حيوانات تستشعر الزلازل

لم يستطع الإنسان رغم التقدم التكنولوجي الباهر، الحدَّ من تأثير الزلازل، ولا حتى التنبؤ بوقت حدوثها بصورة واضحة. وما زال العلماء في أبحاث مستمرة يحاولون فهم هذه الظاهرة الطبيعية المدمرة، وقد اكتشفوا مؤخرًا أن ثمة حيوانات تملك أعضاء حساسة للغاية، أو لديها قابلية -لا نعرف منبعها- تمكنها من استشعار الزلازل قبل حدوثها.
هناك كثير من الحيوانات الأليفة، مثل الكلاب والقطط والأبقار والدجاج والأرانب وبعض الحشرات والطيور، وكثير من الحيوانات البحرية، تملك القدرة على استشعار الزلازل قبل وقوعها، إلا أن ما يعتري هذه الحيوانات من اضطراب قبل وقوع الزلزال، يحدث معها أيضًا في الأوقات العادية، مما يجعل البحث غير منضبط وغير كاف لتثبيت وقت الزلزال وتحديد موقعه.
النمل والثعبان
إن تسليط الضوء على هذين المخلوقين، يرجع لأسباب عدة؛ منها تمتعهما بخصائص مشتركة ومفيدة حول استشعار الزلازل، فكلاهما أصمّ ولا يقدران على سماع الموجات الصوتية الهوائية التي تمرّ عليهما، ولكن الغريب في الأمر، أنهما يستشعران الأصوات والموجات الصادرة من باطن الأرض؛ كالأمواج الكهرومغناطيسية، أو الغازات التي تتصاعد من باطنها.
وهذا يجعلنا نسترجع ما ذكره القرآن في قصة النملة التي أحست بقدوم جيش النبي سليمان ، وأنذرت قومها بالخطر القادم، وكأن هذه النملة استشعرت الاهتزازات الأرضية التي أحدثتها الخيول. وانطلاقًا من ذلك، فإذا لوحظ أن النمل يخرج من جحوره بطريقة غير طبيعية، ثم يسير بصف واحد أو بشكل تجمعات متكتلة، ثم لوحظ أثناء ذلك موت الكثير منها دون سبب؛ فالأرجح أن ذلك نذير للزلزال.
جسم يوحي بمركز اتصال إلكتروني

لم يستطع الإنسان رغم التقدم التكنولوجي الباهر، الحدَّ من تأثير الزلازل، ولا حتى التنبؤ بوقت حدوثها بصورة واضحة

