السيبرنيطيقا ووهم الإنسانية العابرة

من الأسئلة الراهنة التي فرضتها ثورة التكنولوجيات الحديثة وانتشار الإنترنيت وطغيان الآلة والثورة المعلوماتية، وظهور علم السيبرنيطيقا، ما يسمى بإبدال أو أطروحة “ما بعد الإنسانية” أو “الإنسانية العابرة”، والتي ظهرت في كتابات غربية معاصرة بعد أن كانت سرُا من أسرار البحث العلمي الغربي الذي تشكل الولايات المتحدة الأمريكية محوره، والذي يشكل اهتمام بعض الباحثين العرب وأبرزهم الباحث المغربي محمد أسليم، فما المقصود بنظرية “الإنسانية العابرة”؟

في الواقع قطع المجتمع العالمي أشواطًا كبيرة من التحولات، حيث انتقل عبر الزمن من ذلك الإنسان البسيط الذي يسكن الكهوف ويأكل اللحوم النيئة وأوراق الشجر إلى إنسان ماهر يطبخ ويحرث الأرض ثم إنسان يفكر، ويصنع فآمن بأن الأرض ثابتة واعتبرها مركز العالم وأن الأفلاك تدور حولها، وهيمنت هذه الأفكار البطليموسية، نسبة إلى بلطليموس قرونا عديدة، قبل أن يتحول تحولات عميقة وجذرية مع ثورة كوبرنيك ثم كاليلي ثم نيوتن مكتشف الجاذبية ثم أينشتاين الذي اكتشف النسبية وخطّأ الأفكار القائلة بالثبوتية واليقينية المحضة.

أصبحنا اليوم نعيش هيمنة التكنولوجيا الرقمية على الأسواق العالمية الكبرى وعلى العلاقات الاجتماعية والسياسية، ولنا بذلك أن نتصور التقدم الذي يحصل في المستقبل بعد أربعة أو خمسة عقود.

ومن جانب آخر تطورت الحضارات مع اليونان ثم مع الإسلام في زمن عميق جدًا استمر لقرون، قبل أن يأتي عصر النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ويتجه اهتمام العالم إلى الإنسان مع اكتشاف المطبعة وتمحور الفكر حول الكتاب بعد أن كانت الكنسيىة تستحوذ على الكتب القديمة ومنها كتابات أرسطو، ومن ثَم الانتقال إلى الحداثة التي شيدتها الأنوار في القرن الثامن عشر تحديدًا، والتي ستهيمن إلى حدود القرن العشرين.

وقد هيمنت هذه الأنوار التي آمنت بالعقل مع كتابات فولتير ومونتسكيو وديدرو وروسو وخاصة ديكارت الذي منح العقل مكانة هامة، إلى حين ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث سيكتشف أن هذه الحداثة وهذه العقلانية لم تزد الإنسان إلا بؤسًا وفناءً، فكان أن انطلق المفكرون باحثين عن بدائل جديدة تؤمن بقيم جديدة ترفع من مكانة الإنسان.

ومع الثورة الرقمية التي انطلقت من أربعينيات القرن العشرين بعد أن كان الحاسوب عبارة عن منزل كبير يمكن للإنسان التجول داخله، وتطورت تطورًا مبهرًا إلى أن وصلت إلى ما يسمى بال”سمارتفون” والهواتف الذكية و”الطابليت” وغيرها، مع هذه الثورة سيتغير الإنسان في حياته ويطرح أفكار الحداثة جانبًا باحثًا عن إبدالات جديدة، مع ظهور السيبرنيطيقا أو نظم التحكم في الأحياء والآلات، والتي ترفع شعارات التواصل والفيدباك والتفاعل والشفافية.

وإذا كانت هذه التطورات في ميدان التكنولوجيا تحدث بشكل سريع جدًا، فإن المفكرين حاليًّا يعملون على تحسين هذه التقنية من أجل رفاه الإنسان والتفكير في سعادته، وجعله بفضل هذه التقنية يتحكم في مصيره وقدره.

وبفضل علوم أخرى ذات علاقة بالطب والبيولوجيا الدقيقة يسعى العلماء عبر الحاسوب إلى التفكير في تمديد عمر الإنسان ليصل 500 سنة مستقبلاً مؤمنين أن ذلك سيكون بعد عقدين على الأكثر، وهم يعملون عن قناعة تامة على هذا المشروع، وتدعمهم في ذلك الشركات الرقمية العملاقة مثل غوغل وغيرها.

إن العلماء يتباحثون في إمكانية القضاء على الجينات القاتلة، منطلقين من تصورات نظرية وفلسفية عمرت في القرن العشرين خاصة فلسفة داروين الذي اعتقد أن الإنسان قد تطور من كائن غير ناطق يشبه الشامبانزي إلى كائن ناطق، ومن فلسفة فرويد خاصة منها تلك المتعلقة باللاشعور، ومن ذلك يؤسسون فكرهم على تطوير أمد حياة الإنسان، وفكرة أخرى أكثر غرابة تقوم على ما يسمى “ما بعد الإنسانية، أو الإنسانية العابرة”؛ حيث تتدخل الآلة في الإنسان وتتبرمج مع تفكيره، وذلك قصد جعل الإنسان يتحكم في ذاته، وذلك ينسجم مع ما يطلق عليه السبرنطيقا أو علم القيادة والتحكم الذي تأسس مع نوربرت فينر في مجال الرياضيات قبل أن ينتقل إلى علم الإحياء والعلوم الإنسانية.

