هل من الممكن تصور حياة الإنسان مفصولة عن الإعلام؟ شدة ارتباط الإنسان المعاصر بالإعلام يؤكد استحالة ذلك، لأن الإعلام هذا الكائن الذي أوجدته الحياة المعاصرة، احتل مكان الصدارة في الحياة، ولم يعد أحد ولا مجال من المجالات في معزل عن تأثيره الإيجابي أو السلبي، والارتباط به من قريب أو بعيد، ولا أحد يجادل اليوم في قدرته الفائقة على تشكيل العقليات وتوجيه الذهنيات. وينبغي التنبيه في هذا المقام على أن الإعلام المقصود هو ذلك المجال المتعدد الأشكال والهيئات وإن ورد بصيغة المفرد، بمعنى أن الإعلام اسم جنس يعم مختلف أنواع سلوك التواصل التي تتخذ من الإنسان غايتها.
عندما ينسلخ العلم عن القيم يشيئ الإنسان ولا ينظر إلا في مكونه المادي، فالإعلام المنحرف عن الغايات النبيلة، هو أداة فلسفة الطبيعة في انتزاع الإنسان انتزاعًا من أحضان قيم الخير.
صار هذا الكائن المركب الذي ينمو ويتطور بسرعة عجيبة، جزءًا من ثقافة الشعوب والأمم، وصار من المسلَّم أن الأمم التي لا تتوفر على رؤية إعلامية قائمة على أساس ثقافي فكري واضح وجلي، وعلى مرام ملموسة وغايات نابعة من الخصوصية الذاتية، التي تأخذ بعين الاعتبار الثقافة والتاريخ والجغرافيا في بؤرة واحدة، فعاجزة عن إضافة شيء للشخصية الذاتية، بل هي عالة على غيرها من الأمم والثقافات التي تستطيع إبراز وجودها، وتعرف كيفية سبل تسويق ذاتها للغير.
ومن نافلة القول: إن لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تعكس مدى عمقه الفكري ومستواه الحضاري، وتعكس في الوقت نفسه وعيه الجمعي ومدى ارتباط مكونات المجتمع بجذورها الثقافية والفكرية والدينية، العاكسة في الوقت نفسه لمدى وعيها بموقع خصوصيتها الثقافية بين مختلف الثقافات. إن الخصوصية الثقافة هي التي تحفظ للجماعة الثقافية والمجتمع النابع منها، التوازن الضروري، وتضمن سلامة هويته، وتحافظ له على استمرار وجوده، فإذا أُلغيت هذه المقومات، تحولت الجماعة الثقافية إلى كائن ممسوخ يعيش من خلال الآخرين، وإلى مجرد شكل بلا روح، بل تحولت إلى شبح يخشى حتى الأشباح.
يمر واقع الإنسان المعاصر في هذه الأيام بأزمة قيم حادة، وما يزيد من حدة هذه الأزمة هو الإعلام الذي يبدو أنه حصر مهمته، أو أريد لمهمته أن تنحصر في إذكاء نار الأزمات وتوجيه دفتها لأسباب مختلفة غير أخلاقية، هذا في الوقت الذي تؤكد فيه مختلف الأدبيات، أن الإعلام بمختلف وسائطه وسيلة يوظفها الإنسان في تنمية الطاقة الفكرية والإبداعية، هذا هو ما يفترض فيه القيام به، حيث يفترض فيه السعي إلى تغذية روح المجتمع بالأفكار والرؤى الكفيلة بضمان استقرار، وتنظيم قدراتهم، وتطوير مهاراتهم.
التطور الكبير الذي عرفته العلاقات البشرية والطفرة المهمة التي حققها الإعلام ووسائل الاتصال، أوجد بموازاة ذلك منظومة معينة من القيم الإنسانية العامة حسب ادعاء البعض وبغض النظر عن طبيعتها والشعارات التي ترد تحتها، وهل هي قيم مقبولة أم غير مقبولة، وهل بنيت بناء منطقيًّا وحصل حولها الحد الأدنى من التوافق بين مختلف المجتمعات والثقافات والشعوب، وهل عاشت مخاض الولادة الطبيعية أم هي مجرد قيم فرضها طرف ما بالاعتماد على سلطة تدجن القيم وتمسخها؟ وفطرة الإنسان تميل إلى التواصل والتعارف، ولا يمكن تمثل هذا التعارف والتواصل بعيدًا عن القيم والأخلاق، لأنها تمد هذه الحاجة الفطرية بالطاقة اللازمة لحيويتها، وتنير لها الطريق، حتى لا تتحول شيئًا مشوهًا يدعي التواصل، لكنه يرسي قواعد التفرقة والتنازع.
