ثقافة الحوار مع الآخر لدى الشباب ودورها في التواصل الحضاري

في بيئة عالمية مشحونة بثقافة الصدام الحضاري والاسلاموفوبيا، يتأكد الحديث عن العلاقات المفترضة بين الحضارات والثقافات في هذا العالم، التي لا زالت تحتفظ لنفسها بمقومات البقاء والاستعداد للنمو والنهوض.

وتبدو قيمة هذا الموضوع بعدما دأب مفكرو الغرب والإسلام على حد سواء على استعادة طرح سؤال كبير مركب من أسئلة تفصيلية عقب كل تحول استراتيجي يبدو فيه العالم متجهًا نحو مرحلة جديدة، يتعلق بماهية طبيعة الصراع بين الأمم والشعوب، وما بين الرفض المطلق أو القبول المطلق، تعددت المناهج وتباينت الرؤى واختلفت المشاريع والمدارس. ومع العديد من الإخفاقات التي شهدها العالم الإسلامي أمام الخلل العالمي الناتج عن أحادية القطب وازدواجية المعايير في تطبيق المواثيق الدولية، وطرح مخططات في اختراق جدار الأمن الثقافي والهوية الإسلامية (التدخل الاستعماري بالإرهاب الدولي لشعوبه في إطاره الجغرافي / الصور النمطية المشوهة للإسلام وثقافته إعلاميًّا وسينمائيًّا وسياسيًّا وتربويًّا وفكريًّا / إلصاق تهمة الإرهاب بكل المنتمين لدائرته / استفزاز مشاعرهم بالإساءة لمقدساتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم…).
في هذا المناخ القلق، ولشدة الغموض المحيط باحتمالات تطور العلاقات المستقبلية بين شبابنا والآخر، واحتمالية سيادة اللاأمن الفكري، فيكون الدين هو المتهم الوحيد بالتطرف أو الإرهاب، بحيث أصبح الكل يردد التطرف الديني؛ والغرض توجيه نظام العالم إلى خطر وهمي من الدين لعزله عن واقع الحياة. فهل صحيح أن شباب العالم الإسلامي كلهم متطرفون لأنهم يدينون بدين الإسلام؟ هذا الإشكال، ينبغي أن يتصدى لدراسته شبابنا الإسلامي ليس ردًّا للتهم الموجهة إليه، وإنما لإعادة الدور النهضوي لحضارتنا، وإقامة ميزان العدل في فهم ذاته ومقوماته الدينية والفكرية ومؤهلاته العلمية التي بها يتم بناء جسر التواصل الذي يفهم لغته الآخر بعيدًا عن التعصب والنظرة الدونية لمرتكزات حضارتنا الإسلامية. ولا شك أن الحديث عن الشباب وحوار الحضارات صراعًا أو حوارًا، يحتمل الكثير من الالتباس والخلل. فأية حضارات هي المقصودة بالحوار؟ هل المقصود أن يتحاور شبابنا مع الحضارة الغربية، أم مع الحضارات الشرقية من عربية وإسلامية أو بوذية وشنتوية؟

ثم ما المقصود بالحوار؟ فهل المقصود حوار بين الغرب ثقافةً وحضارةً وسياسةً وجيوشًا وإعلامًا؟ هل المقصود حوار ديني بين الدعاة والمبشرين، أم أن المقصود حوار سياسي بين زعامات سياسية تمثِّل -بشكل أو بآخر- رموز المصالح المتناقضة لبلدان مختلفة؟ هل يتم الحوار على أساس القول الاستشراقي بأن العقل للغرب والروح والخرافة للشرق؟ هل يمكن أن يتحاور شبابنا مع الآخر تكنولوجيًّا واقتصاديًّا بمعزل عن الثقافة، أم أن المطلوب حوارٌ ثقافي يتحقق في تفاعل كريم وحيٍّ ومنفتح بين مختلف المرجعيات الثقافية في الشرق والغرب، لأن تحدي الحوار أضحى يحمل الجميع على مواجهته؟! فماذا يجب علينا عمله كي نكون أندادًا حقيقيين في هذا الحوار؟ هل سنحاور الحضارة الغربية من خارجها أم من الداخل؟ هل يمكن أن نتفاعل مع حضارة ما في هذا العصر وأن نبقى خارجها؟ فثمة قصور جوهري لن نستطيع بدون تفكيك أسبابه بناء حوار حضاري منتج لشبابنا.

