إن الحديث عن حقوق أهل العلم، وعن واجب الأمة تجاههم، حديث جليل؛ لأنه حديث عن أحد أهمّ الحقوق وأعظم الواجبات، بل هو حديث عن عزة أمةٍ ورفعة شأنها، أو عن ذلَّتها وهوان أمرها، بل عن بقائها أو زوالها.
ولكي لا يُظن بهذا الكلام أني أبالغ، فلنأخذ الحديث من آخره، من أن الحديث عن حقوق أهل العلم، وعن واجب الأمة تجاههم، هو حديث عن بقاء الأمة أو زوالها. فهل يشك عاقل في أن العلم الصحيح هو والحق لفظان مترادفان؛ فلا يكون العلم علمًا صحيحًا إلا وهو حق. وعليه، فالعلم هو الحق، وأما الباطل فإنه هو الجهل. ثم هل يشك عاقل أنَّ الحق هو الثابت الباقي، وأن الباطل هو الزائل الفاني، كما قال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)(الإسراء:81). إذن فالعلم الذي هو الحق، به يكون الثبات والبقاء، والجهل الذي هو الباطل، به يكون الزوال والفناء، ولا شك أن العلم والجهل وصفان لا قوامَ لهما بذاتهما، إنما قوامهما بمن يتَّصف بهما، فلا علم إلا بعالم، كما أنه لا جهل إلا بجاهل. ومعنى ذلك أنَّ العلماء الذين حملوا الحقَّ، إذا علّموه ونشروه، فقد علَّموا الحق ونشروه، فكان ذلك إشاعةً للحقِّ في الأمة، ذلك الحق الذي هو الثبات والبقاء لها. وأمَّا إذا أُضيعَ علمُ العلماء، فاستبدلت الأمةُ الجهل بالعلم، أي الباطل بالحق، فقد قضت على نفسها بالزوال والفناء.

الحديث عن حقوق أهل العلم على الأمة، هو حديث عن حقوق الأمة على الأمة؛ فالأمة بحفظ وأداء حقوق علمائها تقوم بما يحفظ لها بقاءها وثباتها، ويؤدي عنها واجبَ عزتها ورفعة شأنها.

