الحمية المتوازنة

مما لا الشك فيه أن الحمية رأس الدواء، وأن الحمية من أهم الممارسات التي تقي صاحبها من الأمراض.. وثمة أمراض لا تُشفى إلا عن طريق الحمية، ولكن من أجل تطبيق الحمية الصحيحة الواقية من الأمراض، لا بد من أن تراعى الخريطة الوراثية، وكذلك التغذِّي وفق طبيعة الجسم وخصائصه.

لا تعني الحمية البقاءَ دون طعام، بل إنها التغذية المتوازنة للجسم وتوفير الطاقة البدنية والروحية له، لذا يجب على المرء ألا يفرِّق بين طعام وآخر، بل أن يتناول من كل نوع بقَدَرٍ ويلبي حاجة جسمه إلى الغذاء والطاقة. بمعنى آخر؛ إذا تم التركيز أثناء الحمية على البروتينات فقط، أو على الدهون، أو على الكربونهيدرات فقط، فإن ذلك يسبب خللاً في الأعضاء مع مرور الزمن. وفي هذا الصدد لا بد من الوقوف على بعض الخصائص التالية المتعلقة بالحمية:

ضبط الحمية وفقًا لطبيعة الجسم

من الخطأ جدًّا أن تُطلَب الحمية من الأشخاص دون الاكتراث بطبيعة جسمهم وبِنيتهم، بل ينبغي أن تُدرَس هذه الطبيعة ويُعرَف مدى تقبُّل بنية الجسم للأغذية وأنواع الطعام. وذلك يدعو إلى تحديد بعض الأمور المتعلقة بالشخص؛ كقابلية الجسم إلى السمنة والزيادة (وراثيًّا)، ودرجة الاكتئاب وتعكُّر المزاج لدى الشخص، وغيرها من الأمور التي تخصّ الطبيعة والفطرة. على سبيل المثال، يجب أن يُطلَب من المعرَّضين إلى الجلطة وراثيًّا، الإكثارُ من تناول الفاكهة والخضار بدل الأطعمة الدسمة والغنية بالدهون والبرتينات. وبالتالي يجب اتباع حمية تساعد على ضبط الوزن، حتى ولو كان مضرًّا للجسم فيجب تناول بعض الأغذية المطلوبة بشكل يسير؛ فمن الخطورة بمكان أن يُطلب من مريض السكري قطْع السكر بالمرة أو تناوله بكثرة.

تحديد الوزن المثالي

يختلف الوزن المثالي من شخص لآخر؛ وذلك وثيق الصلة بالطول، وكمية الدهون في الجسم، ونسبة العضلات، وكثافة العظام.. ولكن تحديد الوزن المثالي ببساطة، يتم بإضافةِ خمسةٍ إلى الرقمين الأخيرين من معدّل الطول أو إنقاصِ خمسة منهما؛ مثلاً، إذا كان طول الإنسان 1,80 سم، نضيف إلى الرقمين الأخيرين خمسة فيصبح 85 أو ننقص خمسة فيصبح 75، وبذلك نتمكَّن من تحديد الوزن المثالي لذاك الإنسان وفق طوله، كما أن الزيادة على الوزن المثالي، يؤدي إلى مرض السمنة ومن ثم إلى أضرار صحية تؤثر سلبًا على حياة صاحبها.

تحديد مؤشر كتلة الجسم

إن ما يُقصَد بالسمنة أو البدانة هو زيادة دهون الجسم عن نسبتها الطبيعية. بمعنى أنه إذا كان الوزن المثالي للشخص 60 كلغ، وكان هو على وزن 80 كلغ، فيمكنه تحديد كمية الدهون ومعرفة نسبة العضلات في العشرين كيلو الزائد، ذلك بحساب مؤشر كتلة الجسم؛ فإذا كانت نسبة العضلات 5 كلغ، ونسبة الدهون 15 في العشرين كيلو الزائد هنا، فتدعو الضرورة إلى التخلُّص من هذه الدهون الزائدة عن طريق الحمية، لأن نحافة الإنسان تتصل طرديًّا بحرْق الدهون الزائدة في جسمه، أما فقدان الكتلة في العضلات فيؤدي إلى فقدان البروتينات ومن ثم إلى أضرار خطيرة في الجسم، أيْ عملية تخفيف الوزن يجب ألاّ تؤثر على فقدان في البروتنات.

