بين عالمية الإسلام والعولمة

مفهوم عالمية الإسلام

إن دعوة الإسلام عالمية الهدف والغاية والوسيلة، ويرتكز الخطاب القرآني على توجيه رسالة عالمية للناس جميعًا، ووصف الخالق عز وجل نفسه بأنه “رب العالمين”، وعلى هذا فإن حضارة الإسلام قد قامت على القاسم المشترك بين حضارات العالم، فقبلت الآخر وتفاعلت معه أخذًا وعطاءً، بل إن حضارة الإسلام تعاملت مع الاختلاف بين البشر باعتباره من حقائق الكون، لذلك دعا الخطاب القرآني إلى اعتبار فوارق الجنس والدين واللغة من عوامل التعارف بين البشر، واتساقًا مع نفس المبادئ، يوحد الإسلام بين البشر جميعًا رجالاً ونساءً، في جزئيات محددة: أصل الخلق والنشأة، والكرامة الإنسانية، والحقوق الإنسانية العامة، ووحدة الألوهية، وحرية الاختيار وعدم الإكراه، ووحدة القيم والمثل الإنسانية العليا.

البداية الحقيقية والعملية لدعوة الإسلام العالمية هي هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وكان أول عمل قام به في دولته الوليدة مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار كدعوة لإعلان المساواة بين البشر جميعًا فلا تمايز بينهم إلا بالتقوى دون أدنى اعتبار لأصل أو جنس أو لون. ثم كانت الخطوة المحورية التي كانت بمثابة الأساس القوي المتين لبدء الدعوة العالمية وهي إصداره صلى الله عليه وسلم للعهد النبوي المسمى “بعهد الموادعة” أو “وثيقة الموادعة” كأول دستور في الإسلام معترفًا بتعايش الأديان المختلفة جنبًا إلى جنب مع الإسلام، فالدين الإسلامي ليس قاصرًا على مدينة محددة، ولا على أمة معينة، كما أن القرآن لا يميز طائفة من البشر على غيرها، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لغني على فقير، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى والعمل، ويحكمهم جميعًا قانون واحد هو القانون الإلهي الخالد والصادر عن رب البشر جميعًا، وهو الله عز وجل.

وبهذا رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم صورة إنسانية، ووضع الإسلام بمبادئه السمحة نظامًا للتعاون والمواساة، فجمع قبائل العرب تحت لوائه وألف بين قلوبهم، وقضى على العصبية الجاهلية، وقضى على الكثير من العادات التي كانت تحط من قدر الإنسان، كالأخذ بالثأر، والزنى، ووئد البنات، والربا، ولهذا انطلق المسلمون بعقيدتهم صوب أرجاء المعمورة المختلفة تحقيقًا لقول الحق سبحانه “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” (الأنبياء: 92) وهو ما يؤكد على أن الإسلام دين عالمي في مبادئه وأنظمته، ومن يدقق في جوانب الإسلام سواء كان ذلك من الأمور السياسية أو الاقتصادية أو العلاقات الدولية أو في العلاقات مع غير المسلمين أو في الجانب الأدبي أو التربوي، يصل إلى حقيقة عالمية الإسلام وأن هذا الدين الخاتم ليس لفترة محددة ولا لشعب أو أمة واحدة، وإنما هو دين لكل زمان ومكان.

مفهوم العولمة الغربية

العولمة Globalization  من المصطلحات التي شاعت في السنوات الأخيرة، للدلالة على ظاهرة جديدة، ويعني في نظر البعض ظاهرة اقتصادية تهدف إلى الهيمنة الأمريكية، وتعني هيمنة التكنولوجيا الأمريكية على اقتصاديات العالم، وإزالة الحواجز والمسافات بين الثقافات والشعوب والأوطان بعضها البعض، وبذلك يقترب من مفهوم الثقافة الكونية أو السوق الكونية أو الأسرة الكونية.

