في متابعة لسلسلة مقالاتنا حول خطاب الأستاذ كولن خلال أزمة الخدمة مع القيادة التركية الحالية نرصد في السطور الآتية استهجان الأستاذ كولن للممارسات والانتهاكات التي تمارسها الحكومة بلا بينة أو دليل ضد أبناء الخدمة، وتوجيهاته لهم لمواجهة هذه الضغوطات والاستفزازات والممارسات القمعية الغاشمة.
أعتقد أن أشد الطغاة ظلما في التاريخ لم يرتكبوا هذا القدر من الجرائم التي تترك الحليم حيرانا
(1) انتهاكات ليس لها مثيل، وظلم فاق الحد
لا شك أن ما تعرضت له الخدمة في هذه المرحلة، لم يشهد تاريخها له نظيرا في أي مرحلة من مراحلها حتى الآن، وهو ما جعل الأستاذ كولن يصرح بأن “أشد الطغاة ظلما في التاريخ لم يرتكبوا هذا القدر من الجرائم التي تترك الحليم حيرانا”، وقد يرى البعض أن الأستاذ كولن يبالغ في ردة فعله على هذه التجاوزات بهذا التصريح شديد اللهجة، لكن عندما نتابع السياق من بدايته سنجد أن هذا التصريح جاء منسجما مع حجم التجاوزات التي مورست في حق أبناء الخدمة بل في حق المجتمع بشكل عام، يقول الأستاذ كولن: “نعم هناك مظالم صارخة، يقترفون جرائم شنيعة، يشرعنون لبعض المعاصي، يصفقون لحياة الانحلال، ويتغاضون عنها. يتسترون على جميع الانتهاكات، ويتسترون على كل التجاوزات. يقطعون طريق أناس انتشروا في شرق العالم وغربه دون انتظار أي أجر دنيوي، انتشروا حاملين على عاتقهم الاسم النبوي الجليل كالعَلَم ليرفرف في السماء. … يسعون إلى إغلاق المؤسسات التي يرفرف فوقها. نزغة شيطانية تحركهم، وأيّ نزغة؟ أعتقد أن أشد الطغاة ظلما في التاريخ لم يرتكبوا هذا القدر من الجرائم التي تترك الحليم حيرانا”.
(2) حتى الانقلابات لم تشهد مثل هذه التجاوزات
وفي الحوار الذي أجراه مع جريدة الوطن المصرية ونُشر على جزئين بتاريخ 9-12/أبريل/2017 تحدث أيضا عن هذه التجاوزات قائلا: “لقد مرت تركيا بفترات عصيبة طوال تاريخها الحديث، فعلى رأس كل عشر سنوات كان يقع انقلاب في تركيا، وكانت محصلة هذه الانقلابات تراجعًا في مستوى الحريات بوجه عام، واعتقالات عشوائية بالجملة، وكانت تركز على المتدينين خاصة، لكننا لم نر أسوأ مما يحدث حاليا، فرغم كل تلك المظالم التي شهدناها في السابق كانت هناك حدود معينة يتوقفون عندها. فالنساء والأطفال والشيوخ كانت لهم حرمتهم، والقوانين كانت ولا زالت تنصّ على أن الجرائم شخصية، … لكن السيناريو الذي نعيشه حاليا، والذي لا ندري من كاتبه ولمصلحة من يطبقونه على أرض الواقع، جعلهم بذرائع واهية وبموجب قوانين الطوارئ التي يفرضونها يرتكبون كل شيء يخالف الدين والقانون والأخلاق والأعراف والإنسانية، فهناك آلاف من المعتقلين في السجون بلا تهمة أو بينة أو دليل”.