الاهتمام بمعدّل الأيض الأساسي

معدّل الأيض أو الاستقلاب الأساسي، هو الطاقة التي يحتاجها الجسم خلال 24 ليستعيد نشاطه وحيويته الطبيعية من جديد. ويتغير هذا المعدّل وفقًا للبنيتَين الفيزيولوجية والكيميائية الحيوية. ولا بد من الإشارة في هذا الباب، إلى أن الكبد يستخدم نسبة 30% من الأيض الأساسي، والدماغ يستخدم 19%، والهيكل العظمي 18%. هذا وإن ارتفاع نسبة العضلات في مؤشر كتلة الجسم، يؤدي بشكل مباشر إلى ارتفاع معدّل الأيض الأساسي عند الإنسان، فكلما انخفض حَرْق السعرات الحرارية في الأيض الأساسي كلما خفَّ الوزن، وبالمقابل، إذا ازدادت نسبة حرْق السعرات الحرارية في الأيض الأساسي، ازداد الوزن.. كما أن الذين يتمتعون بأيض أساسي سريع ينحفون بسهولة، ووفقًا لهذه السرعة يتم حساب معدل السعرات الحرارية.

مراعاة الظروف المناخية

لا شك أن الظروف المناخية تؤثر بشكل مباشر على الأعضاء وعملية الأيض لدى الإنسان؛ إذ تتغير حاجته إلى الطاقة مع تغير المناخ، وتزداد حاجة الجسم إلى السعرات الحرارية تبعًا لانخفاض الحرارة الخارجية. فسوء الغذاء لدى الأطفال في سيبيريا -مثلاً- يؤدي إلى أمراض كثيرة في المعدة والأمعاء، وقد أظهرت الدراسات أن الأغذية التي تُتناول وفقًا لنسبة السعرات الحرارية المستهلَكة التي تتغير مع تغيرات الظروف المناخية، تقلِّل من الأمراض التي يتعرّض لها أبناء هذه المناطق الباردة. والملفت للنظر أنه بالرغم من إكثار الأطعمة الدهنية والغنية بالبروتينات لدى مَن يعيش في المناطق القطبية، فإن نسبة أمراض القلب والأوعية الدموية قليلة جدًّا مقارنةً بالمنطاق الأخرى.

مراعاة العمر ونوع الجنس

بيَّنت الدراسات العلمية أن سوء التغذية عند كبار السن والحمية بهدف إنقاص الوزن، يؤدي إلى التهاب المسالك البولية، كما أن سوء التغذية عند الأطفال البُدُن تحت الخامسة من العمر، وإخضاعهم لحمية بأغذية منخفضة السعرات الحرارية مدة طويلة، يعرِّضهم إلى الالتهاب الرئوي، وانخفاض ضغط الدم، ونقص الكلسيوم، وكذلك إلى تورّم في البطن.. كما أنه في حال الاستمرار على التغذية غير المتوازنة، وعلى الحمية القليلة الطاقة، يَحدث عند الطفل تدهور في النخاع العظمي، ونقص في الزلال والبروتينات، انخفاض في حديد مصل الدم، نقص تَنسُّج أو نقص نموٍّ في الكريات الحمراء.. لذا، أثناء الحمية بالأغذية منخفضة السعرات لدى الأطفال، يجب أن يزوَّد الكربوهيدرات بالمغذيات الدقيقة (فيتامين الثيامين، حمض الفوليك، فيتامينات A,C,E,K، الحديد) التي تلعب دورًا كبيرًا في بناء العقل والعظام والجسم للإنسان. وبالتالي يؤكد الأخصائيون على أن تتم العناية بتوازن المواد الأساسية في الجسم عند الحمية طويلة الأمد عند الأطفال والمسنِّين.

