أذان الديك يبشر بيوم جديد… ستشرق الشمس في القرية بعد لحظات… ما زال أفراد الأسرة نائمين والهدوء في كل مكان.. وأنا متمدد على الفراش أسمع صوت شحاطة تلمس الأرض بلطف ولين ثم قرقعة خفيفة للأواني. إنها أمي وهي عادتها كل صباح. تستيقظ قبل الجميع وتشرع بإعداد المنقل لتحضير القهوة. نعم القهوة! توقد الفحم وتنتظر حتى يتحول إلى جمر ثم تضع الدلة عليه.. وبعد دقائق تنتشر رائحة زكية تعم البيت بأكمله.. رائحة تنعش الجسم وتمنحه حيوية فائقة… إنها رائحة القهوة. هذه رائحتها فقط، فما بالك إذن بطعمها وشربها!؟
دخول القهوة إلى بلاد الأناضول ففي عهد السلطان سليمان القانوني حوالي عام 1540 م. جيء بها من اليمن إلى اسطنبول.
ترى بعد ذلك تقلب النائمين من جانب إلى آخر، ينتظرون الصوت الرخيم الذي يزيل الهدوء ويبعث الحركة والنشاط في جميع أطراف البيت “هيا القهوة جاهزة يا شباب!!.” فينطلق الجميع من فراشه بفرحة لا توصف. وهكذا يبدأ اليوم. نعم فرحة القهوة ومحبتها ورثناها عن أجدادنا. كأني أسمع سؤالك وكيف ذلك؟!
من أجل أن تستوعب المسألة بصورتها الكاملة تعال معي لأقص عليك حكاية القهوة أولا، من أين انتشرت إلى العالم وكيف تعرفت إليها البشرية؟ الروايات الشائعة تقول إن منشأها الحبشة، ومكتشفها هو شيخ قبيلة عربية يدعى “الشاذلي”. ذات يوم في القرن الخامس عشر بعد الميلاد انتبه رعاة المعز والإبل إلى أن مواشيهم عندما تأكل من حبوب وأوراق شجرة القهوة تزداد نشاطا وحيوية وتبقى تلعب تحت ضوء القمر طوال الليل. نقلوا الخبر إلى شيخهم الشاذلي، فراح يبحث عن سر تلك الشجرة. جمع حبوبها ونقعها في الماء ثم شرب منها فشعر بانتعاش لم يشعر به من قبل. فكانت هذه القصة بداية ظهور القهوة في تاريخ البشرية. ومن هنا انتقلت إلى “اليكن” جنوبي الجزيرة العربية ثم إلى اليمن ومنها إلى كافة الجزيرة.
ومع مرور العصور صارت القهوة شيئا ضروريا لا غنى عنه. فمن أجلها أقيمت المقاهي، ولأجلها صنعت الفناجين والدلات المزخرفة، ولها حددت أوقات معينة. وأصبحت في كافة أرجاء العالم رمز الضيافة في مجالس ومجتمعات الناس الخاصة والعامة. ففتحت الأمم لها مكانا في حضاراتها وعاداتها المختلفة وجعلتها جزءا من أجزائها.
وللقهوة في الحضارة التركية مكانة رفيعة وأهمية كبيرة. فقد رسخت في قيمهم وحياتهم حيث ضربت بها الأمثال وقيلت فيها الأشعار ولحنت لها الأغاني.. فقيل مثلا: “إكرام فنجان من القهوة يحمد أربعين سنة”. ثم إن الأتراك عبروا بها عن مودتهم تجاه أحبابهم وضيوفهم فقدموها إليهم برغبة وفرح، وتبجيل واحترام، وجعلوها شعار شيمهم وكرمهم، راحت تدور على ألسنتهم حين يدعون بعضهم فيقولون “تفضل إلى شرب فنجان من القهوة”.
ولقبوها بأسماء مختلفة، منها “قهوة التعب” لمن يشربها بعد عمل مرهق، و”قهوة الخطبة” حين تطلب الفتاة للزواج. ويرى الأتراك أن خبرة الفتاة في الطبخ تعرف من قهوتها.. فرغوتها تدل على مهارتها ورشاقتها، وحلاوتها إلى قبولها ورضاها بالخطيب. و”قهوة أهلا وسهلا” للضيوف أو لمن ينتقل إلى بيت جديد فيزوره جيرانه الجدد للتعرف عليه والتقرب منه فيستقبلهم ويقدم لهم القهوة تعبيرا عن شكره وامتنانه.
