العقل المؤيد بالإيمان عند النورسي أو اتصال الآيات والقيم

يعرّف الإمام النورسي العقل بأنه آلة تابعة لإرادة الإنسان بعد أن تُعَيّن له الحق من الباطل والخير من الشر، فإنها -أي الآلة- لا مدخل لها في الفعل من حيث الاختيار. فالإنسان قد يعرف الشر بعقله ويأتيه مع علمه بضرره اللاحق له أو لغيره في العاجل أو في الآجل، ويعرف الخير ويتركه مع علمه بنفعه وهو سر الابتلاء. ولهذا لم يكن امتلاك هذه الآلة وحده كافيًا ليحقق ماهية الإنسان وسعادته، ما لم يؤيد بالإيمان الذي يحمل الكائن الإنساني على الفعل الخَيّر (فعل الاستخلاف). بل إن العقل الآلة، ما لم يستعمله الإنسان في طريق الخير المطلق أو في سبيل الله -كما يرى النورسي- “فإنه يتحول إلى عضو مشؤوم مزعج وعاجز، إذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذٍ إلى درك آلة ضارة مشؤومة. ألا ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس في اللهو أو السكر إنقاذًا لنفسه من إزعاجات عقله؟”. وليس هذا الهروب سوى قطع للعقل، بما هو آلة إدراك للعالم عن الفعل النبيل والبناء في هذا العالم، بما هو الفعل نفسه إدراك للغاية التي من أجلها خلق الكائن الإنساني ولأجلها كُرِّم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56)، حيث لا يستقيم وجود عبادة بدون عقل، ولا عقل بدون عبادة.

مراتب الوجود ومراتب العقول

ذهب النورسي إلى أن “أهل الحكمة وأهل الدين وأصحاب العقل والنقل، متفقون ضمنيًّا على أن الموجودات لا تنحصر في عالم الشهادة هذا، وأن عالم الشهادة الظاهر الجامد الذي لا يكاد يتفق مع إقامة الأرواح وتشكلها، قد تزين بهذا العدد الهائل من ذوي الأرواح والأنسام، لذا فالوجود لا يمكن أن يكون منحصرًا فيه، بل هناك طبقات أخرى كثيرة من الوجود، بحيث يصبح عالم الشهادة بالنسبة لها ستارًا مزركشًا. وما دام عالم الغيب وعالم المعنى ملائمين للأرواح -كملائمة البحار للأسماك- فلابد أنهما يزخران بأرواح ملائمة لهما”.
عوالم بعضها فوق بعض، وعقول بعضها أيضًا فوق بعض، ومنزلة العقل المادي فيها لا تعدو منزلة خفاش “جيد الإبصار في ظلمات الكون المادي وما أودع الله فيه من أسباب، حتى إذا خرج من كهفه ذاك إلى حيث تسطع شمس حقائق الغيب عمي عمى مطبقًا، وأنكر أن يكون في الوجود غير ما وقع عليه حسه الكليل”.
ولما تعددت مراتب الوجود وطبقاته، حتى كان الوجود الحسي أدناها ولا يمثل شيئًا أمام عظم الوجود عامة، كانت العقول أيضًا مراتب يوافق منها كل واحد مرتبة من مراتب الوجود. فعلى قدر تحقق الإنسان بواحد من هذه العقول، كان له الاطلاع اللائق بالمرتبة المطلوبة من الوجود المتواري خلف الحس. وهذه العقول تتدرج في القوة حتى يكون أضعفها هو العقل الحسي المجرد وأقواها هو العقل الإيماني المؤيد، وبينهما مراتب من العقل الشرعي المسدد.
وإن معارف المراتب العالية من الوجود الخارجة عن الحس، يتلقفها العقل الإيماني المؤيد لمعات لا يستقيم تناولها بميزان العقل المجرد وقوانينه، بل إن اللغة نفسها تضيق فلا تتسع للتعبير عن هذه الحقائق المتوارية، و”عدم التعبير ليس عَلَمًا على عدم الوجود. فكما أن اللسان كثيرًا ما يتقاصر عن أن يترجم عن دقائق ما في تصورات العقل، كذلك قد لا يتراءى بل يتغامض عن العقل سرائر ما في الوجدان، فكيف يترجم عن كل ما فيه؟”.
وإذا كان هذا في سرائر الوجدان، فكيف بسرائر الأكوان مما هو كائن أو كان خصوصًا إذا تفاعلت النفس بهذه اللمعات، يقول النورسي: “لقد مازج هذه اللمعة شيء من الأذواق والمشاعر، فأرجو عدم تقييمها بموازين علم المنطق، لأن ما تجيش به المشاعر لا يراعي كثيرًا قواعد العقل ولا يعير سمعًا إلى موازين الفكر”.
إنها حقائق الوجود حين تتأبى على الوصف، وتخرج عن طوق الترسيم كما قال النفري صاحب المواقف والمخاطبات: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”.

