الروح والمادة في الأمن المجتمعي

بالأمن الاجتماعي والمجتمعي يزدهر العمران الإنساني، وبغيبته يتراجع هذا العمران. وإذا كانت المقومات الضرورية لتحقيق الأمن الاجتماعي والمجتمعي كثيرة ومتعددة، فإن في مقدمة هذه المقومات يأتي الأمن الديني والروحي والفكري، والأمن على مقومات المعاش المادي في دنيا الإنسان.
فبدون الإيمان ومن ثم الأمن الديني والعقدي والفلسفي، يلتهم الخوف والفزع والقلق والاغتراب استقرارَ الإنسان وطمأنينته. ذلك لأن الإيمان (الديني) هو الذي يحقق للإنسان الانتماء إلى هذا الوجود، ويقوده إلى رحاب المعية الإلهية وحضرتها القدسية، فيأنس بهذه المعية وينجو من غول الاغتراب الذي يفترس أمن الإنسان في المجتمعات المادية والوضعية واللادينية.
ففي غاية التحديات الشرسة والكوارث والأمراض والحروب، وفي مواجهة المظالم والقهر والجبروت، يكون الإيمان (الديني) -ومن ثمراته الانتماء والاحتماء بالمعية الإلهية- طوق النجاة للإنسان من الوحدة المخيفة والقاتلة، ومن الاغتراب القاتل للروح والآمال والطاقات والإمكانات.
ولهذه الحقيقة لا يعرف المؤمنون الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان اليأسَ ولا القنوطَ ولا الانتحار، مهما كبرت مشكلاتهم المادية والمعاشية؛ بينما تشهد المجتمعات المادية والوضعية -مع ارتفاع مستويات المعيشة والرعاية الصحية والإشباع للغرائز والشهوات- أعلى مستويات القلق ومعدلات الانتحار.. وذلك لفقدان الأمن على الغد، والأمل فيما بعد ظاهر الحياة المادية، بعد تخمة البطون والإفراط في إشباع الغرائز والشهوات.
الذين يقارنون إحصاءات العيادات النفسية وزوارها وانتشار القلق، وكثرة المنتحرين في المجتمعات الإسكندنافية -مثلاً- حيث أعلى مستوى معيشة في العالم، وحيث الإشباع المفرط للغرائز الجنسية، بنظيرة هذه الإحصاءات في مجتمع مؤمن تطحنه مشكلات الفقر والعوز يدركون حقيقة وأهمية عامل الأمن الروحي بالنسبة للإنسان. وذلك عندما يحقق هذا الإيمان للإنسان المؤمن الانتماء إلى القوة الأعظم في هذا الوجود والاحتماء بطلاقة قدرتها، ويسلحه بمعية هذه القوة الأعظم، حتى ليحقق هذا الإيمان والانتماء للأشعث الأغبر سلطاناً يجعله إذا أقسم على الله أبرّه الله.
الربط التفاعلي بين المقوم الروحي والمادي
ومن عظمة الفلسفة الاجتماعية في الإسلام ربطها -الربط الجدلي والتفاعلي- بين هذا المقوّم الأول من مقومات الأمن الاجتماعي، أي المقوم الإيماني والروحي والفكري، وبين المقوم الثاني -المادي- المتمثل في الأمن الإنساني على المقومات المعيشية اللازمة له في هذه الحياة الدنيا. بل إن هذه الفلسفة الاجتماعية الإسلامية تبلغ القمة في العظمة عندما تجعل الأمن على المعاش المادي هو الشرط الضروري لتحقيق كمال واكتمال الأمن الديني والروحي للإنسان في هذه الحياة. وذلك عندما تقرر هذه الفلسفة الاجتماعية أن “صلاح الدين” مؤسس على “صلاح المعاش” وتوفر الضرورات والحاجات المادية للإنسان.. فـ”الواقع” يخدم “المثال” ويقيم معه علاقة جدلية.
وبعبارة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي (1085-1111م): “فإن نظام الدين لا يحصل إلا بانتظام الدنيا. فنظام الدين بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من الكسوة، والمسكن، والأقوات، والأمن…”.
ثم يستطرد الغزالي فيقول: “ولعمري إن من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، وله قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلَمة، وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل، وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟ فإذن، بان أن نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة، شرط لنظام الدين”.(1)
فالأمن الاجتماعي والاطمئنان على توافر وسلامة مقومات الاجتماع البشري والعمران الإنساني، المادية والمعنوية من صحة البدن إلى بقاء الحياة إلى حاجيات الكساء والمسكن والأقوات إلى الأمن، الذي ينفي عن الحياة الإنسانية عوامل الخوف والروع والفزع… جميع ذلك قد سلكته الرؤية الإسلامية في عداد “الضرورات” و”الحاجيات”، لا مجرد “الحقوق” أو “الكماليات”، ثم جعلته ” الفريضة” التي تترتب على إقامتها فرائض الدين وشعائر العبادات.