أرأيت؟ كيف كان الحديث عن حقوق أهل العلم على الأمة هو حديثنا عن بقائها أو زوالهما!
أما وقد تَبيَّنْت صحة ذلك، فلا حاجة بعده إلى أن أبيِّن لك أن ذلك الحديث هو حديث أيضًا عن عزة الأمة ورفعة شأنها، أو عن ذلتها وهوان أمرها؛ لأن العزة والرفعة لا تكون بغير الثبات والبقاء، ولأن الذلة والهوان هما الزوال والفناء، أو “إن لم تعِ ما الذل والهوان”، فهما سبيلا الزوال والفناء.
إذن، الحديث عن حقوق أهل العلم على الأمة، هو حديث -في الحقيقة- عن حقوق الأمة على الأمة؛ فالأمة بحفظ وأداء حقوق علمائها تقوم بما يحفظ لها بقاءها وثباتها، ويؤدي عنها واجبَ عزتها ورفعة شأنها. ونحن عندما نتحدث عن حقوق العلماء على الأمة، إنما نتحدث عما يعود بأعظم النفع والخير على الأمة نفسها. فليس أداء تلك الحقوق مُكوسًا وضرائب ينتفع بها العلماء وحدهم، ولا هي تفضُّلٌ وتبرُّعٌ من الأمة لعلمائها، بل هي قواعد العز والتمكين للأمة، وأسس التقدُّم والرقي، وأصول الحضارة والعلم. فأول منتفعٍ بأداء حقوق العلماء هو المؤدي لها، وأول خاسر هو المضيّع لها.
من هنا كان الحديث عن حقوق أهل العلم حديثًا جليلاً. ومن هنا أيضًا نعلم أن الحرص على أداء حقوق أهل العلم ينبغي أن يكون نابعًا من حرص الأمة على بقائها وعزتها، لا أن يكون نابعًا فقط من الشعور بواجب الشكر لمن أحسنَ إليها وإن كان هذا حسنًا، ولا أن يكون نابعًا من الاعتراف بالفضل لذوي الفضل وإن كان هذا جميلاً، ولا من غير ذلك وحده، بل لا بد من أن نستشعر ونحن نؤدي حق العالم، أننا بأدائه نؤدي حق أنفسنا، وأننا نحن أول من سيجني الفائدة الكبرى من هذا الأداء لحق العالم.
فإذا ما أردنا -بعد ذلك- أن نذكّر ببعض حقوق أهل العلم، فإنني أبدأ بحق يؤسفني أن أبدأ به، وهو أن أول حق العالم على أمته هو حق المسلم على المسلم. نعم، لقد بلغ ببعض الأمة، بل ببعض خواص الأمة، أن ضيّعوا من حقوق العلماء حتى حقَّهم في الأخوة الإسلامية، فظلموهم وخذلوهم وقت حاجتهم إليهم، وأسلموهم إلى أعدائهم، واستباحوا غيبتهم بالشتم والوصف القبيح، وأساؤوا فيهم الظنون! مع أن أضدادَ ذلك كله هو من حق المسلم على المسلم. فأول حق العالم على أمته المسلمة، أن يوفُّوه حقَّه الإسلامي العام، وأن يُنزلوه منزلة بقية المسلمين، بل العدل يقول إن حق العالم من ذلك الحق العام أمكن، وإثمَ الإخلال به أكبر، وقُبْحَ التقصير فيه أشد؛ لأن حقه لا يقتصر عليه (أولاً)، ولأن حاجة الناس إلى القيام به أشد (ثانيًا).
ثم ثاني حقٍّ ينبغي أن يؤدى للعالم: أن يُقَرَّ له بالتقدُّم والتميز على غيره من الناس في العلم الذي تقدَّم وتميز به، بل إن هذا الإقرار هو باب الوفاء للعالم بحقه، وبغيره لن يعطى العالمُ شيئًا من حقوقه؛ لأن هذا الإقرار يستلزم عند كل العقلاء قدرًا من التقديم والتقدير بحسب ذلك التقدم والتميز، ولأن عدم الإقرار به لن يدع للعالم عند الجاحد لتقدمه وتميزه، أيَّ داعٍ للتقديم والتقدير.
ولذلك، فإنه من الضروري في هذا الباب، أن يكون عند الناس إقرارٌ بتقدُّم العلماء عليهم وتميزهم عنهم، وإلا فعلينا أن نطوي صفحة الحديث عن حقوق العلماء على أمتهم.
وهذا ينبهنا إلى أن السعي إلى تحقيق هذا الإقرار من الأمة لعلمائها، والبحث في أسباب تخلُّفه عند كثيرين منها، والتأمل في دواعي قصوره عند أكثرها، أَوْلى ما يجب التهمُّم به، وهو الخطوة الأولى لأن تعرف الأمة حقوق علمائها، لتعرف بعد ذلك سبيلَ بقائها وعزتها ورفعة شأنها.
ولا شك أنه قبل ذكر علاج ظاهرة ما، لا بد من معرفة أسبابها، فما هي أسباب هذه الظاهرة؟ وهي عدم الاعتراف لعلماء الشريعة بتقدمهم وتميزهم في علم الشريعة.
إن هذا الموضوع لموضوعٌ حقيقٌ بطول النظر والتأمل، ويستحق أخذ آراء العلماء والباحثين فيه؛ لأهميته، ولتعدد أسبابه وكثرتها في ظني. غير أني أنبِّه هنا، إلى بعض الأسباب، والتي منها ما هو شخصي نفسي لا يعمُّ كلَّ من اتصف بتلك الظاهرة، ومنها ما هو سببٌ عامٌّ يشمل جميع أو غالب المتّصفين بها. فمن تلك الأسباب:

