التطرف والغلو باسم الدين وآثاره السلبية على الإسلام

التطرف هو الذهاب إلى طرف الموقف أو الرأي، والبعد عن الوسط والوسطية والتوازن والاعتدال، سواء أكان ذلك التطرف في الفكر -الديني وغير الديني- أو في الفعل والسلوك. وهذا التطرف هو الذي عبر عنه الفكر الإسلامي بمصطلح “الغلو”، أي المغالاة والبعد عن التوسط والاعتدال.

وهذا الغلو الديني -ككل ألوان الغلو ومنها الغلو اللاديني- هو تجاوز الحد الذي هو الوسطية الإسلامية الجامعة لعناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة والمتناقضة، أقطاب غلوَّي الإفراط والتفريط.

ففي “العقلانية” -مثلاً- غلو إفراط، هو الذي يؤلّه العقل، وينكر أن يكون الوحي والنقل علمًا أو مصدرًا من مصادر العلم، ويرفع شعار التنوير الوضعي الغربي العلماني: “لا سلطان على العقل إلا العقل وحده” مؤلّهًا العقل، وناقلاً لقدراته من “النسبي” إلى “المطلق”.

ويقابل غلو الإفراط هذا ويناقضه غلو تفريط، يتنكر للنظر العقلي، ويفرط في الاحتكام إلى نعمة العقل التي أنعم الله بها على الإنسان، والتي هي جوهر الإنسان ومعيار تميزه وامتيازه على غيره من المخلوقات. ويكتفي أصحاب هذا الغلو بالوقوف عند ظواهر النقل وحرفية النصوص، دون اعتبار لمقاصد هذه النصوص.

بينما حد الوسطية الإسلامية في هذه العقلانية، هو الموازنة بين العقل والنقل، وجمع عناصر الحق والعدل منهما معًا، وذلك بالتأليف بين النقل الصحيح والعقل الصريح على النحو الذي يكوِّن منهاج النظر “بالعقلانية المؤمنة” التي تقرأ النقل بالعقل، وتحكم العقل بالنقل، نافية تناقض النقل والعقل؛ لأن نقيض العقل ليس النقل وإنما هو الجنون.

وعن هذه الوسطية الجامعة، والرافضة لغلوي الإفراط والتفريط في علاقة العقل بالنقل (الشرع)، تحدّث حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (1058-1111م) فقال مصورًا تصويرًا نموذجيًّا منهاج الوسطية الإسلامية الجامعة، الرافض لغلوي الإفراط والتفريط في العقل، والجامع لعناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة والأطراف المتناقضة: “إن أهل السنة قد اطلعوا على طريق الجمع بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول، وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، فمثال العقل البصر السليم من الآفات والآذاء، ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء، فأخلَق بأن يكون طالب الاهتداء، المستغني إذا استغنى بأحدهما عن الآخر؛ في غمار الأغبياء. فالمعرض عن العقل مكتفيًا بنور القرآن، مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضًا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور”(1).

وفي الممارسة والسلوك الديني، هناك غلو الإفراط الذي يدير الظهر للدنيا وطيباتها، ويجعل التدين الإسلامي صورة من الرهبانية التي ابتدعها النصارى دون أن تكتب عليهم، والتي تعذب الجسد طلبًا لخلاص الروح.

وهناك -على النقيض من هذا الغلو- غلو التفريط في الالتزام بالشعائر والروحانيات، وإطلاق العنان للغرائز الحيوانية دونما تهذيب.

بينما حد الوسطية الإسلامية الجامعة في الممارسة والسلوك الديني، هو الجمع -في توازن واعتدال- بين الدين والدنيا، والدنيا والآخرة، وعمران الأرض وتزكية النفس، والاستمتاع بالطيبات الدنيوية الحلال على النحو الذي يجعل هذا الاستمتاع الآني سبيلاً للسعادة الأخروية التي هي خير وأبقى.

وإذا كان “الشح” غلو إفراط يجعل صاحبه وكأنما قد حجر على نفسه الاستمتاع بطيبات ما وهبه الله، فإن “الإسراف السفيه” هو غلو تفريط يستوجب الحجر على صاحبه، كي لا يبدد ما وهبه الله فيما لا يرضى عنه الله. بينما حد “الكرم” الذي يمثل الوسطية الجامعة “للعطاء” الذي غلا فيه المسرف، و”التدبير” الذي غلا فيه الشحيح، هو الموقف الوسطي المحمود الذي برئ من غلوي الإفراط والتفريط معًا.

