رد الاستدلال المجتَزأ إلى الاستدلال الشامل

إن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها العاجزون عن تنقية الاجتهادات البشرية في فهم الوحي من الكتاب والسنة، هو الوقوع تحت أسر النصّ الواحد دون استيعاب النظر إلى سياقه الخاص وإلى سياقه العام ضمن الوحيين كاملين.
ومن المعلوم في أصول الفقه الإسلامي، التي عمل بها فقهاء المسلمين جميعُهم تطبيقًا لقواعدها ومناهجها منذ جيل الصحابة رضي الله عنهم إلى يوم الناس هذا، والتي بدأ تدوينُها في نهاية القرن الهجري الثاني على يدَي الإمام الشافعي (ت204هـ) في كتابه “الرسالة”، “أن السياق من أكبر الأمور تأثيرًا على فهم النص، وهي سياقات متعدّدة تبدأ بسياق الآية ولِحاقها -الآية التي قبلها والتي بعدها- وتمر بسبب نزول الآية، ثم بموضوع السورة، ومرورًا بزمن نزولها -مكيةً كانت أو مدنية- إلى سياق القرآن كله في الانطلاق من هدايته العامة وأهدافه الكبرى”.
وهذا يعني أن فهم نص الوحي لا يمكن أن يكون منهجُه صحيحًا إذا أغفل النظر في هذه السياقات جميعها، وأن هذا الخلل المنهجي مـتـفَـقٌ على كونه خللاً لدى جميع علماء الأمة.

إن “الجزية” في الإسلام، هي قدْرٌ من المال يفرضه الحاكمُ المسلم على غير المسلمين الذين يعيشون في بلاد المسلمين، لا يكون فيه إضرار ولا إجحاف بهم.

ومن هنا يتبيّن أن من اكتفى بظاهر آية مقتطعةٍ عن تلك السياقات، سيقع غالبًا في خلل منهجي في فهم القرآن الكريم، وعندها يجب عدم الرضوخ لاجتهاد هذا المخطئ، مع أنه يستدل لاجتهاده بوحي الله تعالى.
ومن أخطاء تراثنا التي غفلت عن هذه الحقيقة، الخلل الذي وقع في فهم قوله تعالى عن الجزية: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)(التوبة:29).
وسأقتصر في هذا الموطن، على نقاش الجزء المتعلق بالجزية، أعني قوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)، وما المقصود بالصَّغار الوارد في الآية.

الجزية في الإسلام

وقبل بيان الخلل الذي وقع في تراثنا في فهم هذا الجزء من الآية، نريد أن نعرِّف بـالجزية ومكانتها في الإسلام.
إن “الجزية” في الإسلام، هي قدْرٌ من المال يفرضه الحاكمُ المسلم على غير المسلمين الذين يعيشون في بلاد المسلمين، لا يكون فيه إضرار ولا إجحاف بهم، والمقصود من فرضها على غير المسلمين؛ أن تكون دليلاً على رضوخهم لحكم دولة الإسلام.
كما أن “الجزية” من وجهٍ آخر تشبه الضرائب في الدولة العصرية، وهي المال الذي يقدمه القادر من المواطنين إلى الدولة مقابل بعض الخدمات التي تُقدمها لهم. والمسلمون في الدولة الإسلامية تجب عليهم الزكاة، ويجب عليهم حماية الدولة والدفاع عنها وأُسقط ذلك عن غير المسلمين، فجاءت الجزية على غير المسلمين لتكون مقابلاً ماديًّا لقاء حمايتهم ولقاء تمتعهم بالمنافع التي تقدمها الدولة الإسلامية لرعاياها من جميع الأديان مع ما فيها من معنى رمزي، وهو أنها إعلان لخضوعهم للدولة الإسلامية ولأحكامها.
ولكون الجزية لم تُضرب على أهل الذمّة إضرارًا بهم، فإنها لا تؤخذ أصلاً من صبيّ ولا امرأة ولا من مجنون، ولا تؤخذ الجزية من الفقير، بل إن الفقير من أهل الذمّة يُرزق من بيت مال المسلمين، ولا تؤخذ الجزية من شيخ فانٍ ولا أعمى ولا مريض لا يُرجى بُرْؤه حتى وإن كانوا جميعًا أغنياء، ولا تؤخذ الجزية من الرهبان المنقطعين للعبادة، ولا تؤخذ من الفلاحين الذين لا يُقاتلون.