لقد فطن الأستاذ كولن منذ اللحظة الأولى أن هناك ممارسات وانتهاكات مقصودة تهدف إلى استفزاز أبناء الخدمة للخروج عن الإطار العام والقيام بأي أعمال فوضوية أو تخريبية
(3) أخلاق غريبة على أرض الأناضول المباركة
وفي أحد دروس أمريكا في مقطع منه منشور على اليوتيوب بعنوان: “لم تصل الدناءة والشناعة إلى هذا الحد” بعدما تحدث عن افتراءات المنافقين وضعاف الإيمان في حادثة الإفك ضد السيدة عائشة رضي لله عنها أشار إلى ما يصيب أبناء الخدمة قائلا: “إن الافتراءات التي تصيبكم والظلم الذي وقع عليكم في المعاملات والاعتقالات والتهجير والتحقير والأكاذيب المزيفة قد بلغت أنهم يريدون أن يهيمنوا عليكم وينفوكم من الأرض ويبيدوكم كليا”، ثم عبر عن صدمته وتأثره لرؤيته شابين معتقلين من الأناضول حضرا جنازة والدتهما مكبلين بالقيود، وتعجب من الحال المزرية من “فقد الإنسانية” التي وصلت إليها أرض الأناضول المباركة.
(4) الإيجابية ورعاية القوانين رغم كل التجاوزات
وفي المقطع السابق عينه عقب قائلا: “لقد كانت هذه الأحداث صدمة أثرت في النفوس وكادت أن تجرها إلى الأعمال السلبية”، وهنا مربط الفرس كما يقولون، فرغم رصد الأستاذ لكل هذه الممارسات التي تمت، والانتهاكات التي ارتكبت، والمظالم التي مفصِّلا أحيانا ومُجمِلا أحيانا أخرى، فإنه كان حريصا في توجيهه لأبناء الخدمة على تثبيت بعض القيم التي يتميزون بها عموما، والتي سنشير إلى ثلاثة منها إجمالا ثم نتابع واحدة منها بالتفصيل، فمن هذه القيم:
– التمسك بأسلوب الخدمة الإيجابي في القول والعمل
– عدم التنازل عن مبدأ “مراعاة القوانين” وطلب الحقوق عبر الوسائل المشروعة داخليا وخارجيا.
– تقوية الارتباط بالله تعالى
– التأكيد على بعض قيم “الخدمة” وإعطاءها الأولوية في هذه المرحلة
– إعادة قراءة بعض المسائل
أولا: التمسك بأسلوب الخدمة الإيجابي في القول والعمل.
لقد رصدنا في هذه القيمة التي حرص الأستاذ كولن على توجيه أبناء الخدمة لها بعدين رئيسين:
1.عدم الانجرار وراء الاستفزازات بأي مظاهرة أو أي عمل تخريبي فوضوي
بفضل الله أولا، ثم بفضل التربية التي نشأنا عليها لم نحقق مرادهم ونُستدرج إلى ما يريدون، فلم يصدر من أبناء الخدمة رد فعل على كل هذه الاستفزازات حتى ولو بوكزة
لقد فطن الأستاذ كولن منذ اللحظة الأولى أن هناك ممارسات وانتهاكات مقصودة تهدف إلى استفزاز أبناء الخدمة للخروج عن الإطار العام والقيام بأي أعمال فوضوية أو تخريبية وهو ما عبر عنه صراحة في حواره مع مجلة الأهرام العربي الأسبوعية بتاريخ 8أكتوبر2016 حيث قال:” من الوارد أن هناك فئة كانت تستهدف حدوث ذلك، أعني الانجرار إلى الميادين… لقد كان هدفهم من إغلاق المؤسسات وتدميرها بهذا الشكل العنيف، وإهدارِ كل الجهود المتراكمة على مدار السنين، بالإضافة إلى إطلاق أعوانهم والموالين لهم لينهبوا هذه المؤسسات ويستولوا عليها هو الضغط على مشاعر أبناء الخدمة، واستدراجهم إلى الشوارع، وتصويرهم عندها على أنهم إرهابيون مخربون.” وقد عزا هذا السلوك الإيجابي إلى فضل الله أولا، ثم إلى القيم التربوية التي نشأت عليها الخدمة: “ولكننا بفضل الله أولا، ثم بفضل التربية التي نشأنا عليها لم نحقق مرادهم ونُستدرج إلى ما يريدون، فلم يصدر من أبناء الخدمة رد فعل على كل هذه الاستفزازات حتى ولو بوكزة”، واعتبر أن صمود أبناء الخدمة إزاء هذه الضغوط المستفزة والانتهاكات التي لم يسبق لها مثيل نجاحًا في أشد الامتحانات صعوبة: “وأكثر ما سرني في خضم هذه الأحداث المليئة بالأحزان هو أن أحباءنا تَخَطَّوْا هذه الامتحاناتِ أيضا بنجاح“.
