“إن بلغت أرباحي الشهرية خمسة كيلو ذهب يوما، فسأخصص ٥٠ بالمئة للطلبة والمدارس وتربية الشباب، و١٥ بالمئة لصديقي السيد شعبان. أعاهد الله على ذلك.” (نظمي)
“إن جاء ذلك اليوم، فسأنفق حصتي في سبيل الله على الطلبة والمشاريع التربوية. أعاهد الله على ذلك” (شعبان).
****
كنت هناك… أمسك بيدي “الكلمات”… وأقرأ تلك العبارات…
درّستُ آيات الإنفاق طوال حياتي، لكن ما شهدتُ درسا في الإنفاق مؤثرا كهذا. نحن نتحدث عن الإنفاق لكنكم تعيشونه، كل واحد منكم هنا آية من آيات الإنفاق حية شاخصة
كان الموسم شتاء، والوقت ليلا، والأمطار غزيرة والرياح شديدة البرودة. كنت برفقة مجموعة من المثقفين العرب نزور بيتا كبيرا من بيوت الطلبة في حي شعبي من أحياء إسطنبول. قادونا إلى الدور الأخير من الإقامة ذات الطوابق الثلاثة، أجلسونا في قاعة مسقوفة بخشب بُنّي فاتح بطريقة أنيقة. كنبات وأرائك أرجوانية اللون امتلأت بتجار من رجال الحي. علمنا أنهم يلتقون يوم الثلاثاء من كل أسبوع في ندوة علمية روحية، تعقبها جلسة للتشاور في مشاريع تربوية تطوعية يرعونها في أرجاء الحي الذي يقطنونه.
كانوا سبعين رجلا، ما بين شيخ وشاب وكهل، يرمقون الضيوف بعيون ملؤها الترحاب والفضول، يغمرونهم بدفء ينسي لسعات البرد القارس في الخارج ويُشعِر بالسكينة والرضى. جاؤوا ليعرفوا القصة، ليفهموا السر. هذه المشاريع الضخمة من مدارس وجامعات ومساكن طلابية ومراكز شبابية وصالات ثقافية لا تحصى في جميع أنحاء تركيا وأنحاء العالم، من وراءها؟ كيف تموّل؟ من ينفق عليها؟
أعدتُ قراءة العبارة بصوت مسموع وترجمتُها إلى العربية لتثير سحابة من التساؤلات في أذهان الضيوف. بدت الحيرة في عيونهم واضحة وسط ابتسامات من رجال القاعة تشي بمعرفتهم بجميع تفاصيل القصة، ما عدانا نحن.
خمسة كيلو من الذهب؟ كم تساوي؟ أكثر من ٢٥٠ ألف دولار.
– سيد نظمي، هلّا حدثتنا بقصة هذه الكتابة؟
طأطأ رأسه بحياء مع بسمة خفيفة على شفتيه:
– العفو، كلّ من عند الله.
كان متوسط القامة نحيفا، لا تفارق ثناياه بسمة لطيفة، وتنم ملامح وجهه عن روح مرحة وظل خفيف. تدخّل رجل في يمين القاعة:
– اليوم عرس أخينا نظمي؟
ابتسم الجميع مؤمّنين على عبارة الرجل. وما أن نظرنا إليه حتى أصابنا شيء من الحزن والأسى، كان مُقعَدا يجلس على كرسي متحرك. كان جميل الوجه خفيف اللحية أشيبها، يميل إلى شيء من البدانة قد ناهز الستين من العمر. اتجه نظمي إليه بابتسامة عريضة:
– اليوم عرسك سيد شعبان، اليوم عرسنا جميعا.
– أثرتم فضولنا أيها الكرام. جئناكم لنسمع ونرى، فعجلوا بالحديث أكرمكم الله.
قالها الكاتب الصحفي من بيروت بصوت ملؤه حماس في طلب الزيادة. هزّ الضيوف رؤوسهم مؤيدين. ارتفع صوت هادئ من الزاوية الشرقية:
– أخي نظمي أسمعنا، فإكرام الله على عباده لا ينفد، أطلعنا على إكرام الكريم.
قالها شيخ في الثمانين صقلت الحكمةُ صوتَه، وأنار الإيمانُ وجهه.
نظمي:
– سيدي شعبان، أنت صاحب الفضل في هذا الجمال، حدثهم أرجوك، فإني أخجل من إعادة القصة على مسامع الإخوة للمرة العشرين ربما.