إن حوار الحضارات لا يعفينا من ضرورة الرؤية النقدية لواقعنا، بل لابد من القيام بشكل حثيث بنقد ذاتنا والعمل على الخروج من الحالة الفصامية العميقة التي تمتد من الفرد إلى المجتمع، ومن جيل الشيوخ إلى جيل الشباب، الخروجِ من نرجسية نظرتنا إلى التاريخ والتراث، الخروجِ من وهم إمكان تمثل الحضارة دون التلوث بها فكرًا ونمطَ حياة إن لم نشارك في إنجازها ونساهم في بنائها. وما لم ندرك الشرط التاريخي لتفوُّق الغرب وحضارته، وما لم نمتلك أسس التقدم الراهن الذي حققتْه حضارة الغرب، فلن نستطيع خوض الحوار الحضاري بالجدارة التي تستحقها حضارة مثل حضارتنا العربية والاسلامية. فكيف سيجري حوار الشباب الحضاري من خلال الموقف المجتمعي الفصامي بين ثنائية ثقافة التقليد والتوفيق، ثقافةِ الانبهار والاستيلاب، ثقافةِ الانعزال والاستتباع المطلق؟

الشباب وسؤال الحوار

يشكل الشباب العربي بؤرة وجوهر التغيير… فكما أن للآخر دوره فإن للشباب أدواره، تتوزع وتختلف تتصادم وتتكامل، لكنها في النهاية تبقى مرتعًا تنمويًّا يستدعي إعادة التكرير من أجل الاضطلاع بشباب قادر على تحمل أعباء المجتمع العربي، قادرٍ على التطوير والتطهير، قادرٍ قبل ذلك وذاك على صناعة التعبير الحر غير المنمط وغير الملوث، بل تعبير مبني على إعمال الفكر من أجل حوار شبابي عربي-عربي أولاً، وحوار شبابي عربي-غربي ثانية، غايته إعادة الاعتبار إلى الجوهر الاجتماعي للشباب لتحقيق مشاركته الفعلية في الحياة العامة بما في ذلك الحوار الثقافي.

فكيف يمكن للشباب أن يلعب دوره الريادي في تحقيق الحوار الثقافي؟ ما هي مكامن ضعف ذلك الحوار ونقاط قوته في علاقته بالشباب؟ أيّ علاقة يمكن أن يشكلها الشباب العربي في بناء ثقافة الحوار الثقافي؟ هذه أسئلة وغيرها تلاحق مفهوم “الحوار الثقافي” في علاقته مع فئة تمثل دورًا هامًّا في عملية البناء الحضاري، فئة شباب العالم الإسلامي.

لا شك أن لكل مفهوم مقابلاً، ولكل مقابلٍ مقابلاً مضادًّا؛ فالصمت مثلاً، يوحي بوجود مفاهيم دلالية تُنتقد بمفهوم الحديث الذي بدوره يؤشر بوجود مقابل الأول، أي الصمت. فإذا تمكنّا من تناول كل المفاهيم على حدة، فمما لا ريب فيه، في أطراف التحليل سيتأجج لنا سؤال منطقي يستدعي طرق أبواب المفهوم المضاد للوصول إلى معنى مضاد للمضاد. ولا سيما أن التحديات التي تواجه شبابنا في المجتمعات العربية والإسلامية ليست بالقليلة ولا باليسيرة، وتأتي في مقدمتها التحديات الثلاثة التالية:

1- الازدواجية: فالسمة البارزة لدول ما بعد الاستعمار القديم، هي الازدواجية التي تسبَّبت في انشطار المجتمعات إلى قسمين لا تجمعهما إلا الرقعة الجغرافية؛ “دعاة الثقافة الأصلية” و”دعاة الثقافة الغربية”، مما جعل الصراع الفكري داخل المجتمعات العربية أمرًا طبيعيًّا تتوارثه الأجيال، وبالتالي سادت ثقافة الاحتراب التي تتغذى بالنفي والنفي المضاد، وغابت قنوات التواصل والحوار. ولابد لنزع فتيل الحرب الأهلية الثقافية التي تتهدد مجتمعاتنا، من تجاوز الازدواجية بابتكار صيغ تركيبية تعمل على إدماج “الآخر” أثناء عملية إعادة بناء الذات؛ هذه العملية التي لو أنها التزمت بتحديد التحديات القائمة وترتيبها حسب سُلَّم الأولويات، لظهر أن الصراعات الداخلية التي تستنزف طاقات مجتمعاتنا إنما هي ناتجة عن تناقضات ثانوية واهية بالمقارنة إلى التناقضات المركزية لهذه المجتمعات.(1)

2- تشتت القوى الفكرية في تحديد ماهية الحوار: تتطلب طبيعة التحديات، تجاوز الخلافات الداخلية والتناقضات الثانوية، حتى يتأتى اجتماع كل القوى الفكرية الصادقة على أهداف محددة ترتبط بطبيعة التحديات الحضارية. وفي هذا المضمار، يجب ترشيد الشباب لتشكيل جبهة ثقافية على أرضية فكرية تتكون أسسها من القواسم المشتركة.
وفي سياق الانتقال بالشباب من إشكالية تشتت القوى الفكرية في تجاوز خلافات الذات لحوار الآخر، يتعين علينا واجبًا توجيهه لمعرفة مَن الآخر المرشح لعقد الحوار معه، بحيث لا يوجد لدينا رؤية واضحة لماهية الحوار ومضمونه الحقيقي؛ هل هو حوار حضارات أم حوار ثقافات أم حوار أديان؟ هل الحوار مع الغرب أم مع حضارات أخرى؟ وإنْ كان مع الغرب، فهل الغرب واحد أم متعدد؟

موقفنا من الحوار هو دائمًا دفاعي تبريري يدور حول القضايا التي يفرضها الآخر علينا، يصوغها في شكل اتهام يرمينا به فنبدأ في شحذ الهمم لدرء شبهة هذا الاتهام دون أن نقدم أنفسنا حقيقةً للآخر بشكل إيجابي، فهل من خطط إستراتيجية لبناء ثقافة حوار شبابي حضاري يؤدي إلى إشراك فاعلينا وكوادرنا في التنافس الحضاري العالمي؟ هل عملنا على صياغة لغة حوار ممنهجة علميًّّا بدَلاً من لغة حوارية ضعيفة قد تساهم في كثير من الأحيان إلى تعزيز الحواجز لا إزالتها؟(2)

3- افتقاد الرؤية المتوازنة للحوار التام والحوار الناقص: يشير مصطلح الحوار إلى درجة من التفاعل والتثاقف والتعاطي الإيجابي بين الحضارات التي تعتني به، وهو فعل ثقافي رفيع يؤمن بالحق في الاختلاف إن لم يكن واجب الاختلاف، ويكرس التعددية، ويؤمن بالمساواة. وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجددًا منذ أن توقفنا عن صناعة تاريخنا، ونحن عبارة عن موضوع لفعل الغرب، يستثيرنا فننفعل، ويأتي ردُّ فعلنا موزونًا ومقاسًا على فعله. واليوم شبابنا محتاج لفعل تواصلي إنجازي حضاري، وليس لرد الفعل الآني غير التواصلي. أكثرنا الحديث عن دمج الشباب في الحوار، لكن لم نحدد لهم صياغة لآليات وأدوات هذا الحوار.(3)