وبعبارة الشيخ المجدّد محمد الغزالي (1917-1996م): “لقد رأيت -بعد تجارب عدة- أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. إنه من العسير جداً أن تملأ قلب الإنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، أو أن تكسوه بلباس التقوى إذا كان جسده عارياً. إنه يجب أن يؤمَّن على ضروراته التي تقيم أَوَدَه كإنسان، ثم يُنتظر أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان. فلابد من التمهيد الاقتصادي الواسع، والإصلاح العمراني الشامل، إذا كنا مخلصين حقاً في محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين، أو راغبين حقاً في هداية الناس لرب العالمين”.(2)
الأمن وعاء إقامة الدين وتحقيق المعاش
وإذا كان الإيمان (الديني) بما يثمره من طمأنينة روحية وفكرية وفلسفية، هو المقوم الأول من مقومات الأمن الاجتماعي، وإذا كان مقام هذا المقوم من مقومات الأمن الاجتماعي والمجتمعي قد جعله واحداً من المقاصد العظمى للشريعة الإسلامية -الحفاظ على الدين- وجعل العدوان عليه والفتنة فيه موجباً للقتال إذا فرض الأعداء على المؤمنين الفتنة في الدين، فلقد جعل الإسلام -كذلك- الحفاظ على الأمن -المال والوطن- الذي هو وعاء إقامة الدين وتحقيق المعاش.. جعل الحفاظ على ذلك مبرراً لوجوب القتال إذا فرض الأعداء على المؤمنين الحرمان من ثرواتهم وأموالهم أو الخروج من ديارهم.
فالدفاع عن حرية الدين والتدين سبب في وجوب الجهاد القتالي، والدفاع عن المعاش وعن الوطن الذي هو وعاء الأمن على المعاش، سبب هو الآخر للجهاد القتالي، بل إنهما السببان الوحيدان للقتال في الإسلام: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج:39-40)…
وصدق رسول الله سبحانه وتعالى إذ يقول: “مَن قُتل دون مالِه فهو شهيدٌ، ومَن قُتل دون دينه فهو شهيدٌ، ومن قُتل دون دمه فهو شهيدٌ، ومن قُتل دون أهله فهو شهيدٌ” (رواه الترمذي).
تحقيق الأمن فريضة اجتماعية
فالمال مال الله، والناس مستخلفون فيه، يتملكون ويستثمرون ويتمتعون -كوكلاء ونواب- في حدود ضوابط عقد وعهد الاستخلاف، التي تحددت في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾(الحديد:7).
وفي تفسيرها يقول الإمام الزمخشري (1075-1144م) في كتاب “الكشاف”: “إن مراد الله في هذه الآية هو أن يقول للناس: إن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله، بخلقه وإنشائه لها، وإنما موَّلكم إياها وخوّلكم الاستمتاع بها، وجعلهكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي أموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب”.(3)
وبعبارة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1849-1905م) الذي نبّه على دلالات إضافة القرآن الكريم مصطلح “المال” إلى ضمير “الجمع” في سبع وأربعين آية، بينما لم يضفه إلى ضمير “الفرد” إلا في سبع آيات، وذلك “لينبه الله بذلك على تكافل الأمة في حقوقها ومصالحها، فكأنه يقول: إن مال كل واحد منكم إنما هو مال أمتكم”.(4)
ولذلك كان نصيب الفقراء في الأموال والثروات “حقاً”، وليس “منَّة” من الأغنياء، لأن الكافة مستخلفون في مال الله الذي خلقه وسخره للكافة: ﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾(الرحمن:10).
ولأن الحفاظ على النفس والحياة هو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية لا يجوز التفريط فيه، وجب الجهاد -ولو بالقتال- لتحصيل ما تحفظ به الحياة الإنسانية. وقال الإمام ابن حزم الأندلسي (994-1064م): “وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد، أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا فيء أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يُكِنُّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارّة.
فالأمن على المعاش قضية مجتمعية، لا تُترك -فقط- لنوايا الأفراد ومبادراتهم؛ لأن إقامة هذا الأمن وتحقيقه فريضة اجتماعية، يتوجه التكليف فيها إلى المجتمع الذي تقوم مؤسساته بإقامتها، ومنها مؤسسة الزكاة ومؤسسة الوقف ومؤسسات الصدقات والتكافل الاجتماعي…
فإذا غاب دور هذه المؤسسات المجتمعية عن الساحة أو قصرت في إقامة هذه الفريضة، وجب على السلطة والدولة القيام بهذه الفريضة؛ لأننا بإزاء “فريضة” لا يجوز التفريط في إقامتها، وليست مجرد “حق” يجوز التنازل عنه حتى طواعية واختياراً.. فالظلم حرامٌ وممنوعٌ ومؤَثَّم ومجرَّم حتى ولو كان ظلماً للنفس، وليس فقط للآخرين. وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾(النساء:97). كما أنه على الكافة من القادرين الجهاد لإخراج المستضعفين من الاستضعاف: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾(النساء:75).
ـــــــــــــــ
الهوامش:
(1) الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد الغزالي، ص:135، القاهرة.
(2) الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية، لمحمد الغزالي، ص:61-62، القاهرة.
(3) الكشاف، للزمخشري، جـ:4، ص:61، القاهرة، 1967م.
(4) الأعمال الكاملة، للإمام محمد عبده، جـ:5، ص:194.