“القيم” جمع “قيمة”، وهي اسم هيأة يدل في الاستعمال العادي على قدر الشيء أو مقداره. والعديد من الفلسفات والمذاهب الفكرية القديمة والحديثة تلح على أهمية القيم في حياة الإنسان، أي على قدر ضروري هو الحد الأدنى الذي يقع وسطًا بين المثالية والغلو أو التطرف، وتلح على حد أدنى منها، إذ لا قيمة لحياة بغير قيم، ولا تستقيم حياة الإنسان بدونها. وفي الوقت الذي تميل فيه فطرة الإنسان إلى التواصل والتعارف والتكامل -كما أشير سالفًا- تميل بعض الأفكار التي قد تتلبس لبوس الدين أو إلى إذكاء نعرة الصراع، فلا عجب أن أريد للعلاقات الإنسانية في الوقت الراهن أن تكون قائمة على الصراع، ولا عجب أن تكون صراعات الإنسان أخلاقية، وأن يكون الإعلام الوسيط المؤجج لجمار هذا الصراع.
للقيم والأخلاق سلطة معنوية لا تنكر، وهي تستمد سلطتها من قوة المرتكزات التي تقوم عليها، وسمو المرامي والأهداف التي تريد الوصول إليها، إذ كلما كانت هذه المرتكزات المحركة جلية كلما كان للقيم سلطة تمارسها وتطبع بطابعها منظومة التفكير داخل المجتمع. فإذا سادت قيم الخير ساد الانسجام والتوافق، وارتدى الواقع رداء جنس القيم السائدة، وليس المقصود هو السيادة المطلقة، ولكن المراد هي أن تكون الطابع الغالب، فلا مكان لأحلام المدينة الفاضلة بل هو الواقع بمختلف تفاعلاته، والعكس صحيح، لكن مصدر الأزمة هو عندما تتلبس قيم الشر لباس قيم الخير، وتقدم نفسها على أنها هي الخير المطلق.
المتأمل في السائد الفكري الذي يروجه إعلام هذه الأيام، يستخلص سيادة نمط فلسفي واحد لا يخطئه العقل يجد مصدره في فلسفة الطبيعة، وفي نظرتها إلى الإنسان باعتباره شيئًا من الأشياء آخر، يسهل السيطرة عليه وإخضاعه للتجربة وتحويله إلى مجرد مكون قابل للتكييف والتحويل حسب الأوضاع التي تراد له، وممنوع من أبسط مقوماته وهو حرية أن يفكر وأن يقرر مصيره بحرية اختيار.
أوجدت فلسفة الطبيعة وثوبها المزركش الحداثة بنيات ذات أبعاد أخلاقية، تفكر وتضع الخطط الإستراتيجية لاستدراج الإنسان المسكين وإسقاطه في شرك التقليد الأعمى لمنظومتها الأخلاقية وفق نمطية محددة سلفًا. والإعلام هذا الكائن العجيب، والغول المخيف الذي ولد من رحم الحداثة، هو الوسيلة التي أنيط بها صناعة الإنسان النمطي، وصناعة رأي عام مسلوب الإرادة تحت عناوين براقة كسعادة الإنسان، وإخضاعه لمنطق العلم لأنه هو الكفيل بضمان هذه السعادة، لكن عندما ينسلخ العلم عن القيم يشيئ الإنسان ولا ينظر إلا في مكونه المادي، فالإعلام المنحرف عن الغايات النبيلة، هو أداة فلسفة الطبيعة في انتزاع الإنسان انتزاعًا من أحضان قيم الخير.
الإعلام الصحيح يجب أن يكون هدفه الحقيقة، ومنهجه الصدق والموضوعية، وهذه كلها مقومات يستوي فيها جميع أفراد المجتمع الإنساني.
