الشباب يشكلون معظم المجتمعات، فإن كانوا طائشين معتدين؛ فالحياة معهم نار لظى، وإن كانوا صورة من الصحابة تشع حياتهم نورًا، ووجوههم بِشْرًا، وتصرفاتُهم تُنبئ عن وجود الله، وتتلألأ الجنة في نظراتهم؛ فالحياة معهم كلها جنة.
إن كان الشباب طائشين فالحياة معهم نار لظى، وإن كانوا راشدين فالحياة معهم جنة.
مفتاح للخير أو للشر
أجل، عندما يَثبُت الإيمان بالبعث والنشور في قلوب الشباب، يكتشفون أسرار نفوسهم وحقيقة ذواتهم، أما إن اجْتُثَّ هذا الشعور من عقولهم وقلوبهم، يصبحون يومها مصدر إفساد للبشرية. فالبشرية اليوم شقية بسبب شبابها الذين تضطرب حياتهم كلها بشتى التصرفات الجنونية. لقد حاول علماء التربية أن يحلوا هذه المشكلة، إلا أنهم وسّعوا الجرح أكثر فأكثر بمعالجاتهم الخاطئة حتى بات متعذر الاندمال، بينما علاج هذا الداء هو الإيمان بالبعث بعد الموت ليس إلا.
الحل الحقيقي يكمن في أن يُنشَّأ الشباب تحت ظل هذا الإيمان، ويستقرَّ في نفوسهم أنهم سيحاسبون على كل خطوة يخطونها في حياتهم الدنيا. يحكى أن الفاروق عمر رضي الله عنه كان في طريقه إلى المسجد، فرأى غلامًا يهرول إلى المسجد، فأسرع حتى لحق به وسأله:
– يا غلام، ما لي أراك مسرعًا ولم تفرض عليك الصلاة بعد؟
فردّ بعبارة وجيزة قائلًا:
– توفي غلام في حيّنا البارحة!
عندما يَثبُت الإيمان بالبعث في قلوب الشباب، يكتشفون أسرار نفوسهم وحقيقة ذواتهم.
الشعور بالحساب
الحياة لا تستقيم إلا بتنظيمها على أساس أن عينًا -لا تخفى عليها خافية- تراقب الإنسانية، وتسجل أفعالها كلها ليوم تحاسَب فيه عليها.
وعليه، فإذا كانت الإرادة الربانية الكلية هي التي تدبّر الكون وتنظّم شؤونه وتصرّف أحواله، فإن الإنسان -بالمقابل- هو المكلَّف بتنظيم حياته بإرادته الجزئية التي مُنحتْ له، وإذا وفّى هذه الإرادة حقها، تجلى الله برحمانيته ورحيميته، وجزاه جنة تلبي كل أشواقه الروحية ومتطلباته الجسدية.. جنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
فالإرادة من تجليات اسمي الرحمن الرحيم، والجنة صورة كاملة لتجليات هذين الاسمين، فإذا وظّف الإنسانُ تَجَلِّيَ الرحمن الرحيم -وهي الإرادة- توظيفًا حسنًا؛ جنى ثمار ذلك جنة عرضها السماوات والأرض.
دنيا في ظل الآخرة
أجل، إن البشرية إذا نظمت دنياها تحت ظل آخرتها، ولم تنس ذلك اليوم الذي تُبلَى فيه السرائر وتكشف فيه الخفايا، بلغت السعادة الحقيقية، وخاصة الشباب؛ إذ يشعرون بالسلام يغمر قلوبهم، فتستقيم سبل الحياة لهم وتنتظم أمورهم، ولا يعكرون على البشرية صفوها.
إن الشباب المتشبع بالقيم السامية والأفكار الرفيعة، هو مصدر حياة المجتمعات.
وهاكم قصة الفتى الأنصاري التي تخفق لها القلوب، وتهتز لها النفوس؛ فقد روى الحاكم في مستدركه: عن سهل بن سعد، أن فتًى من الأنصار دخَلَتْه خشيةٌ من النار، فكان يبكي عند ذكر النار حتى حبَسَه ذلك في البيت، فذُكِر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءه في البيت.
فلما دخل عليه اعتنقه الفتى وخرّ ميّتًا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “جهِّزُوا صَاحِبَكُمْ، فَإِنَّ الْفَرَقَ مِنَ النَّارِ فَلَذَ كَبِدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ أَعَاذَهُ اللهُ مِنْهَا” .
ويقول الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 79/40-41)، إن الإنسان الذي يتدبر عاقبته، ويخشى الوقوف بين يدي الله يوم الحساب، فينظّم حياته وفقًا لهذه الخشية؛ لا بد أن يلقى ربه آمنًا مطمئنًّا، ففي الحديث القدسي يقول صاحب الرحمة اللانهائية: “وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” .
إن البشرية إذا نظمت دنياها وفق آخرتها، ولم تنس اليوم الذي تُبلَى فيه السرائر، بلغت السعادة الحقيقية.
الأمن الحقيقي
فمن خاف هنا أمِن هناك.. أيُّ دستور غير هذا يكبح جماح الشباب؟ وأيُّ حِمى غير هذا الحِمى يقي الإنسان من التشرد والعصيان؟ لذا، لا بد للمشرفين على تربية الشباب والقائمين على تنشئتهم، أن ينتبهوا إلى هذه الحقيقة الواضحة، ومن ثم ينقلوها إلى ساحة التطبيق.
الشباب يعني كل شيء،
وإذا عالجنا المسألة في ضوء حكمة تُنسب إلى سيدنا عمر رضي الله عنه: “إنّ القومَ إذا ضاعَ فتيانهم فقد هلَكوا” والتي قالها عندما رأى شابًّا يزأرُ إزاء انتهاك حرمة، يمكننا القول إن الشباب المتشبع بالقيم السامية والأفكار الرفيعة، هو مصدر حياة المجتمعات، والأمةُ التي لديها هذا النوع من الشباب تملك من الاستعداد ما تبني به حضارات جديدة وعديدة، إذًا الشباب الذي يجيش صدره بمشاعر الإيمان بالآخرة، أهم عامل في تقدم الأمم ورقيّها.
المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.