تجديد الذات هو الشرط الأول لمن أراد البقاء. ومن عجز عن تجديد ذاته وقت الحاجة؛ محكوم عليه بالزوال والفناء عاجلاً أم آجلاً مهما بلغ من القوة. كل كائن في هذا الوجود يحافظ على حيويته، ويواصل مسيرته عبر تجديدٍ لذاته. فإذا توقفت دورة التجديد، أصيب بالتآكل والبِلى كجثة انتُزِعت منها روحُها.

ما أروع بساط الأرض في موسم الربيع! كل شيء يسعى ليجدد ذاته. الأعشاب، والأشجار، والتراب الذي يؤوي ملايين الأحياء في جزء ضئيل بحجم الظفر. هيا اخرج إلى عالم الربيع، وخذ جولة بين الكائنات، لترى بهجتها، وتسمع تهليلها، وقد لبست حلتها الجديدة، وازّينت بنياشينها القشيبة، وانطلقت تنمو وتزدهر فرحة سعيدة. تأمل تلك الجوامد التي تبدو كالموتى بلا حراك كيف حوّلت وجه الأرض -من أوله إلى آخره- إلى ساحة عيد بهيجة كالجنان بشاراتِها الملونة الزاهية وأسلحتها المتنوعة، وكأنها جيوش تستعد لاستعراض رسمي. انظر كيف تضرب المثَل، بل آلاف الأمثال، بل ملايينها، لتَجدُّد عظيم يشمل الأرض كلها في آن واحد.

ثم ارجع البصر إلى هذا الكائن الذي أخذ ينبض بالحياة.. أترى كيف انخرط في مسيرة الانبعاث بأنفاس متتابعة!؟ واعطف على تلك النواة التي تبشر بتفتح زهرة جميلة.. أترى كيف تكابد آلام مخاض جديد.. وتلك الزهور التي تناثرت حُبيباتُها في الهواء.. كم هي رائعة.. وحبوب اللِّقاح التي تعلق بأرجل الحشرات لتنقلها إلى مواقع للتكاثر. أجل، كل شيء يتجدد، ومن تخلّف عن ركب التجديد؛ يفنى ويتلاشى بلا انبعاث مرة أخرى.

كذلك الإنسان ينبغي أن يجدد نفسه. فالدول والأمم بقدر تجديدها لذاتها في عمقها الفكري والعاطفي وفي حياتها القلبية والروحية وتدفّقها فتوة وشبابًا، تتأهل لتحمُّل مسؤوليات كبرى على مستوى المعمورة، وتغدو جاهزة لفتح العالم. أجل، فتح العالم من خلال إثراء العلوم بنور البصيرة، وتزويد التكنولوجيا بقيم الإيمان، ونفح الإنسانية بمعانٍ ورسائل تمكنها من الانبعاث؛ أما لو أخفقت الأمم والمجتمعات في ذلك التجديد، فإنها لن تنجو من الذل والهوان في جو من الأسر المهين.

ولكن حذار من الخلط بين تجديد الذات، والهيامِ بكل محدَث جديد أو الشغف بكل تقليعة مبهرة. فالتجديد الثاني ليس إلا محاولة لإخفاء التجاعيد بوضع طلاء على حشود سرى في وجوهها التمزق والتآكل وامتد إلى جميع أطرافها؛ أما التجديد الأول فسعي حقيقي لإرواء المجتمع بماء حياة من معين الخضر، ومنحِه سمةَ الخلود.

إن التجديد الحقيقي هو الارتقاء إلى فضاءات من التفكر أكثر جِدّة ووضوحًا عبر إنتاج تَواليفَ فريدة بين القيم التي توارثتها الأجيال وصقلتها قرنًا بعد قرن، وزبدةِ التجارب الفكرية والعرفانية الراهنة، مع الحفاظ على جوهر البذور وصفاء الجذور. أما وسم المرء بالجِدّة ووصمه بالقدم بناء على جاكتة لامعة أو فستان فاقع، أو معطف أنيق أو شعر مدهون، فسذاجة صارخة وانخداع مريع؛ والسعي إلى فرض هذا النوع من التفكير، ضرب من التحايل والتمويه والتهريج.

تجديد الذات حركة تسري في الخط الميتافيزيقي.. تجديد الذات انبعاث في الأفق الروحي.. انبعاث مع التزام تام بقيم الأصالة وعمق المقدسات. فإذا كان بعيدًا عن هذه المعاني، فهل يسمى انبعاثًا!؟

فإذا استطعنا أن نستثمر العلوم في تقدمها الهائل، والتكنولوجيا في إعدادها لنا إمكانات جديدة أفضل ما يكون الاستثمار، وتمكنّا من أن نلتفت إلى أعماق قلوبنا بالمجهر في أيدينا مرة بعد أخرى، نرصد مشاعرنا وأفكارنا، ونتتبع تصوراتنا ورؤانا، وأن نضيف معاني جديدة إلى خلية العرفان الكامنة في قرارة أفئدتنا كل يوم، وأن نمرر الأكوان كلها من موشور الروح عدة مرات في كل لحظة، وندرّب الأذهان على هذا النمط من الجهاد.. فذلك هو التجديد الحقيقي.

