من الناس من يصطنع الأصدقاءَ، ومنهم من يصطنع الخصومَ والأعداء.. ومن الناس من يسعى لتوحيد الصف، ومنهم من يسعى لتفريقه. ومن الناس من يتَّسع خندقُه لكل من لم يكن عدوًّا له، ومنهم من يضيق خندقُه إلا على من كان مطابقًا له في آرائه وتصوراته. ومنهم من ينظر إلى كل من لم يكن ضدَّه على أنه معه، ومنهم من ينظر إلى كل من لم يكن معه أنه بمجرّد ذلك قد اصطفَّ مع عدوه.

إن صناعة الأعداء وتفريق الجماعات والتخندق ضدَّ الآخرين، واصطناعَ الصفوفِ المتضادّة والاصطفافَ فيها؛ له وصفته السهلة والتي لا تحتاج ذكاءً ولا علمًا، ولا خططًا طويلة الأمد ولا أفكارًا عميقة. عليك فقط بواحد من المواقف التالية:

أولاً: اجعل كل من خالفك في اجتهادك خصمًا، ولا تَنْسَ اتّهامَه في دينه بالبدعة أو النفاق (والنفاق أولى) وفي أمانته بالخيانة والعمالة (والعمالة أحرى).

ثانيًا: اجعل غالبَ اجتهاداتك الظنيّةِ مسائلَ مقطوعًا بها، وابحث في التراث عن دعاوى الإجماع عليها؛ إذ كيف تهاجم مخالفك بترجيحات ظنية وأنت الذي يتشدق بكلمة الإمام الشافعي: “قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول مخالفي خطأ يحتمل الصواب”، فلا بد من ادعاء شذوذ المخالف ومن ادعاء مخالفته للإجماع، ولا بد من زعم مناقضة قوله الأدلةَ القطعية.

ثالثًا: عليك أن تتوجَّس خيفةً من كل نقد؛ فالنقد بريدُ الزَّندقة، لأن نقدك هو كشف لعورتك أمام العدو، ولا يكشف عورة الأتقياء أمام الأعداء إلا الزنادقة المنافقون.

رابعًا: لا تعترف بالخطأ، بل اجعل الخطأ صوابًا؛ لأن اعترافك بالخطأ فَتٌّ في عضد الأخيار وتَـخَنْدُقٌ مع الأشرار.

من الناس من يتَّسع خندقُه لكل من لم يكن عدوًّا له، ومنهم من يضيق خندقُه إلا على من كان مطابقًا له في آرائه وتصوراته. ومنهم من ينظر إلى كل من لم يكن ضدّه على أنه معه.

خامسًا: ارفض كل جديد وتجديد؛ لأن التجديد لا يقوم إلا على أساسِ اعترافٍ بوجود الخطأ أو بوجود النقص، والاعتراف بالخطأ خطرٌ كبير على مسيرة الصحوة المباركة كما سبق، بل يجب أن ترفض التطوير أيضًا؛ لأن قبول التطوير قبولٌ ضمني بوجود نقص، وهذا ينافي كمال منهج أهل السنة والجماعة الذي نحن عليه بكل حذافيره، فحذار من الانزلاق في وهم التطوير الخطير على المعتقد؛ فهو فسادُ الدين والدنيا.

لكن لا بأس من تطوير يقوم على تبادل الأدوار، وتغيير مكيفات الهواء، وتكييف الغرف غير المكيفة، وافتتاح موقعٍ في النت.. فهذا ونحوه هو التطور المسموح به. وتَنبّهْ مِن أن يجعل المتلوّنون هذا التطوير وسيلة لتطوير الاعتراف بالخطأ والإقرار بالنقص، فإن لزم الأمر فَـقُمْ بسدّ هذه الذريعة السلولية -نسبة لعبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين- وهي هذا التطوير الخبيث.

سادسًا: سيتَّهمك المنافقون باعتقاد العصمة والتنزُّه عن الخطأ؛ لأنك ترفض النقد والاعتراف بالخطأ، فلا تلتفت لذلك، فإن عصمة منهجك مستمدٌّ من عصمة الكتاب والسنة ومن عصمة منهج السلف الصالح، وأنت الوريث الشرعي الوحيد لذلك المنهج المعصوم، فهجومك على منتقديك ليس ادِّعاءً لعصمتك في الحقيقة وإن لزم منه ذلك، لكنه هجومٌ منطلقٌ من عصمة الوحي الذي قد تَمثَّـله السلفُ وكنتَ أنت امتدادَهم.

سابعًا: احذر من دعاة التوسط والاعتدال؛ فهم لا يفهمون من التوسُّط والاعتدال إلا تخطيئك، وإلا التوسط بين الحق والباطل، والاعتدالَ مع الأعداء، بتمييع المبادئ وتضييعِ العقائد؛ فالذي يتوسط بينك وبين خصمك ما هو إلا كالذي توسّط بين أبي جهل وأبي طالب، ما زاده توسّطه إلا بعدًا عن الحق الذي أنت عليه؛ لأنك أنت هو الحق، والحق معك حيث دُرت دار الحق معك.

