لا يشك أحد في خطورة الكراهية، فهي بمثابة فيروس ينشط على مستوى القلب، وظيفته الأساس النيل من خلاياه المعنوية ليقوي ذاته من جهة، وليزيد من تكاثر ذريته من جهة أخرى، وهو يستطيع أن ينفذ إلى لب الإنسان تارة عن طريق ثغور أو ثُقب في القيم النبيلة، وتارة عن طريق التلقيح المباشر من طرف شخص مصاب بالعدوى، ليستطيع في الأخير أن يبسط نفوده على جغرافية القلب وإعلانها مملكة له دون منازع وكله إيمان أنه بتوغله وتغلغله وتمكنه من هذه المضغة سيسهل عليه السيطرة على الجسم كله واستعماله في خدمة أجندة الشر لا غير.

وأمام سيطرة الكراهية هذه، لا تملك الجوارح إلا أن تبادر للبيعة ولإظهار ولائها للقلب، واستعدادها التام لبدل الغالي والنفيس من أجل تنفيذ أوامره والخضوع لتعليماته، مع إعلان براءها المطلق من كل قول أو فعل قد يتعارض مع جوهر القيمة التي أصبح القلب حضنا لها وهي الكراهية ولا شيء غيرها  .

إن مراسيم البيعة التي أقيمت على شرف القلب سرعان ما تؤتي أكلها لتبدأ الجوارح بالتمرد على كل ما هو نبيل ، فتغتال الحب فينا ، وتحرق التسامح بنار الانتقام من بعضنا البعض، وتجهز على آخر معاقل الخير في كياننا المنهك، ليصبح  مستعمَرة للحقد والحسد والتباغض دون سواها ، فيكثر الضحايا وتنهار العلاقات الاجتماعية وتعم التفرقة والخلافات وتسود النزاعات والنعرات، ويسوء حال الأفراد والمجتمعات وتزداد الهوة اتساعا ، وتقل فرص التفاهم والتعاون بين الجميع  لا لشيء إلا لأن كل واحد يكره الآخر أو يحقد عليه أو يحسده وشعاره في ذلك أنا خير منه، وما يزال الحال كذلك حتى يلفظ المجتمع قيمه الأخيرة وتكاد تعلن وفاته المفاجئة نتيجة جلطة مبدئية مباغتة ليُترك الناس يتامى لا يملكون من القيم غير سقيمها مما لا يسمن ولا يغني من جوع .

غير أنه والحال هاته التي يُحتضر فيها المجتمع قيميا لا ينبغي  أن نفقد الأمل في العلاج ما دمنا نؤمن بالله العظيم ونتبع نبيه الكريم عليه أزكى الصلاة والتسليم القائل: “ما أنزل الله داء إلا انزل له دواء“، ولا ينبغي أن نيأس من الوصفة الإلهية المسكنة للآلام والطاردة للأسقام ، بل يجب أن نجرب الدواء بعد معرفتنا بموطن الداء وكلنا يقين أن القلب الذي استوطنته الكراهية وتفشي فيه الحقد والحسد وأصبح مستعمرة لهما يمكن بعملية  بسيطة أن نستأصل منه كل ذلك وأن نطعمه بمصل المحبة الذي لا محالة يكسب القلب مناعة ويجعله قويا مُهابا لا تقوى الكراهية ولا غيرها من الأدواء على طرق بابه .

نعم إن المحبة هي الدواء الشافي للقلب، الكفيل بتحريره من كل ما هو ضار وقبيح، والقادر على تطهير خلاياه وتصفية ينابعه، لتغمر فيوضاته الجوارح فتجرفها بعيدا عن البغضاء والضغائن، وتحملها إلى شاطئ الخيرات لتستمتع بمحبة الله الكامنة في محبة الناس لبعضهم البعض وفي تكاملهم وفي تآزرهم وفي توادهم بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو انتمائهم .

والمحبة كذلك هي بمثابة (فيتامين) ينعش الصدر ويقوي طاقته ويساهم في التخلص من جذور الكراهية السامة التي يمكن أن تنتج خلايا مسرطنة للعلاقات الاجتماعية، ولذا وجدنا  الشرع الحكيم يحث عليها ويدعو إليها، قال طبيب الأمة صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السلام بينكم “(مسلم / كتاب الإيمان )، فبين صلى الله عليه وسلم أن المحبة من ثمار الإيمان ، وأن إفشاء السلام من أهم مولداتها ، وكل ذلك يوجب لصاحبه دخول الجنة.