التغذية المتوازنة

عندما تكون التغذية غير متوازنة، فإن ذلك يؤدي إلى اختلال في أداء الأعضاء، وإلى إصابتها بأمراض عديدة. فهناك حمية “البروتين” الزائد التي نختارها عادة لإحراق الدهون في الجسم، لكنها قد تضر بمرضى السكري، وتتسبب في بعض المشاكل في شرايين القلب والكلى، بسبب الاختلال الذي يصاب به نظام الكاربوهيدرات والدهنيات عندهم. فمثلاً، إن المرضى الذين ينقصون من وزنهم عبر حميات عالية البروتينات وهم في حالة انقطاع الطمث، تنخفض كثافة العظم لديهم بنسبة كبيرة بسبب اختلال التوازن ما بين البروتين والصوديوم والكالسيوم والبوتاسيوم، وذلك يؤدي إلى هشاشة العظام وتعرضهم لحالات كسر بصورة ملحوظة. والجدير بالذكر أن الحميات التي تكتفي بنوع واحد من الغذاء، تؤدي في الغالب إلى أمراض عديدة. إن الحميات ذات البروتينات المتوسطة القريبة من سقف الارتفاع، تؤدي إلى ارتباك في أنظمة الأيض في الجسم، وترفع من نسبة احتمال التعرض لمخاطر حمية من النوع ٢. ومن ثم فإن الأوفق لهؤلاء، هي الحميات ذات الدهون الخفيفة والكاربوهيدرات المرتفعة. إن اختيار الحميات المختلطة لم يقلل من خطورة الإصابة بسرطان القولون. وفي هذا الباب ينبغي اختيار الأغذية الليفية من أجل الإقلال من خطورة الإصابة بسرطان القولون.

الجمع المذموم

أحيانًا نتناول في وجبة واحدة طعامين من كاربوهيدرات أو طعامين بروتينيين أو دهنيين، بل أحيانًا نجمع ثلاث مأكولات من نفس الصنف في وجبة واحدة ودون أن ننتبه إلى الكمية، بيد أننا عندما ندرس النبي  في مأكله ومشربه، نجد أنه لم يأكل الحليب مع الحامض، ولا الحليب مع اللحم، ولا الحليب مع البيض، ولم يجمع بين طعامين ساخنين ولا بين طعامين باردين، ولا بين طعامين مسببين إمساكًا أو إسهالاً، ولا بين المقلي والمجفف، ولا بين المجفف والطري، ولا طعامًا بقي من المساء فتم تسخينه، ولا يميل إلى المشهّيات ولا الأطعمة التي طبخت بالخل وفسد طعمها كما يقول ابن القيم. وكان النبي  لا يفضل الطعام الحار، فيقول: “أبردوا بالطعام، فإن الحار لا بركة فيه”.

أوقات الطعام

إن موعد الجوع ليس الوقت الذي اعتاد الإنسان عليه بيولوجيًّا، لكنه اللحظة التي تبدأ فيها التشنّجات في المعدة. هذا الحراك الذي يبدأ في لحظة الجوع في المعدة ينتهي بعد ١٨-٢٤ دقيقة من تناول الطعام. ولا يمكن أن نسمي الجوع جوعًا إلا في تلك اللحظات. وإذا امتد الوقت بحالة الجوع ولا سيما أثناء الحمية أو ظروف الحرب، فإن الجسم يفرز هورمونات مثل “إنوسيلين” و”جلوكاجون” و”لبتين” و”جريلين” من أجل الحفاظ على توازن سكر الدم. يشعر الإنسان بالجوع الخفيف قبل أن يظهر الشبع التام، وذلك يحصل عندما نقوم من المائدة قبل أن نملأ المعدة. الجوع الخفيف يساعد الذاكرة على أن تحافظ على أدائها لمدة طويلة، كما ترتفع أثناءه سرعة حركة الجزئيات في الجسم.

لا بد من التنبيه إلى شيء في غاية الأهمية في تعيين مواعيد الطعام؛ ينبغي اختيار المواعيد الفيسيولوجية في تحديد الوجبات وليس ما تمليه علينا العادة. إن الأغذية التي تمدنا بالطاقة مثل الكاربوهيدرات والبروتين والدهون، تنفذ إلى جسم الخلية بعد تناولها بمدة وجيزة. وإن الدهون هي آخر الأغذية اندماجًا وذوبانًا في بنية الخلية، حيث يستغرق ذلك ثماني ساعات، ومن ثم ينبغي أن تكون المدة بين الوجبة والأخرى ثماني ساعات على الأقل؛ منعًا للخلية من تخزينها تلك الدهون. من هنا يمكننا أن نقول إن المرء الذي يمضي ثماني ساعات نومًا، يكفيه أن يتناول في اليوم وجبتين فقط، لذا الأنسب أن تكون المدة بين وجبة وأخرى ثماني ساعات.