ارتقاء العقل

لقد أبان النورسي -رحمه الله- على أن منهج التربية في القرآن كما يعلي من قيمة العقل بما هو حاكم وسبب في رقي الإنسان وصناعة تطلعاته في الحياة، وبما يمنحه من قدرات على الابتكار والإبداع في دنيا الابتلاءات، فإنه في مسيس الحاجة لنفحة الإيمان تحفظه من المهالك وتجعله على أقوم المسالك. إذ العقل عند الإمام النورسي، في مسيس الحاجة لنفحات الرحمن والاتصال بالمطلق (الله) حتى يجد معنى حقيقيًّا لهذه الحياة، ويبقى على خط البناء والعمران لا الهدم والخسران.
والبقاء على خط الاستقامة والبناء، يستلزم صراعًا مستمرًّا مع خصوم الإنسان وأعدائه في الداخل والخارج على محور الابتلاء… ولهذا كان الإنسان دائم المراوحة بين الذكر والغفلة، “وعندما تهيج أحاسيسُ الإنسان، لا ترضخ لموازين العقل، بل الهوى هو الذي يتحكم، فيرجح عندئذ لذةً حاضرةً ضئيلة جدًّا على ثواب عظيم في العقبى، ويتجنب ضيقًا جزئيًّا حاضرًا أكثر من تجنبه عذابًا أليمًا مؤجلاً. ولما كانت الدوافع النفسانية لا ترى المستقبل بل قد تنكره -وإن كان هناك حثًّا لها من النفس وعونًا- فإن القلب والعقل اللذين هما محل الإيمان، يسكتان فيُغلبان على أمرهما. فلا يكون عندئذ ارتكاب الكبائر ناتجًا من عدم الإيمان، بل من غلبة الهوى وسيطرة الوهم والحسّ المادي، وانهزام العقل والقلب وغَلَبة كل أولئك عليهم”.
والإنسان إذا تدارك غفلته، فتاب عقله عن عنجهيته وتمرده على خالقه، وسجد بين يديه سبحانه معترفًا بالتقصير والضعف والتناهي، تداركته يد العناية، فيتحول العقل الجامد إلى عقل حي، وينقلب العقل المحبوس إلى عقل منطلق، ويرتفع الإنسان من وهدة البهيمية الراتعة بلا مسؤولية ولا رقابة أخلاقية إلى مراقي التشريف والتكريم، يقول الإمام النورسي رضي الله عنه: “وانظر إلى الإنسان كيف ترقَّى من حضيض الحيوانية الذي هوى إليه بعجزه وفقره وبعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل، ترقّى إلى أوج الخلافة بتنور ذلك العقل والعجز والفقر. فانظر كيف صارت أسبابُ سقوطه -من عجز وفقر وعقل- أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني”.
وحقيقة ارتقاء العقل لا تكون إلا بأخذه بالإيمان وبالقيم الأخلاقية، وإلا استحال أمر تحكيمه منفردًا إلى ضرب من التأليه الذي يودي بالحياة الإنسانية إلى أتون الفوضى والاقتتال، يقول النورسي: “القلب الإنساني إذا انتزع منه الرأفة والرحمة والاحترام، فإن العقل والذكاء يسيطران -عندئذ- على زمام الإنسان، ويجعلان أولئك الناس كالوحوش الضارية والكلاب المسعورة”.
وهكذا فإن الترتيب الفطري للإنسان يرفع القلب إلى مقام الإمارة، ويجعل العقل وزيرًا له والحواس خَدَمَة، فإذا فسدت الفطرة تَأَمَّر العقل، وتمرد على القلب ومعانيه، وهذا فساد العقل الفلسفي العبثي، فإن فسدت الفطرة الفساد التالي للفساد الأول، الملازمَ له، الناتجَ عنه، تَأَمَّرَ الهوى بشهواته، وسَخَّرَ العقل لأغراضه، وطرد معاني القلب من القيم الإيمانية العالية.
وقد استمر النورسي طوال حياته، يدافع عن العقل الأخلاقي الذي يرجح القيم الإنسانية النبيلة على القيم الإنسانية المنحطة، ويذكر في كل مناسبة أن قيمة العقل من قيمة الأخلاق التي يدافع عنها، يقول: “فلئن كانت المداهنة والتملق والتزلف وفداء المصلحة العامة في سبيل المصـلحة الخاصة، تعدّ من مقتضى العقل… فاشهدوا أني أقدم براءتي من هذا العقل، مفتخرًا بالجنون الذي هو أشبه ما يكون بمرتبة من مراتب البراءة”.