ويقيم مفهوم العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل، الأقتصاد، السياسة، الثقافة، الايديولوجيا، وبالتالي تعني: “القوى التي لا يمكن السيطرة عليها للأسواق الدولية والشركات متعدة الجنسية، التي ليس لها ولاء لأية دولة قومية، وفي نفس الوقت تعني حرية حركة السلع والخدمات والأيدي العاملة ورأس المال والمعلومات عبر الحدود الوطنية والأقليمية، وهي نظام عالمي جديد يقوم على العقل الإليكتروني والثورة المعلوماتية، من دون الإعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيمم والحدود الجغرافية والسياسية القائمة في العالم، والدخول في طور من التطور الحضاري يصبح فيه مصير الإنسانية موحدًا.

مجالات العولمة وأدواتها

تعرف العولمة نوعين هما: عولمة الإعلام والثقافة والاتصالات، وعولمة الاقتصاد والسياسة، لتقوم بالربط بين مجالات الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، وانعكاس ذلك على الاقتصاد والسياسة في العالم، إذ إن النمو السريع في التجارة العالمية، خاصة قطاع الخدمات أدى إلى زيادة ملحوظة في حركة الرأسمال الدولي، وبات الاقتصاد يقوم على الجدارة العالية والتكنولوجيا المتقدمة، وبالتالي فإن ظاهرة العولمة ليست في مصلحة الدول الفقيرة والنامية، إذ إنها بالعولمة تهرب من الاستغلال الاستعماري الكولونيالي في الماضي لتقع في ديكتاتوريات السوق والعولمة التي تحمل شعارات التنقنية والتكنولوجيا والعلم الحديث. وتتعدد أبعاد ومجالات العولمة ما بين: الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 أما العولمة الثقافية فتعني سيطرة ثقافة الغرب على الثقافات الأخرى، وبناء ثقافة كونية شاملة للنشاطات الإنسانية المختلفة، لتظهر أخطر سلبياتها في خلط الثقافات من خلال محاولة إحلال مفاهيم الثقافة والحضارة العلمانية الغربية الحديثة محل الثقافة ومفاهيم الحضارة الإسلامية في المجالات المختلفة، أو محاولة إيجاد ثقافة واحدة سائدة ومسيطرة على العالم، بغض النظر عن المفهوم الأخلاقي أو العلمي لتلك المعايير.

والعولمة السياسية تتحدى الدول القومية لتفتح حدودها لنوع جديد من التنافس الحر، حيث تنطوي على تفتيت الحدود الوطنية واضعاف السلطة الوطنية وقدرتها على تطبيق القوانين الوطنية داخل تلك الحدود، وعلى التحكم في تدفقات وانسياب رؤوس الأموال، وبهذا تهدف العولمة في مفهومها السياسي إلى فرض الهيمنة الغربية بهدف حماية مصالحها الاقتصادية.

وفي مفهومها الاقتصادي ترتكز على هدفين: الأول الإبداع والتطوير والتجديد في داخل النظام الرأسمالي بهدف تحقيق نمط نموذجي بالقوة الاقتصادية والعسكرية والحضارية والسياسية يتميز بها عن أي نظم أخرى يمكن أن تنافسه، والثاني دعم الهيمنة الخارجية من أجل تحقيق الهدف الأول، وبهذا تهدف العولمة إلى تدمير كل الأبعاد المحلية للأسواق الاقتصادية لتصبح سوقًا عالمية، ومن ثم فالعولمة لها أثار اقتصادية سلبية على قيم وسلوكيات الفرد والمجتمع.

أما العولمة الاجتماعية فهي عبارة عن الاغتراب، والفردية، والمادية، والاستهلاك الترفي، الأمر الذي يجعل الدولة في إطار العولمة مضطرة إلى تقليص برنامج الرعاية الاجتماعية وبخاصة دعم غير القادرين وإلغاء التأمين على الطبقة الدنيا والأفراد الأكثر تعرضًا للمخاطر، مما ينجم عنه تخلخل النسيج الاجتماعي. فالعولمة الاجتماعية تهدف إلى سحق الهوية الشخصية الوطنية وإعادة تشكيلها في قالب هوية وشخصية عالمية يفقد فيها الفرد جذوره ويتخلى عن ولائه وانتمائه وقيمه وأخلاقه لقيم وأخلاقيات الدول المسيطرة المتمثلة.