أما دخول القهوة إلى بلاد الأناضول ففي عهد السلطان سليمان القانوني حوالي عام 1540 م. جيء بها من اليمن إلى اسطنبول فولع بها السلطان وأفراد القصر الآخرون، فصارت تقدم في كل المناسبات.. في الاجتماعات الرسمية، واستقبال ذوات المناصب، وقبول الوفود الأجانب، وفي الحفلات… وانتشرت ثقافة القهوة من القصر إلى عامة الشعب. ويروى أن أول من أسس مقهى في اسطنبول هما امرأة شامية تدعى “شمس” ورجل حلبي يدعى “حكم”. ثم شاعت المقاهي في كافة الأراضي العثمانية. وصار يتردد إليها المثقفون من الشعب والأعيان من الوزراء والولاة.
الشمس أشرقت وأمي تجمع الفناجين… باحة الدار ممتلئة برائحة القهوة الشذية… ارتشفت آخر رشفة من الفنجان وأعدته إلى أمي قائلا “سلمت يداك يا أماه
والجدير بالذكر أن مقاهي الإنكشاريين كانت من أشهر المقاهي الاسطنبولية آنذاك. هذا الاهتمام البالغ بالقهوة دعا إلى تشكيل جمعية للقهوجيين وتعيين رئيس لها سمي “قهوجي باشي”. ولأنه كان يتردد إلى القصر ويمتثل في حضرة السلطان باستمرار تم اختياره من الثقات أي من الذين يقدرون على كتم أسرار القصر. وفي عهد السلطان “مراد الثالث” وصل عدد المقاهي في اسطنبول إلى 600 مقهى. عرفت القهوة التركية أكثر من غيرها رغم انطلاقها من الجزيرة العربية، لأنها تختلف عن باقي القهوات برائحتها الزكية ولذتها المشبعة وخفتها على المعدة وبلونها الكاشف البني… تغلى بتريث واهتمام بالغ حسب الرغبة، سادة، وسط أو حلوة. وعندما تبلغ رائحتها أنفك تشعر بانتعاش غريب، وحين تشربها يتحول هذا الانتعاش إلى حيوية وطاقة فائقة.
فانطوت الأيام في ذاكرة الماضي واشتهرت القهوة التركية في كافة أنحاء البلاد، وبلغ صيتها أقاصي أوروبا. وذلك في عهد صدر الأعظم “مصطفى باشا المرزيفوني” عندما حاصر “فيينا” النمساوية بجيشه في أواخر القرن السادس عشر. كان واثقا من فتحها، لذا أخذ معه 500 عدل من القهوة ليشربها خلال احتفالات النصر. لكن الفرحة لم تتم ودارت الدائرة عليه بالهزيمة، فانسحب وترك كافة المعدات وبينها القهوة. عندما رأى النمساويون القهوة اعتقدوا أنها بعر معز وقالوا “الأتراك يأكلون بعر المعز؟!” فرموا بعضها في نهر “الدانوب” وأحرقوا بعضها الآخر. فانتشرت رائحة عمت المنطقة كلها، فشمها ضابط نمساوي كان قد زار اسطنبول من قبل. فعرفها وعرّفها إلى أهل “فيينا”.
فانظر إلى أسرار القدر كيف فتحت القهوة التركية “فيينا” بدلا من الجيش العثماني. ودخلت بعدها بلاد المجر وبولونيا وتشيك والبندقية وبريطانيا حتى أن الملكية البريطانية أصدرت قرارا رسميا أكدت فيه فائدة القهوة على الصحة وسمحت ببيعها في الصيدليات. وكان “بالزاك، وفولتير، وفيكتور هوجو…” عمالقة كتاب أوربا في القرن السابع عشر من الذين شغفوا بالقهوة التركية وهاموا بشربها.
الشمس أشرقت وأمي تجمع الفناجين… باحة الدار ممتلئة برائحة القهوة الشذية… ارتشفت آخر رشفة من الفنجان وأعدته إلى أمي قائلا “سلمت يداك يا أماه، وأعدك بأن أكتب عن قهوتك اللذيذة..” فقالت من خلال ابتسامة أشرقت على وجهها كالشمس “ألف صحة يا ولدي..” وقد اعتزمت في هذا المقال على أن أكتب عن قهوة أمي، ولكن جرني الحديث عن وطن أم القهوة إلى نواح مختلفة. فلنا عودة أخرى إلى قهوة أمي الحبيبة فيما بعد إن شاء الله.