تدفقت عبارته كماء منهمر بلهجة تركية شرقية، فاتتني بعض كلماتها، لكنني استوعبت المعنى. شعبان محفزا:
– احكِ أخي، قصتُك قصتُنا جميعا، عاشها كل واحد منا بنكهة أخرى.
وقف على قدميه بأدب جم، خيم على القاعة هدوء مهيب، شعرنا بنفحات من الأنس والسكينة تغمر جوانحنا. قال:
– ولدتُ فقيرا، ونشأت فقيرا، وخِلتُ أنني سأعيش فقيرا وأموت فقيرا.
دوّى صوت السيد شعبان في أرجاء الصالة:
– الفقير من حُرِم معرفة الله وخدمةَ عباد الله يا أخي!..
ترقرقت الدموع في بعض الوجوه. واصل نظمي حديثه:
– احترفتُ صناعة الأثاث منذ صغري، وعندما أحسست بالشجاعة في نفسي اكتريتُ ورشة صغيرة في مدينة الأثاث، بل سمّها زاوية، وكرا، مغارة، لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أمتار، أصنع فيها مساند خشبية للأرائك والكنبات حسب الطلب. كانت السوق كاسدة، والطلبات قليلة، والدخل ضئيلا يحار المرء أين يضعه.. في كراء المحل، أم في تسديد الفواتير، أم في توفير حاجيات العيال التي لا تنتهي. كدت أفقد الأمل في الحياة بسبب الشقاء الذي يأبى إلا أن يكون رفيقا لي، إلى أن التقيت بالسيد شعبان. أشار إلى صديقه العزيز:
– هو من أنقذني، هو من أوقد شعلة الأمل في عالمي المظلم. صدقوني كدت أفقد عقلي.
التقط بعض أنفاسه مردفا:
– كان ذلك قبل ثلاثة أعوام… جاءني ذات يوم فارعَ الطول ممتلئ الجسم صبوح الوجه بشوش الطلعة. طلب مني أن أصنع له مساند للكنبات. ألقى الله محبته في قلبي من اللحظة الأولى. دفع لي استحقاقي في حينه دون نقصان، فوثقت في أمانته. ثم غاب عني بعد ذلك مدة كسدت فيها تجارتي وألمت بي حالة من الملل واليأس. وما لبث أن أشرق عليّ يوما مرة أخرى بوجهه الصبوح طالبا مني مجموعة أخرى من المساند. كان يزورني كل يوم، يجاذبني أطراف الحديث، يحدثني بكلام يخفف عني عناء الحياة. كان لكلامه حلاوة في قلبي لا توصف. سيدي شعبان لا يمكن أن أنسى فضلك عليّ.
– ذلك فضل الله علينا أخي نظمي، كلنا ذلك الرجل الذي هداه الله بعد ضياع.
الفقير من حُرِم معرفة الله وخدمةَ عباد الله يا أخي!..
قالها بثقة أمّن عليها الجميع:
– وفي إحدى المرات جاءني السيد شعبان، قال “هل تذهب معي؟” “إلى أين؟” “إلى مكان ستحبه”. وما عسى أن يكون ذلك المكان؟ بالتأكيد لن يكون سيئا، فمثل هؤلاء الرجال لا يترددون إلا إلى منابع طيبة، بدليل الكلمات العذبة التي يفيضها عليّ بسخاء. كان ذلك في شقة بحيّنا هذا. عندما دخلتها رفقةَ سيدي شعبان استقبلنا ذلك الرجل الأنيق الذي يجلس في الزاوية الآن، المهندس توران.. استقبلنا بترحاب ما رأيت مثله حتى من أقاربي. قال شعبان وقتها “صحبة اليوم في منزل المهندس توران”. “الصحبة؟؟؟” قال: “جلسات نغذي فيها عقولنا وقلوبنا برحيق الإيمان، نتدارس فيها القرآن، نتذاكر سيرة الحبيب المصطفى (ص) والصحب الكرام (رض)”. لأول مرة أدخل بيت مهندس، لأول مرة أرى مثل هذه الحفاوة. احتضنني أهل الصحبة في تلك الأمسية بحرارة لن أنساها ما حييت. قرأ لنا شاب لطيف صفحات من كتاب أحمر عرفت أن اسمه “الكلمات” لعالم يُدعَى بديع الزمان، لم أفهم لغة الكتاب، لكن شيئا ما في داخلي بدأ يتحرك. ثم شاهدنا شريط فيديو لعالم آخر تخترق كلماته القلب اختراقا، كان كثير البكاء، لا سيما في المواقع المؤثرة من حياة الرسول الأعظم (ص) وصحابته المبجّلين (رض). أذكر وقتها أنني استغربت التناقض الذي كان بين لقب الرجل والحال التي كان عليها. فقد كان معنى لقبه “البسام”، لكنه كان متواصل البكاء. لم أفهم شريط الفيديو بالكامل، لكنني شعرت بجذوة في أعماقي أخذت في الاتقاد. شربت تلك الليلة من ذلك الرحيق حتى ارتويت. عدتُ إلى المنزل أسعد إنسان على وجه الأرض، كأنّ أعباء الدنيا التي أثقلت كاهلي سنوات قد زالت. أيّ خفة هذه التي أشعر بها؟! أيّ نشوة هذه التي غمرتني!؟ تلك كانت ليلة الفصل في حياتي.