1- الغرور والتعالم

وهو داء خطير يمنع من التعلُّم؛ لأنه يُوهِم صاحبه بأنه ليس في حاجةٍ إلى عِلْم غيره من العلماء، ويكفي هذا الداء سوءًا أنه لا يرضى أحد أن يوصف به، ولا الواقع فيه. ولذلك فإن من خطورته أن المصاب به لا يشعر أنه مصاب به، وإلا لو شعر بمُصابه به، لسعى في الاستشفاء منه. وهذا يعني أن علاج هذا الداء، يبدأ بإشعار صاحبه بنقصه وقصوره وقلة علمه. ولذلك، طرائقه التي لا تخفى على الحكيم، والتي تختلف من شخص إلى آخر.
ويكثر هذا الداء في عصرنا بين طبقات مختلفة من الناس، وأكثرهم ضراوةً فيه صنفان منهم:
أ- مُثَقِّفون وعلماء في غير العلوم الشرعية: ظنوا أن علمهم الذي تعلَّموه، وذكاءهم الذي قادهم إلى التفوق في علومهم -ربّما- كافٍ لأن يزاحموا علماء الشريعة علمهم الذي تخصّصوا فيه، ناسين أو متناسين أن الواحد منهم لا يحق له أن يزاحم علماء كل العلوم التي لم يتخصّصوا فيها، فلِمَ جعلوا من علم الشريعة وحده حمىً مستباحًا يَلجُه من شاء متى شاء؟!
بـ طلبة العلم الشرعي الذين لم يتأدبوا بأدب العلم الذي تعلّموا طرفًا منه: وهؤلاء -غالبًا- إنما داؤهم الأكبر، هو طلب العلم للدنيا (للمال أو الجاه)، فدواؤهم هو الإخلاص؛ فإذا أخلصوا في الطلب، ظهرت آثار العلم عليهم والتي من أبرزها التواضع وهضم النفس. وما أبعد أهل الإخلاص عن الغرور.

2- الجهل بحقيقة العلوم الشرعية

العلوم الشرعية هي علوم عميقة في غاية العمق، بل هي أعمق العلوم على الإطلاق، ولذلك اختص الله تعالى بها أكمل الخلق وأذكى الناس وأعقل البشر، وهم أنبياؤه ورُسُلُه، وكان ممن اختصه الله تعالى بعلوم شرعه، خاتمُ رُسله وإمامُ أنبيائه وسيدُ ولد آدم؛ محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان أعلمَ الناس بالله تعالى وبأمره عز وجل. ومع عظيم علم نبينا صلى الله عليه وسلم بشرع ربه عز وجل، فقد أُمر بالضراعة إلى ربه سبحانه أن يزيده منه علمًا، فقال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(طه:114). فأيُّ علم أعمق من علم خصَّ الله تعالى به مصطفاه من خلقه، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به. ثم مع عظيم علمه به، يأمره عز وجل بطلب الزيادة منه.
ومع عُمق علوم الشريعة هذا العمق العظيم، نجد الناس متهافتين في الخوض فيها، جهلاً منهم بعمقها. ولذلك فإنك ترى الناس لا يقبلون من غير الطبيب أن يمارس مهنة الطب، ولا يقبلون من غير المهندس أن يمارس مهنة الهندسة؛ لأن هذين العلمين عندهم علمان تخصُّصيّان لا يتقنهما إلا من تخصَّص فيهما، وهكذا بقية العلوم الكونية. فإذا جاؤوا للعلوم الشرعية، سمحوا لأنفسهم أو لغيرهم ممن لم يتخصَّص في دراستها على يدي أهلها، بأن يتكلَّم ويخوض فيها. ونحن نطالب هؤلاء أن يُنصفوا علوم الشريعة فإن لم يعترفوا لها بأنها أعمق العلوم، مع أن هذا هو الواجب عليهم لو أنصفوا، فلا أقلّ من أن يضعوها في مصافّ التخصُّصات الأخرى التي يُعترف لها بأنها علومٌ عميقة، لا يُحسنها إلا من أفنى عمره واجتهد في تحصيلها.

3- تشويه صورة علماء الشريعة

يتعمَّد بعض أعداء الإسلام تشويه صورة علماء الشريعة بكل الوسائل المتاحة لهم؛ في وسائل الإعلام المختلفة، وفي القرارات ذات التأثير.. وذلك من خلال سعيٍ حثيث منظَّم مدروس من زمن طويل، يتناول سعيهم هذا جوانب مختلفة، من تجفيف منابع العلم الشرعي، وصدِّ الناس عن تعلُّمه، وإضعاف صلة الناس بعلمائه، وانتقاص أقدار حملته بكل مكر ودهاء.. فعلى المسلمين أن يعرفوا أعداءهم الحقيقيين، فلا يمكِّنونهم من وسائل إعلامهم؛ أولاً يجعلون وسائلَ إعلامهم وسائلَ مأمونة للتلقي والتأثر، كما أنه ينبغي عليهم عدم الرضوخ للقرارات التي يتخذها أعداؤهم وسيلةً لتحقيق أهدافهم فيهم، بل عليهم فَضْحُ خفايا تلك القرارات لعامة المسلمين، لكي يقف الجميعُ ضدها، ولكي لا تطويهم بخُبْثها ومكرها.