-
مواصلة العمل الإيجابي البناء رغم الضغوطات، والإشادة بنزاهة أبناء الخدمة
دعا الأستاذ كولن أبناء الخدمة إلى المضي قدما ومواصلة العمل الإيجابي البناء رغم كل هذه التجاوزات قائلا: “رغم كل هذه التجاوزات، ينبغي الثبات على العمل دون كلل أو ملل ليبقى اسم الله الجليل والاسم المحمدي المبارك مرفرفا في السماء… ينبغي المثابرة والكفاح ببسالة لمنعهم من إنزال ذلك العلم. واصلوا في العمل كعهدكم دائما، لا عنف، لا غلظة، ولا أدنى قبول لأي إرهاب. في المقابل إذا أزهقوا أرواحكم أو قتلوكم أو أذاقوكم أصنافا من القمع والتعذيب، فالصبرَ الصبرَ على ذلك كله بكل رضى مثل أصحاب الأخدود.. إذا رموا بكم في حفر مظلمة.. أو حفروا لكم مقابر ليدفنوكم.. أو أعلنوا مقابركم مقابر ملعونة.. فلا تلتفتوا إلى ذلك، بل قولوا “حسبنا أن آمنا بالله، حسبنا أن عرفْنا الله، حسبنا محبة الله، حسبنا معرفة الله، حسبنا العشق والشوق إلى الله، حسبنا الشوق إلى لقاء الله”، ولا تتوقفوا أبدا، بل اندفعوا كالجياد إلى الأمام، وحلقوا كالنسور في الأعالي، ارتقوا ثم ارتقوا نحو الآفاق دوما، ثم اهتفوا “ماذا بعد؟ ماذا بعد؟…”
وفي موضع آخر يدعو إلى عدم المبالاة بهذه الافتراءات وتسريع وتيرة العمل في الخدمة :”ليس عليكم أمام هذا الإفلاس سوى مواصلة السير بكل شجاعة وإقدام،… فسبيلكم هو سبيل الله! يَسَّرَ الله لكم طريقكم! سيروا بلا توقف ولا توانٍ ولا استراحة. ففي النهاية ستصلون إلى الحبيب المصطفى، مفخرة الإنسانية بسُلّم “الإخلاص”، وبسُلّم “الرضا”، وستحظون بمشاهدة جمال الحق تعالى وإحسانه عليكم فيقول لكم “إني راضٍ عنكم!” لا تأبهوا بما تلاقونه من أذى وما يرمونكم به من افتراءات، اعتنوا بطريقكم، اهتموا باتباع القرآن والسُّنة، تعمقوا في فلسفة السيرة وجوهر الدين”.
واصلوا في العمل كعهدكم دائما، لا عنف، لا غلظة، ولا أدنى قبول لأي إرهاب
وفي السياق نفسه يشيد بنزاهة المنتسبين إلى الخدمة وعفتهم وإعراضهم عن جمع الثروة والمال والتطلع إلى المناصب والمقامات قائلا :”ولو كان هؤلاء المبادرون من أبناء الخدمة يطمحون إلى شيء آخر من أعراض الدنيا، لكان لكل واحد منهم عقار، أو منزل.. لكان لكل منهم فيلل، لأصبحوا أعضاء في البرلمان، أو لطمحوا في اقتناء القصور أو تولي وزارات… بيدَ أنهم لم يفعلوا… ” كما يعلن أنه لن يتسامح مع هؤلاء الذين خرجوا عن هذا الخط من أبناء الخدمة أو فرطوا في هذا المبدأ أمام الله تعالى في الدار الآخرة: “وإن كان بينهم من هو كذلك وكان لي -وأنا العبد الذليل- حقٌ ولو بسيطًا عليه فسأمسك بتلابيبه وأحاسبه أمام الله تعالى”. ثم يعرض الخط العريض الذي عليه تأسست مبادئ الخدمة قائلا: “هذه الخدمة، هذا الواجب، يعتمد تمامًا على مبدأ “الإيثار”، إنها “خدمة العيش من أجل الإحياء”، إنها خدمة التنازل عن جميع الحظوظ الشخصية ووضعها تحت الأقدام والدوس عليها، بإذن الله وعنايته”.