همس الروائي من السعودية في أذني:
– تصلح حياة هذا الرجل أن تكون رواية، ليتني أستطيع كتابتها.
كان نظمي يحكي بصوت مؤثر ترافقه يداه ووجهه وجميع أطراف جسمه:
– لقد عثرتُ على النبع الذي ينهل منه سيدي شعبان. أصبحت مدمنا لجلسات “الصحبة” تلك كما كانوا يسمونها. كنت أحنّ إليها، أنتظرها بلهفة طوال الأسبوع. وحينما يأتي موعدها أنطلق بمفردي لا أحتاج إلى رفقة سيدي شعبان، بل صرتُ أصطحب أحيانا معي بعض زملائي. عرفتُ ربي، عرفتُ معنى الإيمان، عرفت الغاية من الخلق، عرفت من أين يأتي الإنسان، وإلى أين يصير، أدركت رسالتي في الحياة، وَضَحت الصورةُ في ذهني، وعرفت الطريق. كان مكان “الصحبة” يختلف كل أسبوع. في كل أسبوع كنا نحط رحالنا في منزل أحد الإخوة الملازمين للصحبة. شعرت – برفقة هؤلاء الأخيار- أنني لست وحيدا في هذه الحياة، شعرت معهم بأنني فرد في أسرة كبيرة، أحسست بالسكينة والسلام. أصدقكم القول يا سادتي، هؤلاء القوم شطّار في النفاذ إلى القلوب، مهرة في اصطيادها.
قال الشيخ ذو الثمانين ربيعا بصوت خاشع:
– القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
قال دكتور التفسير من الأردن بصوت منخفض:
– والله إن هذا المجلس لدرس إيماني عظيم. كأن معاني القرآن تجسدت في هؤلاء الرجال.
نظمي واصل حديثه بحماس متدفق:
– ذهبت إلى مجالس الصحبة زهاء ستة أشهر، قال لي بعدها سيدي شعبان “آن الأوان أن ترى؟” “وماذا أرى؟ وهل بقي شيء أراه؟” ابتسم: “وهل رأيت شيئا؟” ذهبنا إلى بيوت يقطنها طلاب جامعيون يدرسون في تخصصات مختلفة. كانوا قمة في الأدب، قمة في النجاح. قلت في نفسي “إن كان للملائكة صورة فهذه هي، هؤلاء ملائكة”. شعبان معلقا: “هؤلاء أبناؤنا، ونحن ننفق عليهم ونرعاهم”. ذهبنا إلى مساكن طلابية ضحمة، قال: “هذه المباني نبنيها لأبنائنا”. زرنا مدارس مبهرة، قال: “هذه المدارس نؤسسها لأبنائنا”. قلت مندهشا “ما أكثر أبناءكم! وما أكثر أموالكم!” قال: “أخي نظمي، أبناء هذا الوطن أبناؤنا، وأموالنا أرزاق ساقها الله إلينا لننفقها فيما ينفع أبناء أمتنا، هؤلاء الشباب فسائل غضة طرية، إن لم تُسقَ الفسائل الطرية بالماء العذب ماذا يحصل لها؟” قلت: “تموت” قال: “صدقتَ، فنحن نعيش من أجلها، نسقيها لتنمو وتزهر وتثمر فتتحول ربوعُنا إلى رياض غناء”. أبهرني الطلبة، أبهرتني المدارس والمساكن والنشاط الدائب وروح العطاء العالية. قلت في نفسي “في مجالس الصحبة يمتلئون، وفي ساحات العطاء هذه يتدفقون، ما أسعدهم!” كنت أعيش لنفسي حتى تلك اللحظة، كنت مطمئنا بأدائي سعيدا به، لكن هؤلاء الأخيار تجاوزا ذلك إلى مستوى آخر من السعادة، سعادة البذل من أجل الآخرين. فكيف السبيل إلى تلك القمة السامقة يا ترى؟