الحوار التام والحوار الناقص

الحوار التام حوارٌ استخلافي تصل اللُّحمة فيه بين النظري والعملي. وهو حوار يتم بين “الذات”، ويستند فيه البحث النظري على “الاجتهاد الإجماعي”، كما يتقدم العمل فيه في مجال التطبيق على أساس “التواصي بالصبر”. في حين يكون الحوار الناقص حوارًا فصاميًّا، قوامه الزيف والشّرخ بين النظري والعملي، وهو حوار يجري بين “الآخر”. لكن من الممكن أن يتم هذا الضرب من الحوار (الحوار الناقص) بين مكونات الذات حينما يختل لديهم شرط التواصي بالحق والتواصي بالصبر. فالضربان من الحوار، يمكنهما الجريان في الملة الواحدة أو بين الملل والفلسفات والثقافات المختلفة. فوتيرة الحوار تراتبية قد تقف عند “حوار التعايش”، وقد ترقى إلى رتبة “حوار التعارف”.

والحوار الذي نسعى ترسيخه بين شبابنا، هو حوار يحتاج إلى إعادة تأصيله وفق رؤية اجتهادية موصولة ما بين العقلي والعقدي، وهو مختلف عن الحوار الذي يستند إلى باعث الضعف والتراخي والانكسار والانهزام وبالتالي التقليد والاستتباع المطلق. الحوار الشبابي مع الآخر، ينبغي أن يقوم على إرادة القوة بكل شروط مقدماتها الروحية والمادية عقليًّا وعقديًّا ومعرفيًّا واقتصاديًّا وأخلاقيًّا وتكنولوجيًّا، بحيث تتشابك وتتناغم إرادة القوة مع إرادة الفعل والإنجاز التي تمليها قوانين لغة التلاقي والحوار بين البشر ضمن أنساق حضارية مختلفة. ومن هنا، فإن منطق التدافع يفرض تعايش الحوار والاستعداد لتجنب الصراع المفتعل ضد المستضعفين، والاستضعاف نقيض العلو المشروط بالإيمان. وهذا يعني أن شرط الحوار السوي، ما كان مسبوقًا بإعداد القوة في صورة إنماء مستدام، يبدأ بالنفير الحضاري لا بالصدام الحضاري المفتعل والاستنفار الذي يستند إلى الإثارة.(4)

إن مقاربة رؤية حوار الشباب مع الآخر، تحتاج صياغة رؤية إسلامية اجتهادية ناضجة، تؤسس لنمط من “الحوار” يقوم على إرادة واجتهاد، قوة وأخلاق… حوار يقوم على خدمة الإنسان المستخلف في الأرض تحت القيم المتعالية لا فوقها، ليكون هذا الأخير مفتوحًا على التواصي الاجتهادي بالحق والصبر(**) وبذلك تقارب الرؤية منظورًا حواريًّا أخلاقيًّا في إطار الواجب “أخلاقيًّا”، الممكن “تحققًا”. لكن إلى أيّ حد يملك شبابنا أدوات وآليات الحوار الحضاري زمن العولمة ونظريات الصدام الحضاري؟!

ـــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) إنماء المجتمع الأهلي، كتاب الكلمة 2، بيروت: منتدى الكلمة للدراسات و الأبحاث، الطبعة الأولى، عام 1996، من المجتمع يبدأ الإنماء والنهوض، معن بشور، ص:72.

(2) تحديات العولمة والأبعاد الثقافية الحضارية والقيمية رؤية إسلامية، للكدتور نادية مصطفى، مجموعة مؤلفين مستقبل الإسلام، دار الفكر العربي، دمشق 2004.

(3) حوار الحضارات في عالم متغير لـ”السيد ياسين” المؤتمر الدولي حول صراع الحضارات أم حوار الثقافات، ص:37، مطبوعات دار التضامن 1997.

(4) العلاقات الدولية في الإسلام، لسيف الدين عبد الفتاح، ج:2، مدخل القيم إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة 1999.

(5) يقارب الدكتور محمد عابد الجابري مفهوم التنمية فيقول: إذا كانت التنمية هي “العلم حين يصبح ثقافة” فإن التخلف سيكون هو “العلم حين ينفصل عن الثقافة”، أو هو “الثقافة حين لا يؤسسها العلم”. راجع وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، للدكتور محمد عابد الجابري، الطبعة الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1994.