العقل مفتاح الكنـوز الخالدة

حتى يكون العقل مفتاحًا للكنوز عند الإمام النورسي -رحمه الله- ينبغي أن يرتبط بالقرآن الكريم، وبتصوره الشمولي الذي يتحدث أول الأمر عن العقل بما هو فعل القلب، وليس مفصولاً عنه. بل الممارسة العقلية في أجلى صورها تكون من هذا المنطلق الرباني إشعاعات قلبية مهتدية بهداية القرآن، وهذا معنى قول النورسي: “نور العقل يشع من القلب”.
فلا إشعاع للعقل حتى يكون القلب مصدره الذي يخرجه مخرجًا إيمانيًّا، حيث يجمع العقل المؤمن آنئذ بين قراءتين في سهولة ويسر وانسجام ووئام؛ قراءة كتاب الله المسطور، وقراءة كتاب الله المنظور “للخروج من إسار الأمية بكل أشكالها ومعانيها… كتاب منزل متلو معجز وهو القرآن، وكتاب مخلوق مفتوح وهو هذا الخلق والكون والتجارب البشرية فيه”.
والعقل المفتاح عند النورسي، عقل متجاوز باستمرار لقشور الحكم إلى لب الحكمة، فهو مفتاح رائع، “بحيث يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية وكنوز الحكمة الربانية، فأينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر، يرى الحكمة الإلهية في كل شيء وكل موجود وكل حادثة، ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة مرشدٍ رباني يهيئ صاحبه للسعادة الخالدة”.
ويشترط النورسي حتى يكون العقل مفتاح الكنوز، أن يتحلى بالتوحيد، حتى يخرج من الوحشة والخوف والضعف، ذلك أن “التوحيد هو نفسه أوضح برهان وأسطع دليل على الكمال والجمال الإلهي، لأنه إذا عُرف أن صانع الكون واحد أحد، فسيُعرف جميع أنواع الكمال والجمال المشاهَدة في الوجود، بأنها ظلال وتجليات وعلامات لأنواع الكمال المقدس وأنماط الجمال المنزّه لذلك الصانع الواحد الأحد، لذلك الكمال المقدس والجمال المنزه. بينما إذا لم يُعرف الصانعُ الواحد، فستحال تلك الكمالات وأنواع الجمال إلى الأسباب التي لا شعور لها وإلى مخلوقات عاجزة، وعندها يحار العقل البشري أمام خزائن الكمال والجمال السرمديين، لأنه فَقَدَ مفتاح تلك الكنوز الخالدة”.