هناك دائمًا -وعلى مر التاريخ- طرف أو أطراف سياسية واقتصادية وثقافية من المجتمع الإنساني، تسعى إلى تشكيل اقتناعات وبناء رأي عام يسود لخدمة مصالح فئة أو جهة معينة، وقد يعتبر ذلك أمرًا مشروعًا، لكن عندما تنسلخ المصالح والأهداف عن القيم السامية، وتقوى علاقتها بقيم أخرى، فإن الرأي العام المشكل يتحول إلى كيان ممسوخ لا يعي ذاته ولا كونه مشدودًا إلى خيوط قوية تحركه عن بعد، وقد يجد سلوانه في الحيز الضيق المتروك له إراديًّا لكي يتوهم أنه صاحب إرادة حرة وبأنه يملك قرار مصيره.
ومن هذه الزاوية ينبغي النظر إلى حقيقة القيم والأخلاق، أي من زاوية علاقتها بمؤسسات الإعلام بشتى أشكالها ووسائلها، وليس المقصود بالمؤسسة هنا الجانب المادي فحسب، بل المقصود هو المؤسسة باعتبارها اختيارًا فكريًّا وإستراتيجيًّا يتوخى رؤية فكرية أو فلسفية أو عقدية على المدى القريب والمتوسط والبعيد، لتبرز الأسئلة المشروعة الآتية: ما طبيعة السلطة التي يتوجب أن تخضع إليها مؤسسة الإعلام؟ هل تخضع لسلطة الدولة الحديثة بمفهومها الإشكالي في الوقت الذي يتحدث عن سلطة رابعة يعتبرها البعض ضمير المجتمع وعقله النقدي المتزن؟ وما الحد أو الحدود التي يتوجب ألا يتخطاها هذا الإعلام في دائرة القيم والأخلاق؟
غير خافٍ أن أطرافًا كثيرة في حاجة ماسة إلى الإعلام وقد وظفته وتوظفه بصورة متواترة، وغير خافٍ كذلك أن هذه الأطراف ذات غايات مختلفة غير ربحية أو ربحية، وذات غايات ثقافية نبيلة أو غايات أيديولوجية وسياسية غير نبيلة، فهل المفترض خضوع هذه الأطراف لسلطة ما، كسلطة الدولة باعتبارها قيمة أخلاقية أو لسلطة منظومة أخلاقية أخرى كسلطة الأخلاق باعتبارها جوهرًا؟ ومن يفترض فيه تحديد مكونات هذه المنظومة، أي ما المصدر الذي تستمد منه القيم مرجعيتها؟ وأين تنتهي هوية من يوظف الإعلام لتبدأ السلطة الإعلامية، وهل عندما تحاكم المؤسسة من زاوية القيم يجوز محاكمة من يؤثث هذا الإعلام؟ ثم هل من دور للقيم والأخلاق في إعادة توجيه رسالة الإعلام وتحديد اختياراته؟
عَمِل صنف من الإعلام منذ عقود على تصنيف العالم إلى دوائر ومنظومات ثقافية مختلفة، فهناك الغرب والشرق، والشمال والجنوب، والعالم المتقدم والآخر المتأخر، وروج هذا الإعلام نفسه لفكرة تقسيم العالم على أساس حضاري إلى سبع حضارات، متصارعة فيما بينها، لينحصر الصراع بين ثلاث حضارات، وقد تكون الغلبة لنموذج حضاري يعلن نهاية التاريخ وينبغي أن يسود أو هو السائد. كل هذه التصنيفات تتم على أساس أخلاقي، وعلى أساس فكرة المركزية التي حتى وإن حصن الذهن بشتى ضوابط العقل العلمية والمعرفية، فإن التصنيف يبقى هو المعيار الذي يتخذ منه الإعلام الطاقة التي تدير آلته.
وإذا كانت فلسفة الطبيعة وآلياتها قد أوجدت بنية أخلاقية قد يعدها البعض بنية فاسدة، وعلى أساسها نموذج حضاري يحتل الريادة العالمية، فإن أطرافًا دينية وسياسية، تدعي المركزية الفكرية والدينية، وتحتكر السلطة الأخلاقية، وتصنف المجتمع على أساس ذلك.