مدة الطعام

لقد أُجريت دراسات حول الأطفال المصابين بالسمنة الزائدة، بدءًا من حالة الجوع عندهم إلى طريقة التغذية، إلى سرعة الأكل -وعلاقة ذلك كله بزيادة الوزن- فتبين أن الشعور بالجوع وسرعة التهام الطعام عندهم زائد على الأطفال العاديين بأربعة أضعاف، لذلك يأكلون كثيرًا، وتستغرق فترة هدوء شعور الجوع لديهم مدة أطول. جدير بالذكر أن الطعام إذا تم مضغه في الفم بعد تناوله مدة طويلة، ولم تكن مدة الطعام أقل من ثلاثين دقيقة، فإن مركز الشبع في الدماغ سيؤشر على حس الشبع بعد ثلاثين دقيقة تحديدًا.

كمية الطعام

إن حجم معدة عادية هو في حدود ١٠٠٠-١٥٠٠ سم مكعب. ينبغي أثناء الطعام ترك مساحة فراغ في المعدة تتيح لها تدوير المأكولات وخلطها، كما تتيح لها إمكانية دفع خليط الأغذية نحو مِعَى الإثني عشري. لذا ينبغي ملء ثلثي المعدة بالطعام والماء، وترك الثلث المتبقي فارغًا لتمكين المعدة من خلطها للمأكولات، كما ينبغي ألا تتجاوز نسبة الطعام مع الماء ٧٠٠-١٠٠٠ سم مكعب.

تدريبات رياضية

إن التدريبات الرياضية ترفع من عدد “الميتوكوندري” في خلايا العضلات فتقوِّيها، فتزداد سرعة التفاعلات البيوكيمياوية في الجسم، وهو ما يسهل طرح المواد الزائدة إلى الخارج ومن ثم يؤدي إلى تخفيف الوزن، ولكن إن لوحظ في بيوكيمياء الجسم مؤشرات غير عادية، فلا ينصح بممارسة الرياضة. إن نسبة الطاقة التي تستهلكها كل عضلة تختلف عن الأخرى، وإن استهلاك الطاقة مرتبط بحركة العضلة، وإن الطاقة التي تنفقها عضلات الساقين تختلف عن العضلات التي تتحرك أقل منها.. أثناء ممارسة الرياضة ينبغي ألا نتحامل على العضلات ولا نثقل عليها بدافع الحماس، بل ينبغي أن نراعي حالة ألياف العضلات، فنبدأ الرياضة ببطء ونزيد من كثافتها وسرعتها بالتدريج.

استهلاك الماء

إن استرجاع المياه التي تُستَهلك أثناء اليوم بسبب نشاط الجسم أو العرق، في غاية الأهمية والضرورة، وإن نسبة السوائل التي نستهلكها في حدود ١٨٠٠-٢٠٠٠ سم مكعب ما عدا السوائل التي نستهلكها عبر الممارسة الرياضية.

لا شك أن الصحة مهمة، ولا شك أن الحمية مهمة كذلك في الحفاظ على الصحة، لكن علينا ألا ننسى أن الملابس التي نرتديها حسب اختلاف المواسم، والمنزل الذي نقيم فيه، والبيئة والتعليم والعادات الثقافية، لا تقل أهمية عن الحمية في الحفاظ على الصحة. وإن أغلب الأخطاء تعود إلى الفهوم الخاطئة التي تقبع في عاداتنا وثقافتنا، فلسنا مسؤولين عما نأكله في الضيافة مثلاً، ثم ها هو صاحب الضيافة يلح ويلح على أن نزيد من الأكل وننوع إكرامًا له ولمن صنع الطعام، ما باليد من حيلة، كل ذلك يسهم في ارتفاع الوزن، وبالتالي يزيد من خطورة التعرض لأمراض شتى نتيجة السمنة.

في الحقيقة لو التزمنا بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم وملأنا ثلث المعدة بالطعام، والثلث الثاني بالماء، وتركناه الثالث فارغًا، وغادرنا المائدة قبل أن نشبع، ولم نجلس إلى الطعام قبل أن نجوع.. أجل لو التزمنا بهذه الوصايا، فسوف تُحلّ كثير من المشاكل الصحية تلقائيًّا.

(*) كاتب وباحث تركي. الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.