إنَّ العلماء الذين حملوا الحقَّ، إذا علّموه ونشروه، فقد علَّموا الحق ونشروه، فكان ذلك إشاعةً للحقِّ في الأمة، ذلك الحق الذي هو الثبات والبقاء لها.

4- قلّة عدد علماء الشريعة

قلّة عدد علماء الشريعة حقًّا، مما تحقق في المسلمين ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أنهم اتخذوا رؤوسًا جُهالاً، فضلّوا وأضلّوا. ولا شك أن هؤلاء الرؤوس الجُهَّال الذين يلبسون لباسَ أهل العلم، قد أعانوا على أن لا يعرف الناسُ أهلَ العلم حقًّا، وصدُّوا الناسَ عن علمائهم، ثم هم لجهلهم لا يجد الناسُ لهم مزية يستحقون بها الإقرار لهم بالعلم والتقدم فيه، حتى إذا رأى الناسُ عالمًا حقًّا قاسوه على الجاهل فاختلط الحابل بالنابل. وهذا يُبيِّن عظيمَ حاجة الأمة إلى أن تعتني بالعلم الشرعي، وبالبقية الباقية من علمائه؛ لكي يكون الرؤوس رؤوسًا حقًّا علماءَ ربّانين.
فنحن في هذه الظروف، أولى ما نكون إلى نشر العلم الشرعي، وإلى حث الناس على تعلّمه، وتهيئ كل السُّبُل الميسرة على الناس تحصيله، كما أنه يبيّن أيضًا وجوبَ تصديرهم أهل العلم وإبرازهم للناس، فإن لم يُصدَّروا فعلى أهل العلم أن يتصدّروا، وأن يدلّوا الناس إلى الهدى والعلم الذي وهبهم الله تعالى إياه.
إن هذه الأسباب -في ظني- هي أهم أسباب ظاهرة عدم أو ضعف اعتراف عامة المسلمين لعلماء الشريعة بالتقدم والتميز في علم الشريعة، وهي أسباب يمكن مقاومتها.
فإذا ما أقرَّ الناس للعالم بالتقدم والتميز، فلا يحتاج غالبهم حينها إلى تذكيرهم بواجب العالم عليهم، ولن تكون أخطاء آحادهم في التقصير في حق العالم، إلا فلتةً غير مقصودة سُرعان ما يحرص الواحد منهم على استدراكها إذا ما أدرك أنه حاد عن أداء واجبه، حيث إن الإقرار بالتقدم والتميز يقتضي الاحترامَ والإجلال، والتأدُّب في المقال والفعال، وإحسانَ الظن بالعالم، وتَرْكَ جداله ومُماراته بغير علم، وكما قال القائل:
وأكثر بَخسًا للفضيلة موقعٌ
يُجادلُ أهلَ العلم فيه جَهُولُ
هذا حق أهل العلم عامة، فكيف إذا كانوا علماءَ بالله تعالى وبأمره؟! فهؤلاء هم أولياء الله الذين مَن عاداهم فقد آذنَ الله تعالى، وبارزه بالعداوة والحرب، والذين هم ورثة الأنبياء، وسادة الأمة، وأدِلَّاء العالمين إلى سعادة الدنيا والآخرة.
هُمُ أنجُـمُ الله فـــي الدنــيا إذا طلعــوا
وحُجّةُ الله فـي الأُخـرى إذا نُشــِروا
هُمُ زينةُ الناس هُمْ نورُ الوجود هُمُ
روحُ الحــياة هُــمُ ريحانُـــها العَطِـــرُ
هُـمُ أولـياءُ النُّهى تحـيا العقـولُ بهمْ
كالغيث يَخْضَلُّ من وَسْمِيِّهِ الشجرُ
وإنــــما هــــــــذه الأيــــــامُ مـــــــزرعــــــةٌ
الـناسُ غــرسٌ لـها والعالِمُ الثـمرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى/ المملكة العربية السعودية.