إن فردًا نجح في تجديد ذاته بهذا المعنى، يصبح ركنًا أساسيًّا من أركان المجتمع لا يذبل ولا يفنى، وإن مجتمعًا تَشكّل أفرادُه بهذا السمت، يرقى ليصبح جزءًا مهمًّا في المعادلات الدولية. بيد أن تجديدًا -كهذا- يشمل الأمة كلها، يقتضي طاقمًا وُفّق إلى تجديد ذاته أولاً. هذا الطاقم، له قلب يتقد إيمانًا ويتوهج أملاً، وله عقل يرفرف عاليًا نحو فضاءات فكرية جديدة في كل حين بفضل مئات من التراكيب التي توصل إليها، وتشع عيناه بحلم الغد المشرق. أجل، طاقم من القدسيين الأخيار، تمكنوا من تجديد أنفسهم. أما السعي إلى تنشئة أجيال طاهرة تَخلُف طاقم القدسيين هؤلاء، تحمل مشاريعهم ورؤاهم كالمشاعل، وتخلّدها في الحياة، فتلك قضية أخرى نؤكد على أهمية العمل عليها كذلك.

حينما أخفق الأمويون في إقناع المجتمع برؤى عمر بن عبد العزيز التجديدية التي اقترحها وقتئذ، لم يستطيعوا إنقاذ أنفسهم من الموت المحقق إزاء هجمات خصومهم الأشداء والتيارات الفكرية العاصفة، فاندثروا في ذلة وتلاشوا في مستنقع وخيم. الأمر نفسه ينطبق على العباسيين وأمويي الأندلس وأتراك العثمانيين بعد القرن السابع عشر.. هؤلاء الذين آثروا سياسة الأبواب المشرعة أمام كل جديد محدثٍ وتناقضٍ آكلٍ للروح بدل المبادرة إلى تجديد في القلب وانبعاث في تلك الروح.

والمؤسف أن الدول العظيمة تلك، عندما هزتها ضربات خصومها وجعلتها تتخبط وتترنح، هرعت إلى الفكر اليوناني والفلسفة اللاتينية تستنجد بهما، بدلاً من اللجوء إلى تجديد نفسها في بُعدها الروحي. بيد أن ذلك لم يُجدِ نفعًا، بل كان سببًا في تعجيل انهيارها، فلقيت حتفها في خط قدري مماثل.

أما المحاولات السخيفة التي قام بها “المستنير” العثماني باسم التجديد والتي جعلته مَسخرة، فقد انحرفت بمجتمعنا عن سمته الخاص، وحولته إلى مخلوق مشوه غريب.

نعم، لم تستطع فكرة “النظام الجديد”(1)، ولا مذبحة الإنكشارية(2)، ولا الفرمان السلطاني(3) الذي أعده دُمَى “كولخانة” المتحمّسون السذّج، أن تفتح للمجتمع العثماني الطريق إلى تجديد ذاته؛ بل نزلت تلك المحاولات التعيسة على المجتمع كالمطرقة، فحطمت رأسه، وأدخلته في حالة غيبوبة يرثى لها. لا ننفي وجود بعض المبادرات الخجولة والمحاولات النافعة في تلك الفترة، لكنها كانت -على الأغلب- محدودة الحضور، دفاعية الطابع، صدامية المزاج.. لذلك لم تأت بالتجديد المنشود.

بل يمكننا القول إن أسقام المجتمع ومشاكله التي كانت بادية مكشوفة، قد أخذت في التنكر والتخفي جراء التدخلات التعسفية، وباتت أكثر خطورة من ذي قبل. إن التدخلات التي تم اللجوء إليها في غير وقتها وغير محلها بُغيةَ علاج أمراض متفشية في المجتمع، لم تكن سوى مسكّنات لمريض يتلوى بآلام مبرحة لكي تقطع أناته، أو مشدّ خصر يوضع على الفتق حلاًّ مؤقتًا، فلم تُجدِ نفعًا سوى تسكين المريض فترة قصيرة.

في الحقيقة، إن كل ما بَشّرت به تلك الأرواح الميتة الذاهلة -التي ضلت طريقها فلا تدري لها مُتّجهًا- تحت شعار التجديد، لم يعدُ أن يكون خداعًا للحشود وتضليلاً. آه، ثم آه من تلك الحشود المخدوعة المضلَّلة! ليت شعري هل سنتمكن من أن نفقّهها كيف تجدد نفسها بالمعنى الحقيقي للتجديد؟!

 

(*) نشر هذا المقال في مجلة سيزنتي التركية، العدد 47 (ديسمبر 1982). الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.

الهوامش

(1) النظام الجديد: إصلاحات عسكرية أدخلها السلطان العثماني سليم الثالث لتحديث الجيش العثماني، عن طريق إعادة تنظيم الوحدات العسكرية العثمانية وتطوير أسلحتها، وتدريبها على نمط الجيوش الأوروبية الحديثة، وذلك في تاريخ 1792م. (المترجم)

(2)     مذبحة الإنكشارية: هي مذبحة جرت بعد ثورة الإنكشارية بإسطنبول في 14-15 يونيو عام 1826م في عهد السلطان محمود الثاني. وانتهت بإلغاء قوات الإنكشارية من الجيش العثماني، ليحل محلها قوات “العساكر المحمدية المنصورة” التي تم تدريبها على نمط الجيوش الأوروبية. (المترجم)

(3)     المرسوم السلطاني أو الخط الهُمايوني: هو الذي عُرف بفرمان التنظيمات، والذي أعلن عنه في حديقة “كُولْخانة” المجاورة لقصر توب قابي في إسطنبول عام 1839 في عهد السلطان عبد المجيد، حيث شمل إصلاحات دستورية طبعت صبغتها التغربية التحديثية على فترة طويلة عرفت بفترة “التنظيمات”. (المترجم)