لما دخل العرب الأندلس، نقلوا معهم فنون الزراعة، التي طورت حياة الناس هناك، وأثرت أهله بالخير والحضارة والنماء؛ حيث بلغ علم الزراعة على أيدي العرب المسلمين مرحلة متطورة بعد إجراء التجارب العملية التي كان يجريها الفلاح المسلم، على أنواع الأشجار والأزهار، والتي لم يكتف بما كان لديه من أشجار وبذور، وإنما استورد بذورًا لنباتات لم تكن تزرع في الأندلس، جلبها من الشرق الأدنى. وأخذ يقارن بين أصنافها المختلفة وخصائصها المتباينة،كما عمل على إدخال تحسينات جمة على طرق الحرث والغرس والسقي.
الأمر الذي جعل من الأندلس في العهد العربي جنة الدنيا، وفي ذلك يقول العالم كاباتون:”كانت مدينة العرب في إسبانيا ظاهرة في الأمور المادية، وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأرض البور في الأندلس”، كما اعترف أيضًا العالم سيديو “بأن العرب قد أضافوا مواد نباتية كثيرة كان يجهلها اليونان جهلاً تامًا، وزودوا الصيدلية بأعشاب يستعملونها في التطبيب والمداوة”.ونتوقف عبر هذه السطور مع شخصية أندلسية برعت وتميزت في فن وعلم الزراعة، وهو ابن بصال الأندلسي، والذي يمكن أن نطلق عليه بلغة هذه الأيام مهندسًا زراعيًّا من الطراز الأول، نظرًا لم قام به من تجارب وخبرات متنوعة، تتعلق بأمور الأرض، والري والسماد، والحفاظ على الشجر، وتولية شئون الحدائق والبساتين، إلى أخر ذلك من فنون الزراعة والفلاحة.
من هو ابن بصال؟
هو أبوعبد الله محمد بن إبراهيم المعروف بابن بصال الطليطلي، وهو عالم أندلسي، كان من أوائل من برعوا في الزراعة، وألفوا في الفلاحة، التي مارسها بداية في بلدته طليطلة علمًا وعملاً، وبما أن كنيته، التي تنسب إلى من قد اشتغل بزراعة البصل لم تكن مألوفة فقد حرفها بعض ناسخي كتبه فقالوا ابن الفصال، أو ابن البطال، وغير ذلك. ولعل هذا من الأسباب التي جعلت اسم ابن بصال مجهولاً في العديد من الكتب والمصادر التي أرخت لمسيرة الحضارة الإسلامية في الأندلس، فلم يذكره “بروكلمان في كتابه” تاريخ الأدب العربي، ولا سارتون في كتابه تاريخ العلم، ولا فؤاد سزكين في كتابه تاريخ التراث العربي.
كانت مدينة العرب في إسبانيا ظاهرة في الأمور المادية، وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأرض البور في الأندلس..
أما كان أول من لفت انتبهنا لابن بصال، كان المستشرق “آسين بلاثيوس”، عندما قام في عام 1943م بدراسة كتابًا مجهول المؤلف، صنف في نهاية القرن الحادي عشر، وبداية القرن القرن الثاني عشر الميلادي، فوجد فيه عدة فقرات تردد فيها اسم ابن بصال، ويقول مؤلف هذا الكتاب وهو “أبو الخير الأشبيلي” عند الحديث عن أحد النباتات “وأنا رأيت هذا النبات في بلادنا طليطلة، في بستان السلطان وقد زرعه العارف بالفلاحة ابن بصال، الذي كان خبيرًا بهذا الشأن”.
وقد رحل ابن بصال إلى قرطبة وإشبيلية، ثم ساح في بلاد البحر المتوسط، حيث زار صقلية والإسكندرية والقاهرة، كما أدى فريضة الحج، وعاد بعد ذلك إلى الأندلس؛ حيث اجتمع بصاحب كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات لكل لبيب”، بدليل أن مؤلفه يقول عنه “لقد ذكر ابن بصال أنه رأى السوسن الأزرق في صقلية والإسكندرية”، وقد اعتنى ابن بصال خلال هذه الرحلات التي قام بها بنباتات البلاد التي زارها، ولعله نقل بعض أصنافها إلى الأندلس، ونجح في تطبيقاته عليها، فانتفع بذلك عرب الأندلس والأوربيون فيما بعد.