كان التجار يحدّقون إلى الضيوف بعيون تحاول قراءة وقع الكلمات في نفوسهم. كان الضيوف في قمة الانتباه والتركيز يتابعون كل كلمة يتفوه بها السيد نظمي بعناية شديدة رغم الإرهاق الذي خلفته الزيارات التي قاموا بها طيلة النهار. ارتفعت نبرة صوته عندما قال:
– حتى جاء ذلك اليوم…
سكت هنيهة شعرت أثناءها كأن أنفاس الجميع قد توقفت. القصة مثيرة، والسيد نظمي يحكيها بجميع كيانه وكأنه يعيشها من جديد:
– في ذلك اليوم جاءني سيدي شعبان إلى الورشة، قال “الليلة عندنا مجلس همة”. “مجلس همة؟ وما مجلس الهمة؟ هل بقي مفاجآت أخرى لم تخبرني عنها؟” قال بصوت وادع لطيف: “أخي نظمي، الليلة ليلة العطاء، سنجتمع هذا المساء في منزل أحد الأحبة كالعادة، أبناؤنا في بيوتات الطلبة يحتاجون إلى منح دراسية، حيّنا يحتاج إلى مساكن لطلاب الجامعة، يحتاج إلى مدارس، الأمة تحتاج إلى همة. هذه ليلة الصدّيقين، أتذكر الصدّيق أبا بكر –فداه روحي- كيف ضرب لنا المثل الأعلى في العطاء يوم دعي إلى ذلك؟ أتذكر “الأستاذ هوجا أفندي” كيف بكى أثناء حديثه عن الصدّيق رضي الله عنه؟ هذه ليلة البذل… في مجالس الهمة يحدد كل واحد منا ما سيبذله لتلك المشاريع التربوية التي رأيتها بأم عينك. هذا موسم سنوي للعطاء يعقده فرسان “الخدمة” فيما بينهم في تركيا وفي مناطق شتى من العالم. فنقّب يا أخي في أعماق قلبك، وحدد ما تقدر على إنفاقه مستعينا بالله”. قلت في نفسي “هذا ما كنا نبغِ، هذه فرصة اللحاق بالركب، هذه لحظة القفز إلى مقام هؤلاء الفرسان”. ذهبت إلى المنزل، جمعتُ كل ما أملك من مال كسبته خلال الفترة السابقة، كان ٣٥ ألف ليرة تركية (ما يعادل في هذه الأيام ١٠ آلاف دولار أمريكي)، جمّعت الأوراق المالية في عشر رزمات ضمّنتها كيسا واحدا ووضعتها على الطاولة. هذا كل ما أملكه في الحياة، هذه الرزمات العشر هي كل حياتي. لكن، تلك السعادة التي بدأتُ أعيشها منذ أن التقيت بشعبان لا تقدر بثمن.. تلك المشاريع الإنسانية العظيمة لا تقدر بمال.. القفزة إلى مقام الصدّيقية حلم يراودني ويلح عليّ بقوة. حسمت الموضوع في نفسي، غدا مساء سأكون في مجلس الهمة. لكن ما المقدار الذي ينبغي أن أنفقه؟ قلت في نفسي “أستخير الله بعد صلاة الفجر وأحدد المقدار، والله الميسّر”.