وإذا كانت الوسطية الجامعة -التي هي خصيصة إسلامية- قد جعلت المنهاج الإسلامي شاملاً للدين والدولة، والفرد والأمة، والفرائض الفردية والفرائض الاجتماعية، والتشريع والتنفيذ، والمبادئ المرجعية والنظم والمؤسسات والآليات… فإن مخاصمة “السياسة” وإهمالها، هو لون من غلو التفريط في الاهتمام بأمور الناس، وإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أن اختزال الإسلام في السياسة والسيف والقفز على الدولة هو لون من غلو الإفراط، بينما حد الوسطية الجامعة هو الذي يجعل المنهاج الإسلامي شاملاً -في توازن يراعي الأوزان والأولويات- لكل مناحي الحياة ولما بعد هذه الحياة: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام:162-163)؛ فالدين لله، وأيضًا الوطن -الذي هو للجميع- هو والجميع لله.

والغلو الديني -إفراطًا كان أو تفريطًا ككل ألوان الغلو- قديم قدم الفكر الإنساني، والسلوك البشري الذي تحكمه وتوجهه الأفكار والمعتقدات والعادات. ولقد ورد التعبير القرآني المباشر عن الغلو في حديث القرآن الكريم عن أهل الكتاب: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً)(النساء:171).

ومنذ صدر الإسلام، لم يخل المجتمع الإسلامي من الغلو والغلاة، سواء أكان ذلك غلو إفراط أم غلو تفريط. فالذين استقلوا أعمالهم الصالحة، فعزموا على صيام النهار أبدًا وقيام الليل دائمًا، واعتزال النساء والزواج والإنجاب كلية، قد أرادوا الإسلام غلو الرهبانية المبتدعة، بينما هو الوسطية الجامعة والمتوازنة والعادلة.

وأهل الغلو في التصوف -الباطني غير الشرعي- قد فرطوا في الدنيا لحساب الآخرة، وفي الماديات لحساب الروحانيات، فاعتزلوا الدنيا والدولة والسياسة، وزهدوا في الطيبات المباحة، ناسين أن هذه هي الطريق القويمة إلى سعادة الآخرة.

بينما كان هناك الذين اختزلوا الإسلام في السيف والدولة والحكومة والسلطان -مثل الخوارج- فتنكبوا -رغم شرف المقاصد- منهاج الإسلام في التغيير، وهو الدعوة والتربية وصناعة الإنسان السوي بإعادة صياغته صياغة إسلامية؛ ليثمر المجتمع الإسلامي السوي دولة الأسوياء التي تحافظ على بقاء هذا المجتمع سويًّا.

ولقد جاء في الحديث الشريف -الذي هو البيان النبوي للبلاغ القرآني- النهي عن كل ألوان الغلو في الدين -كل مناح الدين- فقال: “أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين” (رواه الإمام أحمد)، وكذلك النهي عن الغلو في التعامل مع القرآن الكريم إفراطًا أو تفريطًا، فقال: “اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه” (رواه الإمام أحمد).

وإذا كان الخوارج قد ارتادوا في التاريخ الإسلامي ميدان “الغلو المنظم” -كفرقة- عندما جعلوا حاكمية الله سبحانه وتعالى  -التي هي قضاؤه التكويني والتشريعي- نافية لحاكمية البشر الحاكمين في الدولة والسياسة والاجتماع، فخرجوا بذلك عن حد الوسطية الإسلامية الجامعة بين سيادة الحاكمية الإلهية المتمثلة في شريعته الإلهية، وبين سلطة حاكمية البشر -أمة ودولة- التي هي حاكمية الخلفاء المستخلفين لله، والتي قد تكون حاكمية بشرية “بارة”، وقد تكون حاكمية بشرية “فاجرة”؛ لأنها لا تتمتع بالعصمة التي تتمتع بها شريعة الله والأنبياء المرسلون.

إذا كان الخوارج قد بدأوا أولى حلقات هذا “الغلو المنظم” -كفرقة- في الفكر الإسلامي وفي وضع هذا الفكر المغالي في الممارسة والتطبيق -هبّات وثورات ومعارك استنزفت قواهم وقوى الدولة الإسلامية لأكثر من قرن من الزمان- فإن الوسطية الإسلامية الجامعة لحاكمية الله، ولحاكمية البشر المستخلفين عن الله، قد كانت واعية وحاضرة في مواجهة هذا الغلو منذ اللحظة الأولى لولادته.

فمنذ التحكيم في الصراع بين الراشد الرابع علي بن أبي طالب (600-661م) كرم الله وجهه، وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (603-680م) ومن معه من أهل الشام عقب معركة “صفين” (657م)، وعندما هتف الخوارج في معسكر علي رضي الله عنه: “لا حكم إلا لله”، مكفرين الذين ارتضوا التحكيم والحاكمية البشرية في هذا النزاع السياسي، كانت الوسطية الإسلامية الجامعة حاضرة على لسان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أجابهم: “إنها كلمة حق يراد بها باطل! نعم، إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله! وإنه لا بد للناس من أمير، بر أو فاجر”(2).