منطق السببية والعقل الملكي

يتحدث النورسي عن عَبَدة الأسباب، والذين يحيلون الخلق والإيجاد إلى الوسائط، ويسندون إليها التأثير، ويريدون بلوغ حقيقة الحقائق، ومعرفة الله جل جلاله عن طريق العقل والفكر وحده، كالحكماء المشائيين.
كما اجتهد الإمام النورسي -رحمه الله- في الرد على حجج فلاسفة الحتمية السببية بمنطق يشي بمعرفة واسعة بمذاهبهم، وفي الوقت ذاته باطلاع واسع على أدبيات المتكلمين والفلاسفة المسلمين. كما يظهر للقارئ أن مناقشته للحتميين، شبيهة بمناقشة الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة في إبطال قولهم في استحالة خرق العادات، وهو مبحث خصصه لنفي رجوع الاقتران لمنطق السببية، بل لما سبق من تقدير الله سبحانه، يخلقها على التساوق لا لكونه ضروريًّا في نفسه غير قابل للفرق. يقول الإمام النورسي: “أيّ هذرٍ هذا، وأيّ وَهْم! أليس الذي يتفوه به بعيدًا كل البعد عن سلامة العقل؟ فالذين يحيلون أمر الخلق والإيجاد في هذا الكون البديع، إلى الأسباب وإلى الطبيعة يهوون في جهل مركب سحيق كهذا، وذلك لأن مظاهر الإبداع واضحة على الأسباب والطبيعة نفسها، فهي مخلوقة كسائر المخلوقات. فالذي خلقها -على هذه الصورة البديعة- هو الذي يخلق آثارها ونتائجها أيضًا ويظهرها معًا”.
ويوضح النورسي أن الأسباب إنما وُضعَت “لتبقى عزةُ القدرة مصونةً من جهة نظر العقل الظاهري؛ إذ إن لكل شيء جهتين -كوجهي المرآة- إحداهما جهة “المُلك” الشبيهة بالوجه المطلي الملوّن للمرآة، الذي يكون موضع الألوان والحالات المختلفة، والأخرى جهة “الملكوت” الشبيهة بالوجه الصقيل للمرآة. ففي الوجه الظاهر -أي جهة المُلك- هناك حالات منافية ظاهرًا لعزة القدرة الصمدانية وكمالِها، فوُضعَت الأسبابُ كي تكون مرجعًا لتلك الحالات ووسائلَ لها. أما جهةُ الملكوت والحقيقة، فكلُّ شيء فيها شفافٌ وجميلٌ وملائمٌ لمباشرةِ يدِ القدرة لها بذاتها وليس منافيًا لعزّتها. لذا فالأسباب ظاهرية بحتة، وليس لها التأثير الحقيقي في الملكوتية أو في حقيقة الأمر”.
وحينما يقارن النورسي بين منطق القرآن ومنطق المتكلمين، يفصح عن صورة تقدم الوحي وترفعه فلا توازيه في منزلته الإقناعية منزلة المتكلمين مهما تفننوا وبرعوا، فيقول: “فمن هذا السر يتبين أن علماء الكلام، وإن تتلمذوا على القرآن الكريم وألّفوا ألوف الكتب -بعضها عشرات المجلدات- إلا أنهم لترجيحهم العقل على النقل كالمعتزلة، عجزوا عن أن يوضحوا ما تفيده عشرُ آيات من القرآن الكريم وتثبته إثباتًا قاطعًا بما يورث القناعة والاطمئنان، ذلك لأنهم يحفرون عيونًا في سفوح جبال بعيدة ليأتوا منها بالماء إلى أقصى العالم بوساطة أنابيب، أي بسلسلة الأسباب، ثم يقطعون تلك السلسلة هناك، فيثبتون وجود واجب الوجود والمعرفة الإلهية التي هي كالماء الباعث على الحياة! أما الآيات الكريمة، فكل واحدة منها كــعصا موســى تستــطيع أن تـفــجّر المـــاء أينما ضربت، وتفــتــح من كل شـــيء نافذةً تــدل على الصانع”.
إن النورسي من خلال هذا الكلام التمثيلي الرائع، يوضح كيف يمضي تفسير القرآن للسببية من غير أن تصير حاجزًا عن إدراك العقل للوجود في كليته، للوجود المتمكن بقدرة الله التي تفعل فيه وبه ما تشاء. كما يبين في الوقت ذاته كيف أن السببية الجامدة تشل حركية العقل المادي وتأسره، فهي تحد من طاقته الإبداعية، فلا يتصور شيئًا خارجًا عن قانون وَضَعَهُ وسَكَنَ في قفصه إلى الأبد.

