دروس راهنة من أداء فريضة التدبر

هل التفكير هو محض التعامل مع الظواهر الماثلة؟ وإن اتسع فمع الأفكار السابقة؟ وماذا كان أغنى رصيد الإنسان في إدراك معنى سعيه وكسبه، والعلم بهما معارف وعلوما إنسانية واجتماعية لو أنه اكتفى برصد ظاهر ما تراه عيناه؟ فاستغنى به عن تلك المحاولات الدؤوبة للغوص في الأعماق والتدبر في جوهر المعاني ولب القضايا والظواهر المتتابعة للحياة؟

لعل واحدة من أهم مشكلات “منهج” التفكير في عالم المسلمين اليوم، حيث استحكمت أزمات العقل والروح، منفعلة بمعضلات الاجتماع والحضارة، ومؤثرة في مسارهما، هي مشكلة “الظاهرية الجديدة” في النظر إلى الظواهر والأحداث والأفكار. إذ يكاد المشهد الراهن من تاريخ عالم المسلمين يُجمل في جملة واحدة هي: الانفعال بالصورة الأولية الذي يُفقد القدرة على النظر في الغايات والعواقب، والتدبر في المقاصد.
وإذا كان “فقه المآلات” في الأحكام الشرعية “متعلقًا بتقدير الفقيه عند اجتهاده أو حكمه لمآلات الأحكام والأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه”(1)، فكيف بالمتصدي للنظر في قضايا يحكم بها على عموم الناس ومصائر المجتمعات؟
لذلك يحسن البدء بالسؤال: ما التدبّر؟ وكيف يكون خُلُقًا يأمر به الوحي فيشير إليه القرآن؟ وكيف نمارس هذا الخلق إزاء واقعنا؟ هذا الذي ادلهمت فيه الخطوب وتزاحمت الأحداث بوتيرة تتأبى على المتابعة، فكيف بتدبر ما فيها وما إليه مآلها؟
التدبر معناه الإجمالي؛ النظر في عاقبة الأمر(2)، ولذلك يقولون عن المرء إذا أشكل عليه أمر، أي عظُم عليه فهمه إلى منتهاه وافتقد الأدوات اللازمة لإدراكه: “فلان لا يدري قِبال الأمر من دِباره”، ومن ذلك قول جرير:

ولا تتقون الشر حتى يصيبكم
ولا تعرفون الأمر إلا تدبرا

أيْ إلا بأثر رجعي كما يقول المصطلح القانوني الحديث.
والتدبر على صيغة “تفَعُّلٌ” بمعنى أنه فعل متواصل؛ سيرورة من الجهد المبذول في النظر وتأمل الأمور ونظر في مآلاتها، وقد أوضح ابن القيم هذا المعنى حين قال: “تدبر الكلام أن يُنظَر في أوله وآخره، ثم يعيد نظره مرة بعد مرة، ولهذا جاء على بناء التفعل، كالتجرع والتفهم والتبين..”. أي إنه فعل ملازم للإنسان في علاقات النظر والتفكير التي تربطه بالأفكار والأشياء. وقد أجمل بعض الباحثين المعاصرين معاني التدبر في قولهم: “التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة”(3).
والخلاصة أن التدبر هو استفراغ الوسع في إدراك المعاني بإعمال الفهم والفكر بما يشمل المقصد والغاية من الأمر، من خلال تتبع المعنى إلى نهايته.

