لولا الروح لما كانت الحرية. جثة من الطين كان هذا الإنسان، فما إن نفخت فيه الروح، حتى تحرر من ترابيته، وسرت فيه الدماء، وتحركت فيه المشاعر، وظهرت عليه آثار القدرة والإرادة. فواهمٌ إذن من يبحث عن الحرية خارج وصفات الروح.
ومرة أخرى مدرسة رمضان هي التي تُبادرُنا وتطرق علينا شرودنا، وتنبِّهنا إلى حقيقة التحرر في زمن استعباد الفناء، والزَّبَدِ الجفاء، والانصياع لأمراض الباطن المزخرفة بألون الطَّيْف الممسوخ. انظر إلى الصيام كيف يحررك من نفسك وينصرُك عليها، ويجعلك تمسك بلجامها لتقودها إلى الخير.
الصيام يحرر الإنسان من نفسه، وينصره عليها ويجعله يمسك بلجامها ليقودها إلى الخير.
تذوَّقْ طعم الصوم لا بمذاق الجوع، ولكن بمذاق الانقطاع عن السراب الخادع، والانفكاك من أصفادٍ تمرِّغ أنف صاحبها في وَحْل القلق القهري، والتخلص من وَهْم الكمال الذاتي الذي يزين بريقَه الرضا عن خطط النفس الحائرة بين الانتصار للشبهة أو الانتصار للحق، الانتصار للحب أو الانتصار للمتعة.
لكي تسير إلى حيث النور الذي تتلمس به البصيرةُ هداها بثباتٍ؛ كم أنت مفتقر أيها الإنسان إلى الحرية، وفي حاجة ماسة إلى الحرية كي تتخلص من تلك الأغلال التي تكاد تُبِين، تَشدُّك إلى الأرض وتُثْقِل خطاك عن الانطلاقة المتجددة الحالمة بانتشال الذات من الصورة إلى الحقيقة.. في حاجة إلى الحرية كي تكون قادرًا على الفرار وطلب اللجوء إلى من يحميك حقًّا ممن يريدون سَجْنَك بلا قضبانٍ في ظلمات الزَّيف وغَياهِب الغفلة ومتاهات الشقاء ومضايق المادية؛ (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ)(الذاريات:50)..
في حاجة إلى الحرية كي تستطيع الرفرفة بانسياب إلى محبوبك الذي يَرْقُب صحوَتَك فتُهْرَع لتُنِيخَ المطايا ببابه المفتوح على مصراعيه، تناجي وتطلب الصفح الجميل؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)(البقرة:186)، رغبًا ورهبًا ترجو رضاه الأبدي بعبودية متحررة صدقًا وعدلاً من شهوات منحطّة ومن همزات الشيطان الجاثمة على منابع الخير فيك، تصدّها صدًّا وتحبسها كي لا تنهمر فتملأ الأجواء عبقًا يفوح من أزهار الفطرة السوية؛ (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(الروم:30).
إلى الحرية التي تجعلك محلِّقًا نحو أسرار ذاتك فكرًا وشعورًا وسلوكًا، لَتُميط اللثامَ عن جذوة الخير القابعة تحت دنس الخطايا والمعاصي في الرُّوع الضعيف بداخلك.. وترفع الغطاء الأسود عن نداء حب الخير الكامن في سُوَيداء الضمير الصّاحي، لتسمع صوت الصفاء المزيَّن برداء الانكسار لكبرياء الرحمن، والمعطَّر بريح الطهر والنقاء؛ (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(الأعراف:206).
في حاجة إلى حرية تُفصح لك أن عبوديتك للسماء تحرُّر وانعتاق، وأن عبوديتك للأرض تكبيل وانغلاق. ألم تر أن خالق الأجساد من طين، هو الذي حررها من الجمود والصنمية الترابية بالنفخ من روحه، وكرَّمها بالسجود الملائكي؛ (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)(الحجر:29). النفخة الإلهية، لكي تكون حرًّا مختارًا، والسجود الملائكي، كي توقِن أن حريتك في عبودية الرِّفْعة والكرامة للواحد الأحد، وفي طهر ونقاء الساجدين، كي تعود إلى الرشد كلما أيقنت أنك في عبودية الذِّلة والهوان لِشُرور الجوف المريض بأهواء العميان عن رقابة الذي يمهل ولا يهمل.
أيها الصائم التائق لرضى الغفور الشكور، تلمَّس نور اليقظة القلبية ببصيرة التجرد من الشهوات الدنية.
أيها الصائم التائق لرضى الغفور الشكور، تلمَّس نور اليقظة القلبية ببصيرة التجرد من الشهوات الدنية، تمرَّدْ على قانون الغاب الذي تعلَّمَتْه أحشاء النفس الأمارة بالسوء، وابعثْ رسائل التغيير إلى كل الخلايا النابضة بأسرار الحياة الخاضعة، ابتداءً لِسرِّ التوحيد الرباني؛ (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).الأعراف:172).
تفحَّصْ علل الباطن، فإنها سرُّ اللؤم والغرور والكِبْر، افضحْها بين جنبيك ولا تتركْ لها حظًّا كي تورِّي عنك، قُدْها إلى مِصحَّة الخلاص في زمنٍ طيِّب مبارك لا تُعافى منه تلكم الأسقام إلا في ثناياه وهُنَيْهاته.. اجلِسْ على كرسي الاعتراف والصّراحة أمام مرآة الضمير المستفيق كي تكتشف الغِشاوة الخفيَّة وهي تحجب عنك حقيقة الوَهْم الذي يضلُّك عن الاعتذار.. أَضئْ مِشْعل الوحي في دياجي الشعور بالخوف من التشريح على مأدُبة القرآن الشافي الكريم.. أقبِلْ ولا تخفْ؛ (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى)(طه:21)، لكن بباطنٍ جديد راضٍ مطمئن سعيد.
مدرسة رمضان الذي (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ)(البقرة:185)، فرصةُ إعلان حركة الاستقلال النفسية عن جشع التعلق بالدنيا الفانية، وعن الوسواس الذي ترعاه مشاعر الأَثَرة والأنانية.. هي وجهة النادمين على دخولهم معتَرك عصور الانحطاط، هي ملاذ الخائفين من ذكريات إسعاد إبليس، هي محط أنظار القلوب المكدَّرة بوخْز الغِلِّ والغش والهوى، ترجو طهرها، وغسل عروقها من مُخلّفات الدمار الباطن.
هكذا تتحول الأرواح فيها إلى مصابيح متشوقة إلى نور يتوهج في داخلها بأسرار التوحيد معترفةً بما مضى من الخطيئة: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(الأنبياء:87)، تتوق حينها للترقي في مدارج السالكين إلى التواب الرحيم.
أيها السائر إلى الله، لا محالة تزوَّدْ بالحرية في مدرسة عبادة التكريم، فإن المسير شاق وطويل، والبرزخ القبري موحشٌ، وهول المطلع الأخير عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.. ارفعْ راية النصر وارْكُزْها بعزم ويقين على تراب نفسك المسوَّد بأدران اللسان وأوساغ الجنان؛ لأنك فعلاً تراب، لولا الروح لما سرتْ فيك الدماء ولا عرفتَ أن الخضوع للواحد المعبود يحرِّرك من قيدك الذي تتوهم أنه لا ينكسر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب وأديب مغربي.