البكَّاؤون والساهرون

عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “عينان لا تمسّهما النار؛ عين بكتْ من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله” (رواه الترمذي). قُدِّر لي يومًا أن ألتقي الرجل الذي كان رفيقًا لـ”فتح الله كولن” في ذهابه لأداء فريضة الحج، فقصَّ عليَّ الرجل ذكرياته عن فضيلته، ومن بعض ما قاله: “كنتُ محظوظًا بمصاحبتي لفضيلته، وبأن أكون في معيته ونحن نؤدي مناسك الحج في مكة المكرمة وفي زيارة الروضة الشريفة في المدينة المنورة، فخبرته عن قرب، وتعرفت على جوانب كثيرة من شخصيته. وليس شيئًا -كما تعلمون- كالسفر يمكن أن يسفر عن أخلاق الرجال، ويكشف عن خفايا النفوس، فكأني لم أكن أصحب آدميًّا دنيويًّا من لحم ودم، بل كأني بصحبة رجل أخروي ليس من أبناء هذه الدنيا في شيء، يذكرك النظر إليه بالآخرة وبجلال الله وجماله، وبكل ما هو سامٍ وعالٍ من الأدب والخلق. ومن المشاهد المطبوعة في ذاكرتي، والمحفورة عميقًا في شغاف قلبي، والتي لا يمكن أن يمحوها الزمان، مشهد وقوفه على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يكد يقف هذا الموقف المهيب ويشرع في السلام والدعاء حتى بدأت عيناه تصبان من الدموع ما تملأ زجاجة عطر، بينما زفراته وتنهداته تُسمع في جنبات المسجد المبارك، وفجأة وعلى حين غرة، انشقت الصفوف عن رجل عملاق أسود البشرة -وأظنه من إخواننا الأفارقة- فإذا به ينشر كفيه ويمسح براحتيهما دموع فضيلته عن وجهه ثم يغسل وجهه بهذه الدموع متبركًا، وكما ظهر فجأة اختفى فجأة ولم نعثر له على أثر”.

ولو تهيأ لنا أن نجمع هذه الدموع الطاهرة التي يذرفها البكّاؤون خوفًا من الله تعالى وشوقًا إليه، أن نجمعها في قوارير ثم نوقفها مشاعة لأصحاب القلوب القاسية والعيون اليابسة، فإنَّ قلوبهم لا شك سترقُّ، وعيونهم ستندى كأولئك الذين قضوا أعمارهم على ظهور الجياد في سبيل الله، فحملت سُرُجُ خيولهم من نقع المعارك وأتربتها وأغبرتها الشيء الكثير، حتى إنَّ بعضهم أوصى بأن يجمع هذا النقع ويوضع في قبره حين موته ليكون شفيعًا له عند بارئه.

إنَّ اغروراق العيون بالدموع خشوعًا وخشية، آية على أنَّ صاحبها ذو فضائية إيمانية عالية اليقين، فلا جرم -وهذا شأنها- أن تستدرَّ غزير الدموع من محاجر العيون اليابسة وتستثير الكثير من جيشانات الرحمة في القلوب القاسية، وهم المعنيون بالآية الكريمة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)(مريم:58). وهذه هي “اللوعة” التي تحدث عنها “محمد إقبال” وعدَّ افتقاد الأفئدة منها آفة تسبب همود الإيمان وخفوت جذوته، فلا شيء أخطر على الأمة وعلى وجودها الإيماني من ركود إيمانها وجموده بحيث يبقى بلا فعل ولا انفعال. فإذا افتقد أبناء الأمة هذه “اللوعة”، فإنه يخشى على الأمة أن تصاب بداء الأمم من قبلها كما حذرنا القرآن الكريم من ذلك في قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)(الحديد:16). فهؤلاء المعنيون بالآية الكريمة إذا حدَّقْت بهم وراقبت سلوكهم، وجَدتهم وجوهًا متوترة سجينة زمانها، وقعيدة لحظتها الراهنة، غير مهتمة بالآتي من الأزمان، يحركهم الضجر، ويتآكلهم السأم، غير معنيين بأيّة إدراكات روحية عالية، ولا يهمهم الهدف من الخلْق والوجود، ولا خلق الإنسان ووجوده في هذا الكون المهول السعة، والمخوف العمق والغور، إنهم في شدة من الإرهاق الروحي والتعب النفسي اللذين لا يعرفون لهما سببًا. وقد يبلغ بهم التأزّم الذهني إلى حد شعورهم بأنهم لم يعودوا ينفعون لشيء ولا شيء يمكن أن ينفعهم، فغموض أسباب هذا اليأس والقنوط يزيد في يأسهم وقنوطهم، ويفاقم تآكله في وجودهم وكيانهم، ولكونهم يفتقدون القوى الحيوية التي تفجرها فينا معاني الخلود، هذه المعاني التي تفوق كُلّ ما يمكن أن يمنحه لنا “العقل” من أسباب التشبث بالحياة، لذا يصعب على أمثال هؤلاء أن يعودوا من جديد للاستمساك بمحورهم الحياتي الذاتي، والعودة إلى أنفسهم بقوة وعزم وتفاؤل. وليس من همّي أن أجيب على أولئك الذين يسألون عن ثمرة هذا الإيمان بالخلود، فآثاره -لمنْ يبصر جيدًّا- عميقة وشاملة لكل الكيان البشري، وحافز قوي ليقوم الإنسان بمهامه الإنسانية والإيمانية المنوطتين به من حيث كونه خليفة الله في أرضه. فإذا ما فعلوا ذلك، حين ذلك سيشعرون بأنَّ ينبوعًا من القوة يتفجَّر في ذواتهم فجأة، وأنهم عادوا نافعين ومنتفعين، وفاعلين ومنفعلين، وتتعزّز قوى الحواس عندهم، وتتفتح أبواب الخيال والبصيرة، وتتوضح رؤى العالم ورؤى ما وراء العالم، ويشعرون أنهم غائصون في فيض من الحب الأبدي الذي يستمطر منهم دموع الشوق والامتنان للرب الرحيم.

(*) كاتب وأديب / العراق.