لقد كان للمصلحين دور هام في التصدي لظاهرة الانحراف الفكري غلوًّا وتفريطًا، والتعامل معها من خلال الاستهداء بالكتاب والسنة، وتتبع مبادئهما للقضاء على هذا الأمر في مهده.

ومن أبرز من تعاملوا مع هذه الظاهرة في وقتنا الحاضر، المجدد الداعية والمصلح التركي الأستاذ محمد فتح الله كولن، فقد وفقه الله مع مجموعة من رجال “الخدمة” الذين انطلقوا معه في سبعينيات القرن الماضي في إنجاز مشاريع وتأسيس مؤسسات في أكثر من مائة وستين دولة حول العالم، ما بين مدارس حديثة، وآلافٍ من مراكز الدعم المدرسي والمراكز الشبابية، وعشرات الجامعات والمستشفيات والمنظمات الإغاثية.

وهذه المؤسسات والحلقات التطوعية التي تشكلت حولها، استفادت من الشباب الموهوبين، والشباب المتخصصين، معلمين ومرشدين، تربويين ومدربين ومساعدين.. فمكّنتهم من أن يحققوا لأنفسهم شخصيات سليمة متوازنة، وينمّوا لديهم شعورًا بالانتماء الإيجابي، ويعيشوا من أجل أهداف إنسانية نبيلة.

ومن أجل ذلك، لم تتمكن مجموعات التطرف من أن تؤثِّر على هؤلاء الشباب الذين شاركوا في مشاريع “الخدمة”، ولم تستطع أن تورِّطهم في أيِّ عمل من أعمال العنف والإرهاب قط. فهذه المؤسسات استطاعت أن تعلِّم شبابها عدة لغات أجنبية، ورتَّبت لهم رحلات ثقافية إلى بلدان مختلفة، الأمر الذي نمَّى عندهم قابلية معرفة العالم وفهم الآخرين والتفكير المرن والقراءة التحليلية النقدية. فتعزز لديهم نظام المناعة إزاء الأفكار المنحرفة التي يحاول المتطرفون غرسها في عقول الشباب والناشئة، واطلعوا -عبر برامج تربوية من جهة ومشاريع عملية من جهة أخرى- على طريق إيجابي بديل للسير فيه.

ذلك هو الجانب الذي مارسه الأستاذ كولن هو ورفاقه تطبيقيًّا منذ حقبة السبيعينات، وسوف نستعرض الآن بعضًا من المقترحات التي قدمها في مقال له بعنوان: “لكيلا يكون شبابنا فريسة للتنظيمات الإرهابية”(1) نُشر في مجلة بوليتيكو الأمريكية بتاريخ ٨ يونيو ٢٠١٧ بمناسبة الهجمات الإرهابية الدامية التي استهدفت مدينتي لندن ومانشستر، وتبناها تنظيم داعش الذي يطلق على نفسه “الدولة الإسلامية”. فمن تلك المقترحات ما يلي:

1- التوصيف الدقيق لهذه التنظيمات إعلاميًّا

فهذه التنظيمات تطلق على نفسها أسماء براقة وتستخدم شعارات لافتة، وتتمسح باسم الإسلام والإسلام منها براء، ومع ذلك يجاريها الإعلام ويستخدم نفس المسميات الإسلامية التي تطلقها على نفسها، لذلك يرى الأستاذ كولن، وجوب تسميتها التسمية اللائقة بها حتى تتضح حقيقتها للعيان، واقترح لذلك أن يطلق عليها: “شبكات الإجرام التي تجاوزت حدود الإنسانية”، خاصة مع قيامها بعديد من عمليات إرهابية سابقة راح ضحيتها مدنيون أبرياء في مناطق مختلفة من العالم، ومن ثم ينبغي ألاّ ترتبط هذه التنظيمات بأي دين أو قومية أو طائفة، بل ينبغي أن توصف بأنها خارج نطاق الإنسانية.

إن الشباب طاقة وقوة هادرة، وإذا لم تستوعب هذه الطاقات في مسارات إيجابية وفضاءات إنسانية مشتركة، فسوف يفرغونها في انحراف فكري أو سلوكي، غلوًا وتعصبًا أو تفريطًا وانحلالاً وتهاونًا.

2- وقفة مسلمي العالم وقفة جادة

نصح الأستاذ كولن في هذا المقال مسلمي العالم، بضرورة أن يقفوا وقفة جادة إن أرادوا قطع شرايين الحياة لهذه التنظيمات الإرهابية، إلى جانب التدابير الأمنية والاستخباراتية. فهذه التنظيمات تشوه وجه الإسلام الناصع المشرق بالتمسّح في اسمه، وتستخدم الدين أداة لتحقيق أغراضها السياسية، زاعمة أنها ترفع من قدره، ومن ثم كان لزامًا على المسلمين أن ينفروا كافة للحيلولة دون نشر ضلالاتهم، وترويج ادعاءاتهم، والتغرير بناشئة الأمة.