صليت الفجر في مسجد الحي بمشاعر روحية سامية، أحسست بخفة غريبة، كان قلبي يرفرف كالفراشة فرحا. قلت في نفسي “لقد تغيرت حياتي مع هؤلاء الأخيار، أصبح لها طعم آخر، لقد أدخل رجال “الخدمة” في قلبي سرورا لا يوصف، عرفت الله من جديد، أحببته، عرفت الحبيب المصطفى (ص) من جديد وصحبه الأكارم فأدركت دوري ورسالتي في الحياة. ثم إن هؤلاء يقومون بمشاريع صحيحة، يبنون الإنسان، يزرعون فسائل الخير في كل مكان، يسقونها بدموعهم ويرعونها ليل نهار حتى تستوي على عودها وتنطلق لخدمة الإنسان كالجياد الأصيلة. لا والله لن أخذلهم، لا يليق بي أن أتصدق تصدّق البخلاء يرمون قرشا أو قرشين ويحسبون أنهم قد أحسنوا صنعا، سأنفق ٢٠ بالمئة من تلك الرزمات العشر، نعم سأنفق الخُمس… واطمأن قلبي إلى ذلك.
قال التاجر المغربي بصوت ملؤه الحماس:
– أحسنت، بارك الله في مالك.
الصحبة؟؟؟” قال: “جلسات نغذي فيها عقولنا وقلوبنا برحيق الإيمان، نتدارس فيها القرآن، نتذاكر سيرة الحبيب المصطفى (ص) والصحب الكرام (رض)”.
لم يفهم نظمي العبارة لكنه حدس أنه يثني على عمله، ابتسم له وأشار بيده اليمنى أن تمهل قليلا فإن المفاجآت قادمة، قال:
– وضعت الرزمات العشر في حقيبتي، وانطلقت بها إلى الورشة أزاول عملي كالمعتاد وبالي مشغول بما سيحدث في المساء والنسبة التي حددتها بعد صلاة الفجر، لكنني سعيد جدا، أمازح أشقائي بين الحين والآخر، يضحكون مرحين متغامزين فيما بينهم “أخونا نظمي اليوم غيرُه في الأيام السابقة، هناك لغز غامض في سلوكه اليوم…”. بعد صلاة الظهر فتحت يديّ أدعو الله أن يثبّتني فيما عزمت عليه، ويوفقني إلى إتمامه، ولا يترك للشيطان إلى قلبي سبيلا. لكن بعد قليل شعرت بوخز في قلبي، بنوع من عدم الرضى، بشيء من الانقباض، قال لي ضميري: “هذا قليل… عشرون بالمئة قليل مقابل ما رأيت وما حصّلت في حياتك الجديدة، كن وفيا لهذا الخير الذي غمرك نظمي، كن وفيا لهؤلاء الأخيار، كن وفيا للمحسن المنان، افعل ما يليق بك”. “حس ن حسن، سأزيد في النسبة… أربعون بالمئة.. نعم سأنفق أربعين بالمئة..” واطمأن قلبي إلى ذلك.
قفز الباحث الجزائري: عشتَ وعاشت الأم التي ولدتك!..
اتجه نظمي إليه بنظرة شكر:
– ولكن…
ثم سكت.. بدت علامات الخيبة على وجه الكاتب اللبناني، أهي نكسة؟ أهو الشيطان؟ لا تخيب رجاءنا بك نظمي!..
– ولكن بعد صلاة العصر، انقبض صدري مرة أخرى، أخذ ضميري يهزني بضربات شديدة من الداخل، يهتف بصوت عال: كن وفيا، كن صدّيقا، ما هذا التعلق بالمال؟ أمالُك هو؟ أأوتِيتَهُ على علم عندك؟ الوفاءَ الوفاءَ نظمي!.. قلت: “حسن حسن، ستون بالمائة”… واطمأن إلى ذلك قلبي.
ارتفعت صيحات التكبير في القاعة، امتلأت العيون بالدموع، وسالت جداولَ على الخدود، قال السعودي:
– فزتَ ورب الكعبة.
– لكن بعد صلاة المغرب عاد الانقباض إلى قلبي مرة أخرى، وعاد الصوت يدوي في داخلي أقوى من ذي قبل. كن وفيا نظمي، كن صدّيقا، الوفاءَ الوفاءَ!.. قلت: لا والله، لا ذقتُ طعما للحياة إن تراجعت بعد اللحظة… ثمانون بالمئة!..
فاض المجلس بالتكبير مرة أخرى، وفاضت العيون بالدموع، قفز التاجر المغربي إلى نظمي يقبله من رأسه، واختلطت دموعه بدموعه.