التدبر واجب كوني وضرورة واقعية

وإذا كان التدبر حاجة واقعية تفرضها مقتضيات الاجتماع الإنساني ومستقبله، فهو قبل ذلك فريضة ربانية متعلقة ببلوغ مرتبة التلقي للوحي بفقه مُراده، أي ارتقاء الإنسان المخاطب إلى إدراك موقعه من الخطاب الإلهي بشكل مركب ومتكامل، شامل لأبعاد هذا الخطاب ومقاصده الكامنة في نفس الإنسان وواقعه. وهذا الذي يعبر عنه القرآن بالآفاق والأنفس باعتبارهما مساحة التجلي الأكمل للسنن الإلهية التي هي خطاب إلهي منظور.
واستحثاث التوجيه القرآني الإنسان على التدبر، ينصرف إلى الآيات بقصد الادِّكَار: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ)(ص:29)، غير أن خطاب القرآن نفسه يحيل إلى الآيات المبثوثة في الآفاق والأنفس. ومن هنا كان التدبر واجبًا كونيًّا وضرورة واقعية تقتضيها أمانة الاستخلاف في الكون، التي تمتد بواجباتها إلى الحرص على مصير الإنسان مطلقًا؛ كما تقتضيها مسؤولية الانتماء إلى مجتمعات عالم المسلمين، التي تعطلت لديها القدرة على استئناف حياتها على مقتضى حقائقها الذاتية، وهو ما يشير إليه الماوردي بحديثه عن مسؤولية الإنسان عن “إقامة العمران على مقتضى القرآن”.
ولعل العقل المسلم اليوم، أحوج ما يكون إلى إحياء فريضة التدبر وأداء مقتضياتها، بالنظر إلى اتساع آفاق النظر أمامه في عالمه، وتراكم الخبرات في واقعه، ولأن ما يعانيه من أزمات ومشكلات بقدر ما هي مثيرة لشجون الواقع وآلامه، فإنها موجِّهة قدرة الاعتبار لديه إلى مواطن الاستفادة ومكامن الدروس، وما تشير إليه من سنن ماضية وقوانين ثابتة لا تعرف تغييرًا ولا تحويلاً… (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(الفتح:23).
من هنا يصير تدبر واقع الإنسان المسلم اليوم، جوهر أداء هذه الأمانة الجسيمة في إدراكِ السنن والتنبيهِ إليها، قيامًا بواجب التعاون على انعتاق مجتمعاتنا من أزماتها، والسير نحو استردادها مناطَ خيرِيَّتها في مجموعها كأمة شاهدة.
ولا شك أن عناوين الأزمة اليوم متعددة، إذ انضاف إلى ما كابدناه طويلاً من الاستتباع والتجزئة والانقياد للغير، مدلهمّات الخطب الداخلي في مجتمعاتنا، مع التشظّي الذي مس المرجعية بحسب اتجاهات الواقع وأحداثه، بدل أن تكون لحمة الجماعة المعنوية ومصدر التوجيه للمجتمع في أوبته إلى رشده. وتعددت مصادر النداء إلى طريق الخروج من المحنة بلا نظر في مآلاته، ولا استخلاص لدروس المسار السابقة على ذات الطريق التي تعددت طرائق قددًا.
إلا أن فريضة التدبر إذ تظل معتصمة بالأصل المَعلَمِ للاهتداء، وهو الوحي، فإنها تستحيل سعيًا قاصدًا إلى إدراك معانيه في ضوء مسيرة حياة الإنسان المسلم اليوم، وتمَثُّلِ أحكام الوحي في واقع المجتمع، مع استصحاب أزمات هذا الواقع كرصيد متراكم من الدروس والخبرات، وتدبر مآلاتها على هدي السنن الماضية، آيات للسائرين.