على الرغم من صغر حجم النملة، إلا أن تكوينها يستحق الاهتمام، إنه تكوين يشبه إلى حد كبير مركز اتصال إلكتروني. فالنملة لديها مستقبلات حساسة لكثير من الإشارات والموجات، حيث تقوم باستقبال البيانات الموجية وتحللها مباشرة. وفضلاً عن امتلاكها عينين جانبيتين، فإنها تملك أيضًا ثلاثة عيون صغيرة تتموقع أعلى رأسها، ومن خلال هذه العيون الثلاثة تتمكن النملة من تحليل قوَّة الضوء وشدته، وتتمكن كذلك من تحديد الاتجاهات القطبية، ومن رؤية 180 درجة من محيطها. كما تتمتع النملة بقَرنَي استشعارٍ في منتصف رأسها تستخدمهما لتحليل المواد الكيميائية والتمييز بينها وكذلك للاستطعام وشم الروائح.. ولديها مستقبِل خاص يقيس الرطوبة.. بالإضافة إلى أن هناك بعض أنواع النمل ضمرت أعينها لكثرة اعتمادها على القرنَين الاستشعاريين.
إن كنا نمتلك -نحن البشر- عدسات للرؤية، فنملة الصحراء أيضًا لديها العديد من العدسات؛ يذكر البروفيسور “روديجر وهنر” مع فريقه من جامعة ميونخ، أنهم اكتشفوا عدسات تستطيع النملة من خلالها رؤية الموجات فوق المغناطيسية الموجودة في صفحة السماء، وتستطيع من خلال هذه العدسات -كذلك- تحديد نقاط السماء المحتوية على موجات كهرومغناطيسية، أما عدد هذه العدسات في هذه النملة الصغيرة الحجم فيبلغ 80 عدسة، وازداد الفريق دهشة عندما وجد أن واحدة من هذه العدسات ترى بزاوية 180 درجة، أما الباقيات فترى بزاوية 270 درجة. والملفت للانتباه أن النملة لا تستطيع رؤية الشمس، ولكن وُهِبتْ بدلَ ذلك بمستقبِل خاص في عينها يمكِّنها من معرفة موقع الشمس، ومن تحديد الاتجاهات وقياس المسافة التي قطعتها.
شعيرات اللمس الحساسة
إن جسم النملة مُدرَّعٌ بطبقة سميكة مصنوعة من مادة “الكيتين”، كما أن هذه الطبقة مكسوة بشعيرات حساسة للغاية (الشكل 1). هذه الشعيرات ولا سيما الموجودة على قرنَي الاستشعار وعلى أسفل الأقدام، هي الأكثر حساسية بين الشعيرات الأخرى، فهذه الشعيرات مرتبطة بمستقبلات الاستشعار الجلدية، لتقوم بإرسال الإشارات مباشرة عند أدنى اهتزاز يقع على وجه الأرض، ومن خلال الخلايا الموجودة أسفل هذه الشعيرات المرتبطة بالجهاز العصبي الليفي يقوم جسم النملة بإرسال رسائل كيميائية لتُدرِك النملة ما يجري حولها، وقد تمكِّن بعض هذه الشعيرات -المتجمِّعة بكثافة في بعض أجزاء الجسم- من استشعار النملة بالموجات الصوتية (الشكل 2). وبالتالي يوجد ملايين الشعيرات في جهاز الاستشعار الكائن في رأس النملة، مما يمكِّنها من تحليل المواد الكيميائية ودرجات الإضاءة. وثمة شعيرات موجودة أسفل فم النملة وأسفل أقدامها تقوم بوظيفة أخرى؛ وهي توصيل الإشارات إلى الدماغ المحتوي على 500 ألف خلية عصبية، مما يسهل على النملة الإحساس بالزلازل والرجات الأرضية.
في جامعة “ديسبرج اسن” قامت الدكتورة “جبريالا بيربريتش” مع فريق متخصص، بإجراء أبحاث عديدة بين عامي 2009-2012، حيث قاموا بجلب 15 ألف نملة حمراء، ثم قاموا ببناء مستعمرات لهذا النمل في المناطق الأكثر تعرضًا للزلازل بألمانيا، وراحوا يراقبون النمل ليل نهار من خلال كاميرات.. وبعد تحليل تصرفاته لاحظوا أمرًا عجيبًا؛ وهو أن النمل يقوم بأعماله الروتينية خلال النهار، وفي المساء يدخل بيوته للاستراحة، إلا أنه عندما يحس بزلزال يمضي الليل أكمله خارج بيوته، وفي حال انتهاء الزلزال يعود لتواصل أعمالها الروتينية. والأكثر غرابة أن قوة الزلزال إذا كانت أقل من 2 درجة على مقياس ريختر، لا يغير النمل نمط حياته لإدراكه عدم الخطورة.

على الرغم من صغر حجم النملة، إلا أن تكوينها يستحق الاهتمام، إنه تكوين يشبه إلى حد كبير مركز اتصال إلكتروني.