– ثم.. ذهبت إلى مجلس الهمة…
وأجهش باكيا، فأجهش الحاضرون في بكاء حار معه وأنين متواصل. قال بصوت متقطع ودموع منهمرة:
– خرجت من مجلس الهمة وقد أفرغت كل ما في يدي…
هاجت القاعة بالتهليل والبكاء، وماجت بالذكر والدعاء. هرول الضيوف يعانقونه بحرارة، يقبلونه في رأسه، يعانقون مَن بجانبه يهنئونهم ويصافحونهم، اختلطت الأنفاس بالأنفاس والدموع بالدموع، وفاض المجلس حبا وشوقا وعناقا ووصلا. تمتم دكتور التفسير:
– درّستُ آيات الإنفاق طوال حياتي، لكن ما شهدتُ درسا في الإنفاق مؤثرا كهذا. نحن نتحدث عن الإنفاق لكنكم تعيشونه، كل واحد منكم هنا آية من آيات الإنفاق حية شاخصة، فما أروع الدرس الذي تعلمناه الليلةَ منكم!..
كان الدكتور يتحدث إلى السيد نظمي بالعربية، يحتضنه حينا ويقبله في رأسه حينا آخر دون حاجة إلى ترجمة، فقد زالت الحجب، وزالت فوارق اللغة، واتحدت القلوب، وصارت لغة الروح سارية، تلك التي تسمو على كل القوميات ويفهمها كل من فتح صدره للعطاء.
قال الشاب الجزائري: أفي حلم أنا أم في حقيقة؟ ليقرصني أحدكم.
أجابه الروائي السعودي: بل نحن في بعد آخر من أبعاد الزمان والمكان.
أضاف التاجر المغربي: نحن في مقام الصدق مع الله.
أردف الصحفي اللبناني: ليت هذه اللحظات لا تنتهي.
عاد الجميع إلى مقاعدهم يكفكفون دموعهم ويهدؤون من جيشان عواطفهم. وعادت العيون إلى نظمي مرة أخرى:
– خرجتُ.. وقد تركت كل مالي ورائي، تركتُ كسب سنواتي خلفي. خرجتُ خفيفا شفيفا. ما أسعد الإنسان وهو يعطي! أقسم أنّ من ذاق حلاوة العطاء لا يمكن أن يتخلى عنه أبدا!..
تمتم الشيخ ذو الثمانين خريفا:
– من ذاق عرف، ومن عرف التزم، عرفتَ يا نظمي فالزم.
سأله الروائي السعودي بلهفة:
– ماذا بعد؟ أكمل أرجوك.
– ما صحوت من نشوة الهمّة إلا في اليوم التالي عندما دخلت الورشة. تذكرت أن عندي ورشة عمل، تذكرت أشقّائي، تذكرت المنزل والزوجة والأولاد. عدت إلى الواقع. وجدت أشقائي ينتظرونني لشراء خشب لصنع مساند جديدة. آآه، صحيح، مساند، خشب، شراء.. ولكن كيف سنشتري وأنا صفر اليدين الآن، كيف أقول لهم أفلست.
خيم على القاعة صمت بارد. كأننا صُدمنا جميعا، كأننا سقطنا من ارتفاع شاهق. تلاشت البسمات فجأة، وانطفأت إشراقة الفرح من الوجوه، وجثم على القلوب هم ثقيل. بصوت مُطَمئِن استدرك السيد نظمي:
– أقصد أنني أفلست بمقاييس الدنيا.. وإلا فالمفلس من حُرِم لذة العطاء، أليس كذلك؟
تمتم السيد شعبان مؤيدا:
– والغني من امتلأ قلبه بمعرفة الله ومحبته وبلغ مقام الصدّيقين.
– جلست على مقعدي في زاوية الورشة أفكر فيما يمكن أن أفعله بعد اليوم، وكيف أشتري خشبا لمواصلة العمل. جلست زهاء ساعة من الزمان. سلمت أمري إلى الله… لست نادما، لست قلقا ولا مرتبكا، بل مطمئن كل الاطمئنان. إن الذي رزقني نشوة الروح، وأكرمني بنعمة الإيمان، وعرّفني على هؤلاء الأخيار لن يتركني وحدي، فهو المستعان سبحانه. وبعد قليل.. بعد قليل يا إخوتي.. بعد قليل يا سادتي العلماء..