وأما ذاك الذي يعدل مع المخالفين، فهو يعطيهم حقًّا لا يستحقونه؛ فالعدالة لا تكون مشروعةً إذا شُرعت سيوفُ الحق، ونادى على المبتدعة منادي الجهاد: “الله أكبر”! فالظلم حينئذ سيكون هو قمة العدالة: فَكَفِّرْ وزَنْدِقْ وفَسِّقْ، وتَفاصَحْ بالشَّتْم والفُحش والافتراء.. فالمؤمن يُستحَبُّ له في بعض المواطن -مثل هذا الموطن- أن يكون فَحّاشًا لَعّانًا بصّاقًا، بل ربما وجب ذلك عليه، فأنت تقوم مقامَ حسان بن ثابت: “اهْجُهم وروح القدس معك”!

ثامنًا: أثبت ولاءك للعلماء الذين يقومون بدور الحارس لآرائك، فأنت لا تدافع عنهم؛ لأنهم على رأيك وموافقون لاجتهادك، بل لأن رأيك واجتهادك لا يجوز أن يُوصَف أصلاً بأنه رأيٌ واجتهاد، فهو حُكْمُ الله ودين الله. ولا يُلبِّس شياطينُ الإنس والجن عليك بأن دفاعك عن هؤلاء العلماء ما هو إلا دفاع عن نفسك؛ فهذا غير صحيح، فالحق ومنهج السلف لا يقبل التهاونَ بقبول النقد والتخطيء.

تاسعًا: من خالفك جاهل أو متجاهل: هذه هي تعويذة الصباح والمساء.

وأما تسبيحاتُ أدبار الصلوات: فـ”سبحان” من خَلَقَنا على الهدى وخلق غيرنا على الضلالة، و”الحمد الله” على حِفْظِ طائفتنا فهم أمانٌ لأهل الأرض، و”الله أكبر” ما أعظم فِكْرَنا الذي احتكر الحق والحقيقة فلا يعرف العلمُ غيرَ مدرستنا، ولا يمرُّ الحق بغير دروبنا، ولا يمكن أن يجتمع علماؤنا على ضلالة.

وأما “الاستغفار” فأكثر من الاستغفار للإمام مالك بن أنس، كيف احتج بإجماع أهل المدينة (الذي يُنسب إليه)؟! أين هو عن عمل علمائنا الذين لا يجتمعون على ضلالة؟! ولو أن الإمام مالكًا فعل ذلك، لما وجد من يأخذ عليه هذا الاحتجاج، كما أُخذ عليه احتجاجه بعمل أهل المدينة.

هذه مواقف عشرة، كل واحد منها كافٍ وافٍ في اصطناع العداوات، وخندقة الجماعات، واختلاق المعارك الوهمية؛ فهم يلعبون بالشطرنج، لكنهم نقلوه من رُقعةِ اللعب إلى رُقعةِ الأُمّةِ! 

عاشرًا: من انتقد شيئًا من هذه المواقف السابقة، فلا تتردّد طرفةَ عينٍ في أن تجعله عدوًّا لك، ولا تبخل عليه بالشتائم وبالاتهام في الدين بالتبديع والتفسيق، وطالبه مع ذلك كلِّه بأن يتسامح معك كما تسامح مع الكفار وأهل البدع. فما هذا التناقض الذي يمارسه هؤلاء المتلوّنون.. فهم يتسامحون مع الكفار والمبتدعة بالمطالبة بعدم ظلمهم، ولا يتسامحون معنا بمطالبتنا بالعدل معهم.. وينطقون بنقد أخطائنا وبيان ظلمنا، مع أن أخطاء أهل البدع أقبح وظلمهم أشد.. فلماذا لا يتسامحون مع نقدنا لهم.. لماذا لا يتسامحون مع وصفنا لهم بالحق، و”باسم أهل السنة والجماعة” بأوصاف التمييع والتضييع والجهل والفسق والنفاق.

هذه مواقف عشرة، كل واحد منها كافٍ وافٍ في اصطناع العداوات، وخندقة الجماعات، واختلاق المعارك الوهمية؛ فهم يلعبون بالشطرنج، لكنهم نقلوه من رُقعةِ اللعب إلى رُقعةِ الأُمّةِ! فهم مَنْ رَسَم الرقعة التي على أساسها تكون العداوات، وهم من يَصُـفُّون من شاؤوا في صفِّ العدو أو في صف الصديق، وهم من يختلقون المعارك، وهم من يخوض هذه المعارك الوهمية.

فليت هؤلاء حين أباحوا لأنفسهم أن يرسموا رُقعةَ عداواتِ الأمة، وقبل أن يَصفُّوا من يعدُّونه عدوًّا أمام الصف الذي وقفوا معه، ليتهم أباحوا رقعة الشطرنج أيضًا.

(*) كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى/ المملكة العربية السعودية.