ووفقًا للدكتورة “بيربريتش”، فإن النمل الأحمر لديه مستقبل استشعاري لثاني أوكسيد الكربون ومستقبلات كيميائية، يقوم من خلالها بقياس الغازات المنبعثة من أعماق الأرض والتغيرات الواقعة في باطنها، والمتزامنة مع الزلزال، كما أن لديه مستقبلات خاصة يستشعر من خلالها التغيرات المغناطيسية للأرض، بالإضافة إلى وجود مستشعرات حرارية تستطيع من خلالها الإحساس بـالتغيرات التي تعتري الموجات الراديوية، وبهذه الطريقة تتمكن النملة من الإحساس بالزلازل.
من غير يد ولكنه حساس
لا شك أن موضوع الحيوانات التي تستشعر الزلازل جذب انتباه علماء الصين، فأجروا أبحاثًا عديدة في هذا الباب.. فمنذ عام 1971 وهم يؤسسون مراكز مراقبة في المناطق الأكثر عرضة للزلازل. ومن خلال المراقبة تبيّن لهم أن هناك الكثير من الحيوانات تملك موهبة الشعور بالزلازل قبل وقوعها، حيث تقوم هذه الحيوانات بتصرفات غريبة على غير عادتها، مثل الفئران والأسماك والثعابين.. حتى إنهم وجدوا أن بعض هذه الحيوانات تشعر بالزلزال قبل وقوعه بعدة ساعات والبعض الآخر بثلاثة أشهر.
وفي ديسمبر 1974 لاحظ العلماء أن الثعابين تنتحر؛ إذ تخرج من بياتها الشتوي وتسير تحت الجليد حتى تتجمد وتموت. ولاحظوا أيضًا أن الفئران تخرج من جحورها على شكل مجموعات وتنتشر في الشوارع، وذلك دفعهم إلى التنبؤ بوقوع زلزال قوي ومدمر، وفعلاً وقع الزلزال في فبراير 1975 في مدينة “هاي تشينج” بقوة 7.3 على مقياس ريختر، بيد أن الدولة كانت قد أخذت حذرها وأَخْلتْ حوالي مليون شخص من المدينة قبل وقوع الزلزال، وهذا بطبيعة الحال قلل من الخسائر. ولو لم تقم السلطات بأخذ التدابير اللازمة لكان من المتوقع أن يتوفى في هذا الزلزال أكثر من 150 ألف إنسان.
ولقد ذكر “فريدمان فريند” الذي يعمل في وكالة ناسا، والمتخصص في العلوم الجيوفيزيائية، بأنهم توصلوا إلى وجود شحنات كهربائية تطلقها الأرض نتيجة الاحتكاكات بين اللوائح التكتونية، فهذه الشحنات عندما تنطلق في الهواء أو الماء، تكون سببًا في ظهور مواد مختلفة؛ فمثلاً، يظهر في الماء مادة بيروكسيد الهيدروجين، ويُعتقَد أن هذا التغير الكيميائي سيؤثر على الرواسب العضوية في ماء البحيرات وسيؤدي إلى تسمم وموت الحيوانات الموجودة فيها.
هذا وقد وجد الباحثون أن الثعابين تتمتع بقابلية الشعور بالأشعة تحت الحمراء عن طريق فجوة الأنف المتموقعة بين العينين، فهي بمثابة كاميرا حرارية. ولعل هذه الأعضاء تساعد الثعابين على إدراك التغيرات أو صدمة الموجات الكهرومغناطيسية الضعيفة التي تظهر في تلك المنطقة، مما يمكِّنها من معرفة وقوع زلزال قوي قبل حدوثه.
وفي دراسة أجريت عام 1993، أثبت الفيزيائي “فريدمان فرند” أن الانزلاق والاحتكاك بين الطبقات التكتونية، يؤدي إلى انطلاق موجات من الأشعة تحت الحمراء في مكان وقوع الزلزال. وقد سجَّلتْ أقمار “تارا” الصناعية التابعة لوكالة ناسا من الفضاء حالة غير طبيعية في الأشعة تحت الحمراء في الهند، وذلك قبل الزلزال الذي وقع في 21 يناير 2001 في منطقة “بهوج”، والذي بلغتْ قوته 7.9 على مقياس ريختر.
كان يُعتقَد في القديم أن الثعابين لا تملك قابلية السمع، وذلك لعدم وجود أذن خارجية لها، وإنما تتمتع الثعابين بأذن وسطى ذات عظمة واحدة. ولذلك كان العلماء يعتقدون أنها لا تشعر بالموجات الصوتية الهوائية، بيد أن الباحثين في جامعة “برستون” اكتشفوا أن الثعابين تمتلك حاسة سمع قوية للغاية، وذلك من خلال أذنها الداخلية. وبالبحث وجدوا أن الثعابين تستطيع الإحساس بضغط الصوت من خلال تردد الموجات الصوتية وبفحص وقياس التردد العصبي في أدمغتها، كما وجدوا أنها تملك القدرة على سماع الترددات العالية من الأصوات؛ وهذا يعني أن سمعها يفوق سمع البشر بـ 10 آلاف ضعف. ولكن كيف تصل الموجات الصوتية لأذنها الداخلية؟

وجد الباحثون أن الثعابين تتمتع بقابلية الشعور بالأشعة تحت الحمراء عن طريق فجوة الأنف المتموقعة بين العينين، فهي بمثابة كاميرا حرارية.

قام الباحثون بتعليق الثعبان في الهواء ليتأكدوا من سماعه الموجات عن الطريق الهواء فقط، وكانت النتيجة مذهلة؛ حيث اكتشفوا أن هذا الثعبان يستطيع سماع الموجات الصوتية الهوائية، ولكن استقباله لهذه الموجات يختلف عن استقبالنا لها نحن البشر؛ فجسم الثعبان كله عبارة عن مجسات تتلقى الترددات الصوتية وترسلها للمخ من خلال جهازها العصبي في صورة معلومات.
لا شك أن هذه الأبحاث والدراسات العلمية من الباحثين، ستظل تكشف لنا أسرار هذا الكون، وعجائب المخلوقات التي تعيش على تربته، وستبقى تزودنا معرفة تحملنا إلى فضاء يزدان بالحقيقة والعرفان.