ومن “المفارقات” التي تدخل في باب “الموافقات”، أن شعار “الحاكمية” هذا ومصطلحها بمعناه “الخوارجي” الذي جنح أصحابه إلى جعل الحاكمية الإلهية نقيضًا نافيًا لأية حاكمية بشرية والذي بدأت به مسيرة “الغلو المنظم” في التاريخ الإسلامي، قد توارى -هذا الشعار- عن أدبيات الفكر الإسلامي مع طي التاريخ الإسلامي لصفحة الخوارج كثورة مسلحة مستمرة. وظل هذا المصطلح والشعار متواريًا حتى بعثه من مرقده العلامة المجاهد أبو الأعلى المودودي (1903-1979م) رغم ما بين المودودي والخوارج من خلاف واختلاف، فكان أن بدأت مسيرة جماعات الغلو الإسلامي المعاصر تحت رايات شعار الحكمية من جديد.

لقد بدأت هذه الجماعات من “بعض” -ونؤكد على كلمة “بعض”- عبارات المودودي التي كتبها في واقع هندي وهندوكي له ملابسات سياسية وحضارية خاصة، كان المسلمون فيها 25% من سكان الهند قبل التقسيم، وكانت الحاكمية البشرية في ذلك الواقع إما سلطة الاستعمار الإنجليزي، أو السلطة الهندوكية، وكلتاهما عازمة على سحق الهوية الإسلامية للمسلمين الهنود. ولذلك -ولهذه الملابسات الهندية الخاصة- رفض المودودي في بعض نصوصه الحاكمية البشرية التي رآها نقيضًا للحاكمية الإلهية!

ثم جاء الخطأ المزدوج لجماعات الغلو الإسلامي المعاصر عندما نقلت هذا الشعار من الهند إلى الواقع العربي، فكان خطأً مزدوجًا تمثل في:

  • الأول هو تجريد عبارات المودودي عن الحاكمية من ملابساتها السياسية الخاصة التي أفرزتها، وتحويلها إلى “دين ثابت” صالح للتطبيق في أي مكان، فبدأت هذه الجماعات توظيف عبارات المودودي هذه في واقع عربي يمثل المسلمون فيه 96% من السكان، فتحول “الفكر السياسي” النسبي والمرتبط بالواقع الذي يثمره ويحدد طبيعته وتطوره، إلى “دين ثابت” صالح لكل زمان ومكان.
  • أما الخطأ الثاني الذي وقعت فيه جماعات الغلو الإسلامي المعاصر عندما انطلقت من عبارات المودودي عن “الحاكمية”، فلقد تمثل في انتزاع النصوص الملتبسة والموهمة والمتجزأة من كتابات المودودي حول الحاكمية، وإهمال المنهاج العلمي في القراءة الكاملة للمشروع الفكري والسياسي للمودودي، تلك القراءة التي تضبط مفهوم المودودي لمعنى مصطلح الحاكمية، والتي تنصف الرجل عندما تبرئه من المسؤولية عن فكر وسلوك جماعات الغلو هذه، التي ظلمته عندما زعمت أنها قد بدأت من عنده، كما ظلمه أهل الغلو اللاديني عندما سلّموا بنسبة جماعات الغلو هذه إلى هذا الداعية الإسلامي العظيم.

ولجلاء هذه الحقيقة، وسلوكًا لمنهاج الدراسة النقدية الموضوعية التي تعطي كل ذي حق حقه، ننبه إلى أولى مقولات الغلو الإسلامي المعاصر، مقولة “الحاكمية”وثمراتها الفكرية، وخاصة:

مقولة “جاهلية” حضارتنا الإسلامية ومجتمعاتنا ودولنا الإسلامية المعاصرة، ومقولة “كفر وتكفير” هذه المجتمعات المعاصرة ودولها وحكوماتها، بل والقول “بارتداد الأمة الإسلامية” عن الإسلام منذ قرون، وكذلك التفسيرات المغالية والخاطئة لفكرة “الفرقة الناجية” التي جعلت وتجعل قلة من الغلاة يتصورون أنهم وحدهم هم “الفرقة الناجية”، وأن الأغلبية الساحقة من سواد الأمة وشعوبها -فضلاً عن حكوماتها- هالكون في نار الجحيم.

تلك المقولات التي جعلت هؤلاء الغلاة يفاصلون المجتمعات الإسلامية، ويحاولون الانفصال عنها، بالتكفير والهجرة حينًا، وبالعزلة الشعورية حينًا، وبالاستعلاء على سواد الأمة في كل الأحايين، الأمر الذي جعل من هؤلاء الغلاة “خوارج” على الأمة والمجتمعات الإسلامية فضلاً عن الدول والحكومات، سواء أكان “خروجهم” مسلحًا أم غير مسلح، وذلك على الرغم مما يحسبون ويعتقدون من بعد الشقة وشدة الخلاف بينهم وبين الخوارج القدماء.

(*) كاتب ومفكر إسلامي / مصر.

الهوامش

(1) الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد الغزالي، ص:2-3، طبعة القاهرة، مكتبة صبيح، دون تاريخ.

(2) نهج البلاغة، علي بن أبي طالب، ص:65، طبعة دار الشعب، القاهرة.