إحياء فريضة التدبر وثمراته

أما ثمرات هذا التدبر في واقع كالذي كابدنا فصوله -ولا نزال- فكثيرة جدًّا، وهي تبين مقدار الحاجة إلى إحياء هذه الفريضة وعِظَم الدروس المستفادة من هذا الإحياء، وإن محاولة أولية متواضعة للمضي في هذا السعي تَمُدّنا بعدد من تلك الثمرات، تُهديها الظروف الماثلة إلى المشتغلين بإصلاح الشأن العام خاصة.
ولعل أول تلك الدروس، أنّ التعامل مع الواقع ينبغي أن يكون مع معطياته وحقائقه كما هي بالفعل، مستخلصة من تأمل دقيق فيه ودراسة مستوعبة له، لا الإصرارَ على التعامل مع هذا الواقع كما نتصوره من موقعنا وخلالِ ذاتيتنا.
إن جَسْرَ الهوّة بين هذين المستويين لإدراك الواقع (الحقيقة والتصور الذاتي) أمر حاسم في نجاح مسعى التغيير، وهذه مهمة تقتضي تحولاً حقيقيًّا في مستويي مناهج التعامل معه ووسائله؛ إعادة النظر في منهج التلقي عن الكون كما يتجلى علينا في حركته وقوانينه، وقراءة العالم من حولنا في موازينه وأحداثه، وإدراك طبيعة الفاعلين من حولنا في أحجامهم الحقيقية ومدى قدراتهم، وتفاعل العلاقات بينهم، والخلاصات المركبة لهذا الواقع الماثل المتسمة بدقة التفاصيل المؤثرة وسرعة تحولها.
بكلمة، ينبغي للمواقف دقَّت أو عَظُمَت أن تكون نتيجة تدبر في الموقف الماثل وموازينه، وبالتالي سببًا في توجيهه لا نتيجة لإكراهاته وظروفه؛ أليس القصد شرطًا في السعي؟ ولا قصد إلا بوعي محكم بتفاصيل المرحلة وظروف المسير، أليست قواعد فقه المآلات تعلمنا “استقراء الجزئيات لصياغة الكليات”(4).
الدرس الثاني هو أن التغيير الأبقى هو الأعمق جذورًا في الواقع: ظروفه الحاكمة ومعطياته المؤثرة وليس الأسرع. فواقعنا تدهور عبر إرادات فاعلة وعمل دؤوب وظروف معقدة امتدت قرونًا؛ يحتاج معه إلى تغيير هادئ في مقاصد عمرانه، ومحددات أهدافه، وقيمه المعرفية وأخلاقه، وآليات اشتغاله، ودوافع حركته… وأي تغيير لا يستهدف هذه الأبعاد فمآله إلى الانتكاس وإن بدت آثاره الإيجابية في الظاهر سريعًا، أو حرّكت صورته فينا مشاعر الأمل وعواطف الاستبشار والحماس.
ولعل من لازم هذا القول أن تحولات هائلة تطرأ على واقعنا باضطراد، تمس العلاقات والمؤسسات والأدوار وأدوات الفعل ووسائل التأثير، وما لم نراجع الأدوات التي نعتمدها، ووسائلنا التي نستخدمها قاصدين التأثير بها في ذلك الواقع، فإنها ستصير أدوات معطلة لا إمكانية فعلٍ لديها، وسنظل نتّهم الآخرين أو الواقع بالاستعصاء، غافلين عن تجاوزه لقدراتنا نحن في إبداع ما يناسبه من وسائل، وتطوير قدراتنا المتنوعة على التعامل مع تحولاته.
أما الدرس الثالث المرتبط بسابقه، فهو أن الواقع الراهن مؤلم صعب لا يتحمل مبادرات غير محسوبة، ولا ذات آثار جانبية تزيد من آلامه، فهو أحوج في مواصفات القائمين بمهام التغيير والإصلاح، المتصدين لأعباء الشأن العام الآن، إلى دقة الطبيب منه إلى قوة البَنَّاء على أهميتها.
لقد أثبتت خبرة واقعنا الراهن ألا نُخَبَ مؤتمنة على مهام ريادة المجتمعات وتوجيه طاقاتها وصياغة وعيها وقيادة مسارها، ما لم تنشأ على معاني الانتماء والحرص على مجتمعاتها ورعايتها وحفظ مصالحها حقًّا، وتتمثّل قيمَ الاهتمام بمآل هذه المجتمعات اهتمامها بشأنها الحاضر. ولذلك فإنه من الأهمية بمكان، النظر في مقاصد التصرفات ومآلات المواقف وتأثيراتها متكاملة على مصير المجتمع ومسار الأمة، وفق ما سماه بعض العلماء المعاصرين “التدبر الإستراتيجي”(5).