3- القضاء على أشكال التمييز والتهميش والإقصاء الاجتماعي على مستوى الدول والمجتمعات

لقد نبه الأستاذ كولن على أن أهم عامل تستخدمه هذه التنظيمات في الترويج لأفكارها، هو خداع عقول الشباب وجرّهم إلى شباكها من خلال شعارات إسلامية براقة، ومن ثم يجب حرمانها من هذه الأرضية، ليس بالاعتماد على الحلول الأمنية فحسب، بل يجب أن تتضمن الحلول التي تتصدى لهذه الظاهرة أوجهًا متعددة. وأهم تلك الأوجه:

القضاء على أشكال التمييز والتهميش والإقصاء الاجتماعي على مستوى الدول والمجتمعات، فداعش وأمثالها من التنظيمات الإرهابية، يلعبون على عواطف الشباب الذين يشعرون بالتهميش والإقصاء في مجتمعاتهم، ويضعون أمامهم غايات ذات مظهر نبيل، ويشعرونهم بالانتماء فيحوّلونهم إلى انتحاريين لأيديولوجية شمولية سلطوية. وأوصى في هذا الصدد أن يتم ذلك من خلال تفعيل دور المنظمات الدولية ضد الأنظمة التي تمارس انتهاكات وترتكب مظالم في حق شعوبها كما هو الحاصل في سوريا اليوم، وغيرها من المناطق.

كما شدد على ضرورة أن تنتهج الأنظمة الغربية في سياستها الخارجية نهجًا أكثر أخلاقية ومصداقية وتماسكًا، وأن يقوم المسلمون بمسؤولياتهم في الجهود التي تبذل على نطاق واسع لتحقيق ذلك.

4- التصدي لهذه التنظيمات في ساحة الفكر

إن هزيمة المتطرفين -الذين يرون العنف مشروعًا- في ساحة الفكر، من أهم الخطوات التي أكد الأستاذ كولن على ضرورة القيام بها للقضاء على هذه الظاهرة.

وقد أشار في مقاله إلى بعض الأخطاء التي يمارسها هؤلاء في فهم الدين وتطبيقه ومنها:

– اجتزاء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من سياقها، وتأويلها بما يخدم أغراضهم الدموية التي حددوها مسبقًا.

– محاولة النقل الحرفي للأحكام الدينية التي تم تطبيقها في القرون الوسطى -حيث كان الاختلاف الديني يُستخدم أداة للصراعات السياسية- إلى القرن الواحد والعشرين. بينما الفرصة اليوم متاحة للمسلمين لكي يمارسوا أنشطتهم الدينية في البلدان الديمقراطية بكل حرية.

وأوصى في هذا الصدد، بضرورة العمل على وضع منهاج تربوي متكامل يراعى فيه ما يلي:

أ- تدريب الأجيال على قراءة التراث الديني بنظرة كلية شاملة.

بـ- تعليمهم كيف يفهمون الروايات والنصوص الدينية وفق سياقها.

جـ- تدريبهم على استيعاب روح القرآن الكريم وفلسفة السيرة النبوية، حتى يتمكنوا من مجابهة تأويلات المتطرفين المضلِّلة الخادعة.

د- ضرورة أن يتضمن هذا المنهج الإعلاء من قيمة الإنسان، على أساس أنه آية من آيات الله تعالى.

هـ- ضرورة إسهام الدول الغربية -التي يعيش فيها مسلمون- في حل هذا الإشكال من خلال توسيع الحريات الدينية وضمانها.

5- استيعاب طاقات الشباب في فضاءات إيجابية

إن الشباب طاقة وقوة هادرة، وإذا لم تستوعب هذه الطاقات في مسارات إيجابية وفضاءات إنسانية مشتركة، فسوف يفرغونها في انحراف فكري أو سلوكي، غلوًّا وتعصبًا أو تفريطًا وانحلالاً وتهاونًا، ومن ثم أوصى الأستاذ كولن بأن نلبي احتياجات شبابنا الاجتماعية من خلال حلول إيجابية، نوفر لهم فيها فضاءات مناسبة تستوعب طاقاتهم بصورة إيجابية بناءة.

ولخبرته هو وجماعته في هذا الميدان، اقترح أشكالاً لهذه الفضاءات منها:

تحفيز الشباب في التطوع على شكل مجموعات، والمشاركة في مشاريع إنسانية هامة يساعدون فيها ضحايا الحروب والكوارث الإنسانية والطبيعية المختلفة.

وأوضح أن هذه المشاريع الإنسانية، ستساعد على تخفيف آلام المتضررين من ناحية، وتشعر المتطوعين الشباب بالأهمية والسعادة من ناحية أخرى، لأنهم أصبحوا جزءًا من مشروع إنساني حيوي.

كما سيعزز العمل المشترك في مشاريع إنسانية كهذه -مع أفراد ينتمون إلى أديان أخرى- فرص الحوار المشترك، ويبعث في القلوب مشاعر الاحترام المتبادل. وبفضل هذا النوع من التواصل والعمل المشترك، سيتمكن شبابنا من استيعاب حقيقة أنهم جزء من الأسرة الإنسانية الكبرى كذلك، وليسوا أعضاء في الفئة العقدية التي ينتمون إليها فحسب. وهكذا، فإن جميع الفعاليات الإيجابية التي تقوم بها مجموعات مشتركة على هذا النحو، سوف تساعد الشباب على أن يؤسسوا لأنفسهم شخصيات سليمة وانتماءات إيجابية.

الهامش

(1) مواقف في زمن المحنة حوارات إعلامية مع فتح الله كولن، إعداد: صابر المشرفي، نوزاد صواش، دار النيل للطباعة والنشر، ص:291، ط1، القاهرة 2017م.