الصَّغار وكيف نفهمه؟

ومع أنني لست في سياق شرح تشريع الجزية ومعناها، لكن إنما ذكرت المختصر السابق عنها تمهيدًا لبيان معنى “الصَّغار” الذي ورد في الآية، لبيان صورة من صور الخطأ الذي وقع في بعض تراثنا الاجتهادي في فهمه، وكيف يمكن تصحيحه؟ وكيف وقف العلماء من هذا الاجتهاد الخاطئ؟
إذن ما هو معنى “الصَّغار” الذي جاء في قوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)؟
لقد ذهبت بعض اجتهادات علمائنا السابقين أن المقصود بـالصَّغار: القهر والإذلال، ولذلك صرَّحوا بصور من هذا الإذلال، وهي صورٌ لم يدلّ عليها دليل من الكتاب والسنة. ولذلك ردّ عليهم فقهاء آخرون، وبيّنوا أن تلك الصور ليست من دين الله تعالى في شيء، وأن المقصود بالصَّغار الوارد في الآية هو الرضوخ لحكم الإسلام فقط.
فانظر كيف وقع بعض العلماء في خطأ الفهم لما استقلَّ نظرُهم في لفظةٍ من آية “الصَّغار”، واجتزؤوها من بين نصوص الوحي وقواعده الكلية، وذهلوا عن تطبيقات النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وذهلوا عن نصوص كثيرة توصي بأهل الذمة وتحرّم إهانتهم وإذلالهم.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنكم ستفحتون أرضًا يُذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإنّ لهم ذِمّةً ورحِمًا” (رواه مسلم).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أُوصي الخليفة من بعدي بذمّة الله وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوَفَّى لهم بعهدهم، وأن يُقاتَل مِنْ ورائهم، وأن لا يكلَّفُوا فوق طاقتهم”.

إن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها العاجزون عن تنقية الاجتهادات البشرية في فهم الوحي من الكتاب والسنة، هو الوقوع تحت أسر النصّ الواحد دون استيعاب النظر إلى سياقه الخاص.

وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل لم يُحِلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضَرْبَ نسائهم، ولا أكلَ ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم” (رواه أبو داود).
فأين هذه النصوص الواضحة التي تنهى عن ظلم أهل الذمة وعن إذلالهم ممن تمسك بظاهر لفظة من آية؛ ليجعلها دالة على ما يخالف مثل هذه النصوص؟!
تفسير الإمام الشافعي للصَّغار
فانظر أولاً بماذا فسَّر الإمام الشافعي هذا الصَّغار تفسيرًا موافقًا للاستدلال الشامل غير المجتزئ؛ حيث قال الإمام الشافعي في كتابه “الأم”: “وسمعتُ عددًا من أهل العلم يقولون “الصَّغارُ” أنْ يَجري عليهم حكْمُ الإسلام”.
فالصَّغار عند الإمام الشافعي ليس هو إذلالهم، بل هو خضوعهم لأحكام الدولة التي ارتضوا العيش فيها، وارتضوا احترام قانونها الإسلامي العام، مع حفظ حقهم هم في حرية البقاء على دينهم (حرية الاعتقاد) وفي التزام أحكام دينهم فيما بينهم (حرية ممارسة الشعائر فيما بينهم). وهنا ينقل الإمامُ الشافعي الفهم المستقرّ عند عددٍ من علماء السلف -من أتباع التابعين- لـلصَّغار الوارد في نصّ الآية، ويذكرُ تصوّرَهم الفقهي للمراد منه، ثم يرتضي الإمام الشافعي هذا التفسير والتصوّرَ منهم، بل لا يحكي فيه خلافًا عن أحدٍ من علماء السلف، مما يدل على أن هذا هو الفهم الشائع المشتهر المستقر في ذلك الجيل الفاضل.
ولذلك لما فسّر بعضُ علماء الشافعية -منهم الإمام الغزالي- الصَّغارَ بأنه الذل والإهانة، تعقّبه الفقيهُ الشافعيُّ الإمام أبو عمرو ابن الصلاح (ت641هـ) بقوله: “ما ذكره من تفسير “الصَّغار” هو عند صاحب التهذيب وغيره خلافُ الأصحّ، وهو أيضًا خلافُ نصِّ الشافعي، فإنه نصّ على أن الصَّغار هو جريانُ أحكام الإسلام عليهم”.
وعندما ذكر بعض العلماء هيئةً مخصوصةً لتسليم الجزية تتضمَّن إذلالاً للذمي؛ تعقّب الإمام النووي هذه الهيئةَ بقوله: “قلتُ: هذه الهيئة المذكورة أولاً لا نعلم لها على هذا الوجه أصلاً معتمدًا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب: تؤخذ الجزية برفقٍ كأخذ الدُّيون.
فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على مَن اخترعها، ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدًا من الخلفاء الراشدين فعل شيئًا منها مع أخذهم الجزية. وقد قال الرافعي -رحمه الله- في أول كتاب الجزية: “الأصح عند الأصحاب تفسيرُ الصَّغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم”، وقالوا: “أشد الصَّغار على المرء أن يُحكَم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله”.
وفي ذلك يقول الإمام القرافي (ت684هـ): “إن عَقْد الذّمة يوجب حقوقًا علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا، وذمّةِ الله تعالى، وذمّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، ودِين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غِيبة في عِرْض أحدهم أو نوع من أنواع الأذيّة أو أعان على ذلك، فقد ضيّع ذمّة الله تعالى وذمّة رسوله وذمة دين الإسلام”.
وهكذا يتبيّن أن من وسائل تنقية التراث، إرجاع اجتهاداته التي تعتمد استدلالاً مجتزَءًا إلى بقية نصوص الشرع وقواعده القطعية.

(*) كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى/ المملكة العربية السعودية.