وقال صلى الله عليه وسلم في موضع آخر: “من أحب أن يجد طعم الإيمان،  فليحب المرء، لا يحبه إلا لله – عز وجل “(مسند أحمد)،  فدل ذلك على أن المحبة هي البهار الذي يضفي نكهة اللذة والطعم الحسن على إيمان المرء، خاصة إذا كانت محبة خالصة لوجه الله مجردة له دون سواه ، لا مدخل فيها للرياء أو النفاق أو لأي مصلحة رخيصة قد تغير المذاق وتجعله مرّا مريرا .

ومثل هذه الأحاديث الشيء الكثير الذي يدعو إلى المحبة ويحرض على الحرص عليها باعتبارها قيمة نبيلة تساهم في تقوية العلاقات بين الناس وتطهر قلوبهم من الضغائن والأحقاد والكراهية وتؤهلهم مباشرة  لجني الثمرة العظمى من ذلك كله وهي نيل (محبة الله تعالى) قال صلى الله عليه وسلم  : “إذا أحبَّ الله العبد نادى جبريل: إنّ اللهَ يحبُّ فلاناً فأحبِبْه، فيُحِبُّه جبريلُ، فيُنادي جبريلُ في أهل السّماءِ: إنّ اللهَ يحبُّ فلاناً فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهل السّماء، ثمّ يوضَع له القبولُ في الأرضِ”(البخاري) ، فما أجمل أن يوضع لك القبول في الأرض ، وما أعظم أن يحبك جبريل وأهل السماء بأمر من المحب الأعظم سبحانه الذي لا محالة يغرقك في حبه وفي عطائه وفضلة  ، يقول سبحانه في حديث قدسي “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها وإذا سألني لأعطينه وإذا استغفرني لأغفرن له وإذا استعاذني أعذته”) البخاري)، فأعظم بها من بشارة سارة أيها المحب للناس والمحبوب من طرف رب الناس، واسعد بها من رعاية إلهية تامة وصون مطلق لك ولأعضاء جسمك ، فلا تكاد تسمع بأذنيك إلا ما يفرح، ولا تبصر بعينيك إلا ما يسر، ولا تبطش بيديك إلا بالخير، ولا تكاد تخطو خطوة برجليك إلا في الخير ذهابا وإيابا يمينا وشمالاً. وما تزال كذلك ترتاع في حقول العطاءات الإلهية وتنعم بثمار محبته سبحانه حتى يصبح الإيمان عنوانا لقلبك الطاهر وميزة خصك الله بها دون غيرك، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : “إن الله يؤتي المال من يحبُّ ومن لا يحب، ولا يؤتى الإيمان إلا من أحب، فإذا أحب الله عبدا أعطاه الإيمان، فمنْ ضنَّ بالمال أن ينفقه، وهاب العدو أن يجاهده ، والليل أن يكابده ، فليكثر من قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله، وسبحان الله ” (رواه الطبراني في صحيح الترغيب ) ، وهو ما يؤهلك في آخر المطاف إلى الارتقاء في درجات الجنان والعتق من لهيب النيران  ، عن أنس رضي الله عنه قال: “مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من أصحابه وصبي بين ظهراني الطريق فلما رأت أمه الدواب خشيت على ابنها أن يوطأ فسعت والهة فقالت: ابني! ابني! فاحتملت ابنها فقال القوم: يا نبي الله! ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله، لا يلقي الله حبيبه في النار”، رواه الحاكم في المستدرك كتاب البر والصلة  .

من هنا يتبن مدى قيمة المحبة ودورها في صون القلوب من الصدأ وفي حمايتها من شوائب الكراهية والحقد والحسد، فضلا عن دورها في تحسين سلوك الأفراد وتقوية علاقاتهم بعيدا عن الحسابات الضيقة التي تهدم أكثر مما تبني وتُخسر أكثر مما تُربح، مما يمهد للحياة الطيبة في الدنيا والأخرة.