجّر مكامن طاقتك، كيف تساعد أهلك وأبناء حيك، كيف تنهض على قدميك بثقة. أن يسعى كل أحد إلى إحياء أرضه وبنائها… فكرة رائعة كشفت لي عن إجابة سؤال كبير كان يساورني وهو “كيف لحركة الخدمة أن يكون لها هذا الكم الهائل من المؤسسات التربوية؟”

لقد عرفت اليوم طرفا من الجواب: “كل حي يبني مدرسته بنفسه، كل حي يتكفل ببناء مركزه، كل حي يقوم بحاجة نفسه”. فكرة في غاية البساطة، لكن تحتاج إلى تنفيذ فقط، ليتنا فعلنا…

عندما يعلم الإنسان أن سياسات الحكومة التركية حاليا استهدفت هذه الأفكار ومن يحمل هذه الأفكار في تركيا، وأغلقت هذه المؤسسات، واعتقلت هؤلاء التجار ورجال الأعمال وصادرت ممتلكاتهم بتهمة الإرهاب يشعر بألم حارق، لأنها طعنة في قلب المجتمع، تقتل روح المبادرة لديه، واحسرتاه على حدائقنا التي نبددها بلا رحمة!..

على كل حال عندي أسئلة كثيرة حول مراكز الدعم المدرسي سألتها للقائمين عليها وحصلت على إجابات عجيبة حلت في ذهني ألغازا عديدة، سأذكر طرفا منها في المقال القادم.

مفاتيح المقال:

رجال الخدمة مجموعة من الإطفائيين الشجعان.
مراكز الدعم المدرسي منضبطة بالقوانين المرعية، حريصة على الشفافية.
انطلقت مراكز الدعم المدرسي بدافع الحاجة.
مراكز الدعم مجانية أو شبه مجانية تؤسسها جمعيات أهلية تحمل همّ بناء الإنسان علميا وتربويا.
كل حي يتكفل ببناء مركزه بنفسه، كل حي يقوم بحاجة نفسه.