كما نبغ ابن بصال في العناية بالبساتين والحدائق، وحصل على أصول علم الفلاحة، لكن دوره الكبير وتجاربه الفلاحية المختلفة حصل عليها، لما عمد إليه بأمر بستان المعتمد ابن عباد الإشبيلي، وكما لا يعرف بالتحديد تاريخ ميلاد ابن بصال، فكذلك غفلت أيضًا المصادر التاريخية عن تحديد سنة وفاته، إلا أن بعض هذه المصادر قد أرجعت أنه قد توفي في أوائل القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي.
ابن بصال رائد الفلاحة التطبيقية في الأندلس
وقد ترك لنا ابن بصال كتابًا هامًا في الزراعة، يسمى”كتاب الفلاحة”، وقد نقل هذا الكتاب الهام إلى الإسبانية، في القرن الثالث عشر الميلادي مع كتاب ابن وافد، حيث كانا عمدة الفلاحين الإسبان وخاصة كتاب ابن بصال، الذي كان أقرب إلى المنهج العلمي والناحية العملية التجريبية؛ حيث إنه لا يشتط مؤلفه على عادة كثير ممن كتبوا في موضوع الزراعة والفلاحة.
فأدخلوا فيه الحكايات والأشياء الغريبة، بل إن أهم ما ميز هذا الكتاب، أن صاحبه مزج فيه بين الناحية العلمية والعملية في العمل بالأرض، وتحسين أحوالها ليزيد إنتاجها ويجود، وقد جاء هذا الكتاب الهام، في ستة عشر بابًا موزعة على النحو التالي؛ فمن الباب الأول إلى الباب الرابع، تناول ابن بصال الأمور الأساسية المتعلقة بالزراعة؛ وهي المياة وطبيعة الأرض، ومن الباب الخامس إلى التاسع، تحدث ابن بصال عن الثمار من حيث غرسها وريها ومواعيد زراعتها، وكيفية ضروب الغراسات والكبابيس، وتركيب أشجار الثمار، بعضها في بعض، وغرائب فن التركيب والتطعيم وأسراره، كما خص الباب العاشر بالحديث عن زراعة الحبوب والقطاف، والباب الحادي عشر اختصه بالحديث عن البذور التي تستعمل في أصلح الأطعمة، والثاني عشر للقثاء والبطيخ وما إليهما، والثالث عشر للبقول ذات الأصول”الجذور” وفي الباب الرابع عشر تحدث ابن بصال عن زراعة خضر البقول، وفي الباب الخامس عشر تناول الرياحين والأزهار، أما الباب السادس عشر والأخير، فهو على قول ابن بصال نفسه، باب جامع لمعان غريبة ومنافع جسيمة، من معرفة المياه والآبار واختزال الثمار، وغير ذلك مما لا يستغني أهل الفلاحة عن معرفتها، إذ هي تمام أعمالها واستكمال فائدتها.
ومن ألطف ما عثر عليه في كتاب الفلاحة لابن بصال، وصفه لطريقتين لإعداد الأرض لزرع بذور القطن، الطريقة الأولى يسميها طريقة أهل صقلية، والطريقة الأخرى طريقة أهل الشام، ويقابل هاتين الطريقتين بالطريقة الأندلسية، وتتمثل قيمة كتاب الفلاحة لابن بصال، في أنه تحدث عن جوانب الفلاحة وأحاط بها أحاطة شاملة قائمة على التجربة العملية، التي تندر أن توجد في مصادر أخري ممن تناولت شئون الفلاحة والزراعة في ذلك العصر، لهذا صار كتاب ابن بصال في الفلاحة، مرجعًا لكل من كتب في هذا العلم سواءً في الشرق أو الغرب.