ومع الثورة الرقمية التي انطلقت من أربعينيات القرن العشرين بعد أن كان الحاسوب عبارة عن منزل كبير يمكن للإنسان التجول داخله، وتطورت تطورًا مبهرًا إلى أن وصلت إلى ما يسمى بال”سمارتفون” والهواتف الذكية و”الطابليت” وغيرها

وإذا كان هذا المشروع الساعي إلى جعل الإنسان يتحكم في ذاته ومصيره وجعل التقنية جزءًا منه، إذا كان يتنافى مع المعتقد السائد فإن البحث العلمي المعاصر الذي تقوده بشكل خاص شركة غوغل تؤكد هذه الفرضيات وتحاول جعل محرك البحث هذا ينتقل من وسيلة للبحث تساعد الإنسان على المعرفة والتواصل مع مستجدات العالم إلى وسيلة تتغلغل في عقل الإنسان أو تسيطر عليه في المستقبل فيصبح نصفه إنسانا ونصفه آلة، فمن المشاريع الكثيرة التي تطلقها “غوغل إكس”، والتي قد تغير حياة الإنسان في المستقبل، النظارة الكومبيوتر والسيارة بدون سائق ثم الإنسان المغطى بالإلكترونيات والذي يصبح بالتالي نصف إنسان ونصف آلة.

فنظرية “الإنسانية العابرة” أو “ما بعد الإنسانية” تقوم على تحويل التكنولوجيات الحديثة التي تتطور باستمرار إلى قوة قادرة على التحكم في مستقبل الإنسان والتي قد تتفوق على ذكائه مستقبلاً، بتحويل الجسد والمخ الإنساني إلى “Interface” أو سطح بيني يجمع بين ما هو إنساني والآلة أو الكومبيوتر في علاقة تفاعلية ترفع من قدرات الإنسان ومهاراته، بل إن هذه النظرية تخطط لبرمجة الإنسان منذ ولادته أو حتى قبل ولادته على نوع من السلوك والمهارات التي يكون عليها طيلة حياته.

إن التقنية الحديثة والتكنولوجيا الذكية اليوم وصلت حدًا من التطور الذي لم نكن نتصوره، بل لم يتصوره حتى بيل غيتس الذي أكد أن تطور التكنولوجيا والاستفادة منها لم يكن لجيله بل للأجيال القادمة التي ستدفع بها إلى الأمام، حيث أصبحنا اليوم نعيش هيمنة التكنولوجيا الرقمية على الأسواق العالمية الكبرى وعلى العلاقات الاجتماعية والسياسية، ولنا بذلك أن نتصور التقدم الذي يحصل في المستقبل بعد أربعة أو خمسة عقود.

فمما تتوقعه غوغل هو أن يتم استغلال التقنيات الحديثة في مجالات أكثر اتساعًا وتقدمًا، من خلال تطوير الحاسوب والعلوم الرقمية، ومن ذلك توجيهها لمواجهة الشيخوخة التي أصبحت تعتبر عند بعض الباحثين مرضًا ومن ثم القضاء على الموت، ومن ذلك إمكانية نسخ كافة المعطيات في المخ الإنساني في قاعدة معطيات ثم نقلها إلى غلاف أكثر مقاومة من الجسد الإنساني، كما يتوقعون تطوير إمكانيات الإنسان والإتيان بإبدالات جديدة تتجاوز الحضارة المعاصرة، ففي الطب مثلاً سيصبح الحاسوب انطلاقًا من تلك الرؤيا قادرًا على فحص الإنسان عبر تصوير أو “سكانير” مباشر يقوم به المريض ذاته، حيث يقدم بشكل شفاف ودقيق، الوصفات والأدوية المناسبة كما عوضت الآلة، من قبل عمل الإنسان وسرحت العمال، ومن ثم إمكانية اختفاء بعض المهن التي ستبدو حينها تقليدية وبدائية.

وفي الأخير فإن هذه الرهانات التي تسعى التكنولوجيات العالية المعاصرة إلى المراهنة عليها في المستقبل تطرح أسئلة كبيرة وشائكة، وأبرزها مسألة القيم والأخلاق التي نراها اليوم تطفو على السطح وتخلف دمارًا للإنسان، كما خلفت في السابق من خلال الحاسوب نفسه، والذي به تم اختراع القنبلة النووية التي أودت بالملايين من الأبرياء في الحرب العالمية الثانية، كما يطرح مشكل علاقة الإنسان بالبيئة وبالكائنات الأخرى الحية من حوله، ومن ثم يبقى على المنظمات الإنسانية العالمية وهيئات المجتمع المدني أن تقوم بدورها في توجيه عمل التكنولوجيا الحديثة إلى الأهداف النبيلة خدمة للإنسان ورفاهيته دون المس بقيمه ومبادئه.