ومن مقتضيات هذا التدبر أولوية رعاية نخب جديدة من شباب هذه المجتمعات مكمن طاقة الريادة الحقيقية، فذلك أهم بكثير من إدانة الواقع ومساراته، واتهام النُّخَب الحالية بالتقصير في أمانة القيادة، وصدق الحرص على تحمل مسؤولياتها تجاه مجتمعها… إن الرائد لا يكذب أهله.
الدرس الرابع مؤسس على خطاب القرآن الذي جاء لبناء الإنسان قبل العمران، وإقامة الأمة قبل الدولة. ألم تقم دولة النبي -صلى الله عليه وسلم- بداية في نفوس من استقبلوه في المدينة سعداء منشدين “طلع البدر علينا” في وعيهم الجمعي أولاً؟ فصياغة المجتمع إذن غاية مقدمة على امتلاك أدوات السلطة، وإصلاح الشأن العام يبدأ حتمًا بإصلاح الشأن الخاص؛ شأن الإنسان وبناؤه على أساس منظومة قيم بحضارية شاملة بداية البدايات.
لقد أصبحت الإشارات إلى محدودية دور الدولة في عصر العولمة، وتعاظم أدوار المجتمع المدني محليًّا وعالميًّا، خطابًا متواترًا يقتضي استيعابه بالدراسة المنهجية المتكاملة، وإدراك مقتضياته الواقعية في العمل الإصلاحي للمجتمعات. فالمفهوم الأحدث للسياسة باعتبارها القدرة على التأثير في المجال العام لا مجرد التنافس على تسنم زمام السلطة، ومفهوم “القوى الناعمة” ذو الأهمية الحاسمة في التأثير والتأثر بين الأمم داخل حقل العلاقات الدولية اليوم… كلها تؤكد أولوية النظر في تغيير مفاهيم وأولويات العمل العام. فلا إصلاح إلا شموليًّا، في المكان والمجال، وشرطه إصلاح الإنسان الذي هو مفتاح التغيير في كل مكان ومجال. وكما أن الوحي جاء شاملاً لأبعاد حياة الإنسان كلها ووحدات المجتمع جميعها، فإن بعثه في حياة الناس ينبغي أن يكون كذلك في وحدات الحياة كافة، بالتوازي والتلطف.
وفي دائرة هذا الإصلاح يقع الدرس الخامس، وهو أنه لم يعد ثمة -بصدد إرادات الإصلاح- مجال لتصنيف بين الناس والمجتمعات والأقطار في عالمنا، سواء على أساس الدين أو العرق أو اللغة أو الهوية المذهبية أو الثقافية أو غيرها… إذ الواجب هو النظر إلى الإنسانية جميعًا مجالاً واحدًا للسعي إلى الخير، ودارًا كبيرة لخدمة الخلق تحقيقًا لمراد الحق؛ رحمة للعالمين.
إن الإنسانية تركب اليوم قاربًا واحدًا يمضي بها جميعًا إما إلى النجاة وإما إلى الهلاك، فقد اتحدت أزماتها وتقاربت المسافات بين أهلها. كما تعاظمت علامات تدخّل الخارج في شأن الداخل بشكل غير مسبوق، وفي رسم الأهداف التي تحكمه، والخطط التي تحركه. فلا عمران إذن، حقيقيًّا وباقيًا في مكان إلا بأن يكون في كل مكان من عالمنا.
هذه بعض أمثلة أولية محدودة على دروس مستفادة من التدبر في واقعنا مسارًا ومآلاً، ذلك الذي ينبغي أن تبدل في سبيله الجهود وتشيد له المؤسسات، ويؤهل له الإنسان، خاصة منه من يتصدى لأعباء الشأن العام وإصلاحه، كل ذلك قيامًا ببعض واجب هذه “الفريضة الغائبة”.

(*) مدير مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية – وجدة / المغرب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) الموافقات، للشاطبي، 4/194.
(2) لسان العرب، لابن منظور، مادة د.ب.ر.
(3) راجع: المعين في تدبر الكتاب المبين، لسعد بن أحمد حنتوس، ص:6.
(4) الموافقات، للشاطبي، 1/36.
(5) راجع في ذلك ما كتبه عالم السياسة المصري الكبير الدكتور حامد ربيع.