الإعلام الصحيح يجب أن يكون هدفه الحقيقة، ومنهجه الصدق والموضوعية، وهذه كلها مقومات يستوي فيها جميع أفراد المجتمع الإنساني، لأن تلك هي المبشرات الأخلاقية التي تبشر بها الثقافات وتدعي كل القوى السياسية والاقتصادية والفكرية أنها تدعو إليها وتضمن الحفاظ عليها، على أساس أن الصوت الواحد نشاز ويضر أكثر مما ينفع، لكن واقع الحال يؤكد عكس ذلك، خاصة عندما تتمركز السلطة والقوة في بؤرة واحدة، وتحاصر الصوت الآخر، ويتحول الإعلام إلى بوق يخدم جهة واحدة ويحاصر الجهات الأخرى. والأغرب هو أن تكون القيم والأخلاق هي الأداة التي تشحن بها القوة المتسلطة الإعلام من أجل محاصرة الأصوات الأخرى، ويصبح جوهر الأخلاق والقيم مجرد سفسطة لخداع ذوي المدارك التي يسهل أن تنجر خلف سيكولوجية الجماهير، كذلك عندما تتموقع الأصوات الأخرى في خانة الدفاع عن الحق والقيم والأخلاق.
تبدو القيم والأخلاق في هذه المعادلة هي الحلقة الأضعف، لأنها باعتبارها جوهرًا قد تفرغ من جوهرها وتحول إلى سيف يتسلط به طرف على الطرف المعارض بدعوى المروق عن القيم والأخلاق، بعبارة أخرى ومن منظور آخر، القيم قيم ما دامت تخدم رؤية طرف ضد طرف، والحال أن الأصل هو جوهر القيم والأخلاق، وليس تفسيرها وتأويلها حسب الأهواء والمصالح.
الإنسان من منظور إسلامي، منفتح على ثلاثة دوائر للتفكير: التفكير في الذات، والتفكير في الغير، والتفكير في المصير بعد الموت في الآخرة، لكن في معادلة تسلط طرف ما لا نجد سوى المنافع الخاصة واختزال القيم فيما يمكن جنيه من دون اعتبار للوسيلة، لأن الغاية تبرر الوسيلة والتفكير ينحصر في الذات وبالذات ويبقى الغير مجرد وسيلة. وبسبب تضخم الـ”أنا”، وضعت الخطط والسياسيات، ودبرت الحروب، وصنع الرأي العام وفق نمط فكري لا يعنيه من حقيقة الواقع إلا الأرقام وبيانات ارتفاع الربح والخسارة، حسب مؤشرات العرض والطلب، وأما الدائرة الثالثة فمحجوبة بإشباع هذه اللذة.
الأزمة الفعلية -وفي العمق هي أزمة القيم- وأزمة غياب منظومة فكرية متكاملة، منظومة ترجع إلى أصل ثابت، قادرة على تقديم درجة معينة من الحصانة الفكرية للإنسان، تمكنه من إدراك أبعاد خطاب الإعلام، ومن إدراك دوره في هذا الوجود، وإدراك مسؤوليته تجاه غيره، وإدراك أن للقيم حدًّا أدنى، وهذا الحد الأدنى مشترك بين جميع البشر لا تخطئه مدارك العقلاء والأسوياء، ويتوجب تفعيله وفرضه على كل سلطة كيفما كانت طبيعتها. من هذه الزاوية يبرز المثقف باعتباره مكونًا من مكونات دائرة العقلاء والأسوياء. لقد حان الوقت ليكون للمثقف حضوره الفعال، ويتحول إلى قوة اقتراحية مرشدة، وحان الوقت ليتخلى عن رهن صوته لخطاب الإعلام، ولمن يتحكمون في إدارة خيوطه. ليس المراد إبراز صورة قاتمة عن هذا المثقف الذي توظفه وسائل الإعلام، بل الغاية هي دفعه إلى فرض ذاته مفكرًا ومخططًا وموجهًا وصاحب سلطة ثقافية حقيقية.
الأزمات ذات مضار كثيرة على حياة الأمم والشعوب، لكنها في الوقت نفسه مجال تاريخي لتوقف الذات مع نفسها من أجل إعادة طرح أسئلتها الوجودية، والإعلام لا يمكن أن يشذ عن هذه الحقيقة. فالمتأمل في المشهد الإعلامي، سيلاحظ بأنه لم يعد قادرًا على التصرف في ضوء الحكمة والموضوعية، وقد حان الوقت لتمارس القيم في بعدها الجوهري سلطتها المصححة والموجهة.
(*) أستاذ الفكر والحضارة بجامعة أبي شعيب الدكالي / المغرب.