العقل والجمع بين الآيات والقيم

العقل المؤيد بالوحي والإيمان عقل يصل بين الآيات والقيم. ومعلوم أن أحد أسباب التردي والانهيار في الواقع الكوني اليوم، هو سيطرة فلسفات ومناهج معرفية تفصل بين الآيات والقيم. والحقيقة أنه لا نزاع في أن الكائن الإنساني يميل بفطرته التي خلقه الله تعالى عليها، إلى أن يجد في الأحداث التي تجري من حوله دلالات تجاوز واقعها. وهو يرى في حصولها إشارات تتعدى الظواهر، وتحمل إليه هذه الدلالات الدقيقة والإشارات الخفية، معاني بعيدة أو قيمًا عليا يشعر بالحاجة إلى الاهتداء بها وإتيان أفعاله على وفقها.
والحال أنه ليس في الأطوار التي تقلبت فيها الحضارة الإنسانية كما يذهب الدكتور طه عبد الرحمن “طور خالف هذا الميل الفطري لدى الإنسان مخالفة الواقع الكوني له، فهو يقر بوجود القيم، لكنه لا يقر بوجود الآيات، ولا يخفى أن الفصل بين الآية والقيمة إجراء تجريدي صناعي، بل تصنعي، ذلك أن الآيات لا تعدو كونها الظواهر عينها وقد تلبست بها القيم، والظواهر إنما هي الآيات وقد انتزعت منها هذه القيم، فهذا الانتزاع يؤدي إلى تجريد القيم من المواد التي تتجسد فيها أو من الموضوعات التي تحملها، ثم وضعها في عالم لا وجود له إلا في الأذهان، قد يزعم بعضهم أنه عالم المثال، أي عالم لا يأوي إلا الصور المجردة”.
لقد كان الإمام النورسي حريصًا على تعليم تلامذته ومحبيه أن كل علم من العلوم التي يقرءونها يبحث عن الله دومًا، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة.
من موجبات اشتغال العقل الإيماني المؤيد، أن لا تنفك معرفة موضوع أيّ علم عن معرفة الله تعالى فيه، فكل معرفة عقلية كاملة، تشكل مفتاحًا من مفاتيح الاهتداء إلى طريق الله بقدر ما هي علمك بالموضوع الذي تختص ببحثه وبالكشف عن قوانينه. فالموضوعات أو الموجودات التي تنظر فيها العلوم، هي -على التحقيق- مجلى قدرة الله ومظهر صنعه، وكل من سرح فيها فكره وكان ذا عقل كامل، وجب أن يدركه فيها وأن يزداد اقترابًا منه.
في استعارة رائعة يقول النورسي: “إن القرآن الحكيم بمثابة عقل الأرض وفكرها الثاقب، فلو خرج القرآن -والعياذ بالله- من هذه الأرض لجُنّت الأرض”. وإن جنون الأرض، هو جملة الأمراض والأزمات التي تنبأ بها النورسي عندما تنفصل الآيات عن القيم، فتتحكم في دنيا الناس القيم المادية التي تطحنهم في رحاها، فلا يعيش إلا القوي، ولا يتأمر إلا المحتال الذكي، ولا يكون مثلاً أعلى إلا الفارغ الغوي.
إن الغاية من إعمال العقل عند الإمام النورسي، هي تحقيق التفكر والاعتبار، ومقتضى الاعتبار -كما يقول طه عبد الرحمن- هو العبور من أحكام النظر إلى أسرار العبر، فيكون الإنسان المُعتبِر حقيقة هو من يرى الظواهر على أنها آيات، وينسب السيادة على الكون والوجود إلى صاحب هذه الآيات.
هذا وإن العلم بمعناه المادي، قد فشل -بالتأكيد- في أن يوفر للإنسان الراحة النفسية والسلوى والرضا، لأنه في الوقت الذي وفر فيه عالمًا للكفاءة والفعالية والقياس والتنبؤ، قدم أيضًا عالمًا فاقدًا للمعنى الخفي، ولا يهتم بالإشباع الروحي كما يؤكد “ماكس فيبر”. إنه عالم بارد غير مضياف، الحقيقة فيه ليست الجمال أو الفضيلة أو ما هو نافع ويخدم غايات نبيلة، إن القيمة والعاطفة والأمل والمخاوف ليست من اهتماماته.
وإذا لم تكن هذه القيم الإنسانية من انشغالات العقل المادي واهتماماته، فإن النورسي يلح بالجواب على أن الإيمان هو الذي يقيم بين القلب والعقل، وهو الحارس المعنوي الأمين الذي يراقب ميولات النفس وتطلعاتها الفاسدة حتى يبقى الإنسان عبدًا لله الواحد الأحد، متخلقًا بالأخلاق المحمدية، في زمن بات الخطر الكبير الذي يهدد حاضر ومستقبل الغرب، هو الصعود المأساوي لنوع جديد من الأزمات؛ أزمة الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
(11) كليات رسائل النور (المكتوبات، اللمعات، الكلمات، إشارات الإعجاز، الشعاعات، سيرة ذاتية، الخطبة الشامية)، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(2) إمامة الأمة، لياسين عبد السلام، ط1، 2009، دار لبنان للطباعة.
(33) المواقف والمخاطبات، لـ”النفري عبد الجبار”، تحقيق آرثر أربري، تقديم وتعليق عبد القادر محمود، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985، القاهرة.
(4) الجمع بين القراءتين، قراءة الوحي وقراءة الكون، لـ”العلواني طه جابر”، ط1، 2006، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة.
(5) تهافت الفلاسفة، للغزالي أبو حامد، تعليق محمد السعيد محمد، المكتبة التوفيقية 2003، مصر.
(6) العمل الديني وتجديد العقل، للدكتور طه عبد الرحمن، ط2، 1997، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – بيروت.
(7) الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، للدكتور طه عبد الرحمن، ط1، 2005، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – بيروت.
(8) روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، للدكتور طه عبد الرحمن، ط1، 20066، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – بيروت.
(9) سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، للدكتور طه عبد الرحمن، ط1، 20000، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – بيروت.
(10) John F. Haught. Science and Religion, Paulist press, New York, 1995, p15.
(11) Philipe Saint Marc. L’Economie Barbare, Frison Roche, 1994, p155.