أنت عزائي إلى عَزّ العزاء

إذا الحبيب جفاني، وغاب عني وخلاَّني، وإذا القريب سَلاني، ورفيق الدَّرب للدرب رماني، وتولَّى عني وما وفَّاني، والشوق للأحباب أضناني، والتِّيهُ ناداني، وَقَفْرُ الغربةِ أضواني.. فأنت العزاء، والموئل والرجاء… حضورك دائم، وقربك ماثل، إليك ألتجي، وكَهفَ رحمتك أرتجي…
يا قِفار الليالي! يا سَرابات الزَّمن! يا مَتاهاتِ القلوب! إلى أينَ المسير..؟ تاه خَطوي، وكلَّتْ قدمي، وَجَفّ دمعي، وَخَبَت شمسي، وأظلمَ قَمَري، أجدَبتْ كأسي… قتلني العطش، ومصَّني الظما…
فيا سَاقي العطَاش… إليك أشكو، وبك أستجير، وإليك أتضرَّع… ألا قطرةٌ من رَحَمَاتك تَبُلُّ شفاهَ قلبي… ألاَ لَفْتَةٌ من لَفَتَات لطفكَ تُؤْنِسُ دَربي وَتَقود خَطوي؟!
يَا حُزنيَ الخلاّق، يَا خياليَ الدَّفاق، يا مُضنَى يا مشتاق… متى تكسر الأطواق، وتَحطِمُ نِيرَ الأعناق… ومن جحيم الزمن تَفِرُّ وتطير، وسرمدياًّ تصير… وإلى رَبِّك تجري، وإليه تأوي… ومِنهُ تدنو، وله تُسَبّحُ وتشدو؟!
أخذوني، غلَّلُوني، وبحبال الزمان قيدوني، وبأوتاد الأرض أوثقوني… غيّبوني، وبرقعاً أسودَ ألبسوني، وعن السماء حجبوني، ثم قالوا وأعادوا: أنت يا ابن الأرض للأرض خدين، ويا سليل التُّرب في التُّرب سجين… فانتفضتُ وَصَرختُ وتَمَرَّدت وتضرَّعت: يا قريباً غير بعيد، ويا حاضراً غير غائب، يا ذا القوة التي لا تُرَام، ويا ذا العرش المجيد، يا فعّالاً لِمَا يريد! حَطِّم سجني، اكسر قيدي… حرِّرني، شُدّ أزري… أنت عزائي، وكُلُّ أملي وَرجائي…!
يا ندى الروح، يا بَليلَ القلب، يا طَلَّ الفؤاد، يا ساكن أعماقي، يا حاضرَ وجداني، يا سَارِياًَ في الضمير، يا جارياً مع الأنفاس، يا محمودَ لساني، وخفق قلبي وجَنَاني، ونزيلَ كياني… كيف يخاف قلبٌ أنتَ نزيله، وكيف يزيغ ضميرٌ أنت سَكينُهُ، وكيف يَفرُقُ امرؤٌ أنت أمينه؟!
لتتساقط السماءُ كِسَفاً، ولتحتدم الأكوان، ولتنهر المجرات، ولتنطفئ الشموس والأقمار، وليحترق الكون حتى الرماد، وليعُمَّ الفناء، ولتعصف عواصف الهباء، وليحصد الموتُ كلّ حيّ… فلَن ترتعد فرائصي، لأني معك… فأنت الوجود كلّ الوجود، والحضور كلّ الحضور، والحياة كل الحياة، والبقاء كل البقاء… فأنت كفائي، سَتري وغِطائي..!
على باب الغيب توالت طرقاتي… بيمين العقل مرّة ويسار القلب مرّات، وبالنّفس والآفاق كرّةً وكرّات… فلا البابُ انفَرج، ولا الفجرُ انبلج… غير أن صوتاً من وراء الباب آتٍ: أيها الطارق هذا الطرق لا يجدي… عُدْ إلى القرآن فالقرآن مفتاحُ، للقلب والأكوان والغيب فتّاحُ… فتعلّم كيف ترقى، ومن رحيق الغيب بالقرآن تُسقى وتُروى… فإذ ذاك تغدو للغيب علامةً وشارة، وصوتاً وبشارة… فإذا الغيب شهود، وحضورٌ لا يحُور، قوامه الإنسان، وآيهُ الروح والوجدان…
مُدنفٌ أنا هلاّ عُدتَنِي، ظاميءٌ أنا هلاّ سقيتني، خضيبُ الروح، دامي القلب… هلاّ واسيتني وضَمّدتني؟!
في بحار الوَجدِ يجري زورقي، شراعُهُ ذوبُ حنين، ومجدافهُ صوتُ أنين… يا خارقَ السفين! أيها العبد الصالح! يا يدَ الأقدار ويمينَ رب العالمين! لماذا أتيتَ، وزورقي خَرقْتَ، وفي لُجَجِ الأشواقِ أَغْرَقتَني، ثم مَضَيتَ وخَلّيتني؟! هلاّ أنقذتني، وإلى شاطئ الأحباب أوصلتني، وبأسبابهم وصَلتني؟! أم تُرَاكَ قصدتني، ولهذا الغرقِ أردتني.
سادتي! دقّت ساعتي، وجاءت صحوتي، ومن نوم غفلتي استيقظت أرتجي، لحاقاً بكرام أمتي… أولئك السبّاقون، على المكارم يتنافسون، ويتواثبون… “كُن أَبا ذرّ” فكان… صدق حدسك يا رسول الله… ها هو يحث الخطى وحيداً، يسابق الأرض، طيّاً يطويها… جمرات الحصى أكلت نعليه، وأحرقت قدميه… حتى إذا انكشفت الغَبرَة، وبدَت الضحوةُ إذا بأبي ذرٍّ قائماً بين يديك… “رحمك الله أبا ذرّ… في أرض فلاة، وحيداً تُقبض، ووحيداً تُقبر، ووحيداً تُبعثُ وتُحشر”. رحم الله المتفردين… إذ هم على أبواب الجنة ملوكاً قائمين… يهنئون ويُسلِّمون، وعلى أيدي المؤمنين يشُدُّون..!
أيها الضياء الحنون! يا نوراً على نور! خذني من جُبِّ غُربتي، وأطلِقني من أصفاد مِحنتي، قُدْني إلى حيث إخوتي، فقد أضاءت روحي، وأشرق قلبـي، فكيف أطيق المكوث، ساكناً كالموت، صامتاً كالقبر، بارداً كالثلج، وبين أضلاعي نارٌ وقيدُها القلب، وفي الروح ضَرامٌ ما خبا أُجاجه، وما انطفأت جمراتهُ؟!
يا صحابي… يا مصابيح النُور… يا قناديل الهدى… عندكم لقيت بُغيتي… وحظيتُ بطلبتي… وللخدمة أوقفتُ همَّتي… فما أنا بمزكّيكم على الله تعالى… غير أني أحسب أنّكم من القوم الذين لا يشقى جليسهم.