عادت الحيوية إلى صوت نظمي، عادت نبرة الأمل والشوق، شعرنا بدمائنا تجري في عروقنا من جديد، وقلوبنا تنبض بالحياة مرة أخرى. بدا لنا أن هناك تحليقة أخرى، شحذنا الهمم للانطلاق، وتهيأنا لكل مفاجأة:
– بعد قليل ظهر في باب الورشة رجل فارع الطول أنيق الملبس أشقر الشعر والبشرة تتوهج نظارته السوداء تحت أشعة الشمس يحمل في يده اليمنى حقيبة “جيمس بوند” بنية اللون:
– مرحبا…
عرفت أنه ليس تركيا، توقعت أن يكون روسيا، فما أكثر التجار الروس الذين يترددون إلى محلاتنا، رغم أنني لم أنعم بواحد منهم حتى اليوم.
– أهلا، تفضل.
قال بلغة تركية مكسرة:
– هل تصنع أثاثا هنا؟ أحتاج إلى مجموعة من الأرائك والكنبات، هل تجيد صناعة الأرائك والكنبات؟
– بالتأكيد… كم واحدة تريد؟
– أريد أن تصنع لي ثلاثمائة كنبة ومئتي أريكة، ممكن؟
كدت أقول ممكن، لكن من أين أجد المال لشراء البضاعة؟ بالكاد كنت أشتري خشبا لصناعة المساند، فأنى لي بالمال لصناعة هذا الكم من الأرائك والكنبات. لم ينتظر الروسي إجابتي:
– أرى أن عندك فريقا فتيا يستطيع أن يسلمني البضاعة خلال أسبوعين، أليس كذلك؟
كنت مشدوها لا أدري ماذا أقول؟ تلفتّ ناحية أشقائي، نقبّت في رأسي عن عبارة يمكن أن أقولها للرجل. فرصة ذهبية جاءتني في لحظة حرجة جدا لا أريدها أن تضيع. بادر الرجل بالقول:
– أريدك أن تسلمني البضاعة بعد أسبوعين. فأنا في مسيس الحاجة إليها. ثم… أقدّر أنك قد لا تملك رأسمالا كافيا لتصنيع هذا الكم، فلذلك هذه مئة ألف دولار مقدما.
وضع الحقيبة على المكتب، فتحها، كانت ممتلئة برزمات من الدولارات:
– أعتقد أن هذا المبلغ يكفي مقدما، هذه بطاقتي، اسمي أندرو، عنواني ورقم هاتفي مسجل في البطاقة، أراك بعد أسبوعين، إلى اللقاء.
وذهب الرجل.. غاب.. اختفى.. تلاشى.. ذاب.. وبقيتُ ساهما شاردا مشدوها.. لا أصدق ما وقع. انتفضتُ على صوت شقيقي الأصغر:
– أخي نظمي، أخي نظمي، أ هذه الدولارات حقيقية؟
قفزت من مكاني، تحسست الدولارات، شيء لا يصدق، انطلقت أمشي في الورشة ذهابا وإيابا كالمجنون، أتلفّت بين الحين والآخر إلى حقيبة الدولارات وسط نظرات أشقائي الحائرة، عدتُ إلى الحقيبة من جديد، كلا كلا.. لعلها مزحة سمجة من أحد الأصدقاء في مدينة الأثاث، حرام عليكم، لماذا تعبثون بمشاعر الغلابة من أمثالنا؟
– أحمد، خذ هذه الرزمة واذهب بها إلى المصرف في زاوية الشارع وتحقق منها، هل هي أصلية أم مزيفة؟
– انطلق أحمد كالبرق، مرت لحظات كأنها سنون. لاح –بعد قليل- من بعيد يلوّح بيديه فرحا مهللا، فأدركت أنها حقيقية. خارت قواي، انحلت مفاصلي، ارتميت على المعقد مجهشا في البكاء… بكيت وبكى معي أشقائي.. بقينا مدة على هذه الحال لا نعرف كم طالت.. لا نسمع فيها سوى أصوات بكائنا.. يا إلهي!.. أنفقتُ البارحة ما يعادل عشرة آلاف دولار، فعادت إليّ اليوم مئة ألف.
ما أسعد الإنسان وهو يعطي! أقسم أنّ من ذاق حلاوة العطاء لا يمكن أن يتخلى عنه أبدا!
ارتفعت التهليلات في القاعة من الجديد، ودوت التكبيرات، وسالت الدموع، وتعانقت القلوب والأرواح، وسمونا إلى الأعالي جميعا، أيّ رفعة هذه، وأيّ سمو؟!