مقارنة بين العالمية الإسلامية والعولمة

لقد أستطاعت الأمة الإسلامية، عندما امتدت وترامت أطرافها، أن تقدم للإنسانية نموذجًا للعولمة، يختلف عن النموذج الغربي المعاصر، فقد ساد الإسلام معظم أرجاء العالم في العصور الوسطى بمبادئه من الأخوة في الشعائر، والتآلف في القلوب، فلا تفاضل حسب الأوضاع الاجتماعية أو الاقتصادية أو الجنسية بل بحسب التقوى وحدها، مستنكرًا بذلك كل أشكال التمييز العنصري.

ولم تجبر عالمية الإسلام أحد على اعتناقها، فتتضمن دعوة للسلام وحسن الجوار والمعاملة الطيبة واحترام الحقوق والمواثيق ونبذ العدون إلا في حالة الدفاع ورد الاعتداء على الأمة الإسلامية، فمن يعتدي على دين الله أو المسلمين أوجب الإسلام رد عدوانه كسبب للحروب لا للإستعمار والهيمنة.

ولكن هناك في الواقع فرق كبير بين مضمون العالمية الذي جاء به الإسلام، ومضمون العولمة التي يدعو إليها اليوم الغرب عامة فالعالمية في الإسلام تقوم على أساس تكريم بني آدم جميعًا “ولقد كرمنا بني آدم” (الإسراء: 70)، فقد استخلفهم الله في الأرض، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض على أساس المساواة بين الناس فـي أصل الكرامة الإنسانية، وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأنهم جميعًا شركاء في العبودية لله تعالى، وفي البنوّة لآدم، كما قال الرسول الكريم أمام الجموع الحاشدة في حجة الوداع: “يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا أسود على أبيض، إلاّ بالتقوى…”. وهو بهذا يؤكد ما قرره القـرآن الكريم في خطابه للناس كافة: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات: 13). ولكن القرآن في هذه الآية التي تقرر المساواة العامة بين البشر، لا يلغي خصوصيات الشعوب فهو يعترف بأن الله تعالى جعلهم “شعوبًا وقبائل” ليتعارفوا.

أما العولمة في معناها العالمي اليوم فإنها تعني فرض هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية معينة على  العالم، وخصوصًا عالم الشرق، والعالم الثالث، وبالأخص العالم الإسلامي، إنها لا تعني معاملة الأخ لأخيه كما يريد الإسلام، ولا معاملة الند للند كما يريد الأحرار والشرفاء في كل العالم، بل تعني معاملة السادة للعبيد والعمالقة للأقزام والمستكبرين للمستضعفين.

وقضية الاعتراف بالخصوصيات قضية في غاية الأهمية، حتى لا يطغى بعض الناس على بعض، ويحاولوا محو هويتهم بغير رضاهم؛ بل نجد الإسلام يعترف باختلاف الأمم، وحق كل أمة في البقاء حتى في عالم الحيوان، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها”(رواه أبو داود)، وهو يشير إلى ما قرره القرآن في قوله تعالى: “وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم” (الأنعام: 38).

المصادر والمراجع 

  • السيد ياسين (وآخرون): العرب والعولمة، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998).
  •  إيريك هوبزباوم: العولمة ةوالديمقراطية والإرهاب، نقله إلى العربية أكرم حمدان ونزهت طيب، (بيروت والدوحة: الدار العربية للعلوم ناشرون ومركز الجزيرة للدراسات، 2009).
  •  جلال أمين: العولمة، (القاهرة: دار الشروق، 2001).
  •  حسين عبد الحميد أحمد رشوان: العلمانية والعولمة من منظور علم الإجتماع، (الإسكندرية: مركز الإسكندرية للكتاب، 2005).
  •  كامل أبو صقر: العولمة التجارية والإدارية والقانونية رؤية إسلامية، (بيروت:دار الوسام للنشر والتوزيع، 2000).
  •  محمد عبد القادر حاتم: العولمة.. ما لها وما عليها، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005).
  • محمد عمر الحاجي: العولمة أم عالمية الشريعة الإسلامية، (دمشق: دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع، 2002).