– عاد الروسي بعد أسبوعين، وجد بضاعته جاهزة فسر أيما سرور، دفع لي حقيبة ثانية ممتلئة بمئة ألف دولار أخرى، طلب مني أن أصنع له مجموعة جديدة من الكنبات والأرائك، ففعلت. بعد شهر قررت أن أشتري الورشة فأصبحت ملكا لي، ثم اشتريت المحلات المجاورة لها، فأصبحت لديّ مساحة واسعة ومصنع كبير. ظل الروسي يتعامل معي مدة طويلة، كان يطلب بين الحين والآخر بضائع جديدة، فاضطرني ذلك إلى استخدام مزيد من العمال. جاءني في الأشهر المقبلة زبائن آخرون أتراك وأجانب من مناطق شتى فأسستُ وُرَشا أخرى، توّجتُها بعلامة تجارية خاصة بمصنوعاتنا. وذات يوم قررت أن أفتح محلات صغيرة لتسويق منتوجاتنا، فأسست مجموعة من المحلات في أماكن مختلفة من إسطنبول. أقبل الناس على منتجاتنا من كل صوب، وفاض علينا الخير من كل جانب.
قال التاجر المغربي: العشرة بمئات الآلاف…
قال بصوت هادئ ينبض شكرا وامتنانا:
– لم أنقطع عن مجالس الصحبة قط، لم أنقطع عن مجالس الهمة، حرصت على أن يكون لي حظ وافر من العطاء في بناء الأجيال، حرصت على ألا أتخلف عن الركب مهما كانت المعوقات.
تمتم الشيخ العارف ذو الثمانين عاما:
– ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
التفتَ إلى السيد شعبان:
– يرجع الفضل في تعرّفي على هذا الخير إلى سيدي شعبان. قبل ثلاثة أعوام جاءني، انتشلني من وحشتي، أخذ بيدي، وسار معي برفق حتى علمني كيف أسير.
شعبان بصوت رزين:
– كلنا ذلك الرجل أخي نظمي، كلنا ذلك الرجل، لكل نظمي منا شعبان.
اتجه نحوي ونظر إلى “الكلمات” في يدي:
– قبل عام ونصف تقريبا، وفي ليلة من ليالي الصحبة الإيمانية فاضت مشاعر الامتنان في قلبي لربي أولا، ثم لرفاق دربي من بواسل الإنفاق والعطاء ثانيا، فطلبت من أستاذنا الشاب الذي قرأ علينا فصلا من “الكلمات” أن يناولني الكتاب لأسطر فيه هذه العبارة:
“إن بلغت أرباحي الشهرية خمسة كيلو ذهب يوما، فسأخصص ٥٠ بالمئة للطلبة والمدارس وتربية الشباب، و١٥ بالمئة لصديقي السيد شعبان. أعاهد الله على ذلك.” فأذهلني سيدي شعبان وعلمني درسا جديدا عندما كتب تحت عبارتي: “إن جاء ذلك اليوم، فسأنفق حصتي في سبيل الله على الطلبة والمشاريع التربوية. أعاهد الله على ذلك”.
تسابق السادة الضيوف في إخراج هواتفهم الجوالة لالتقاط صور لتلك الكتابة. قال مضيفا:
– أحتفظ بالكتاب منذ ذلك اليوم. وأخيرا، في هذا الشهر بلغ دخلي الشهري خمسة كيلو ذهب ولله الحمد، فجئت بالكتاب لأعلن أمام الجميع أنني على العهد ما حييت.
دوى صوت الشيخ العارف من جديد:
– رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
خرجنا من ذلك المكان النابض بأشواق الروح، المشرق بوجوه ملائكية بعد عناق طويل ودموع غزيرة. ركبنا حافلتنا لتحملنا إلى مكان استراحتنا، مستغرقين في صمت لذيذ، منتشين بالمعاني التي انهمرت علينا في ذلك المجلس العجيب وغمرتنا بدفء ناعم أنسانا لفحات البرد القارس.
وكانت كلمة أستاذ التفسير مسك الختام:
– كأن الصحابة انبعثوا من ثنايا الكتب وتجسدوا أمامنا ليضربوا لنا المثل الأعلى في الوفاء والتضحية والعطاء…
ملاحظة الكاتب: كنت هناك، وما كتبتُ إلا ما رأته عيني، وسمعته أذني، ووعاه قلبي.