إن الحديث عن المشروع الإصلاحي لنبي الله يوسف عليه السلام -أو كما شاع تسميته بـ”المشروع اليوسفي”- الذي أنقذ مجتمعات من الهلاك في عز الأزمة الاقتصادية، لا يمكن أن نفهمه إلا في إطار الحديث عن الجوانب التي شملها هذا الإصلاح، بغية الوقوف عند أهم المحطات التي مر بها بدءًا من الفكرة فالتخطيط ثم التنفيذ. وهي مجالات كثيرة، منها المجال الخلُقي، والمجال السياسي، والمجال الفني، ويصعب الإلمام بها في بضع صفحات كهذه؛ لأنه تقصير وإجحاف في حق نبي اختاره الله ليكون مصلح زمانه، ولذا سنعرض جانبين هما محورا قصة يوسف عليه السلام ، وتدور حولهما تفاصيل القصة كلها وهما:
إن مشروع يوسف عليه السلام الإصلاحي، مشروع متكامل الأبعاد، لم يعتمد فيه على التواكل، بل نهج فيه أساليب دقيقة وسار فيه بخطى ثابتة فرسم أولى ملامحه الاستشرافية في السجن؛ ليخرج به إلى الناس في صيغة متكاملة..
1- الجانب الاقتصادي
ويتمثل في أول اختبار اقتصادي يُسنده ملك مصر إلى النبي يوسف عليه السلام -بناءً على طلبه- وهو اختبار قاسٍ وابتلاء شديد، لأن الأمر يتعلق بقيادة منصب في ظل أزمة قادمة لا محالة، تفرض عليه توفير المؤونة من طعام وشراب لشعب مقبل على سبع سنين عجاف، “إنه عبء يتهرب منه أحكم الرجال وأشدهم صبرًا وأقواهم احتمالاً، وقد تقدم عليه السلام في مجال ينعدم فيه من يتقدم، وصدَّر نفسه لمواجهة مرحلة لا يوجد سواه ممن يستطيع تسيير دفة البلاد بسلام خلالها. وما رأينا ولا سمعنا بحاكم فعل مثل ما فعله يوسف عليه السلام في مصر قبل البعثة المحمدية. وبدأ بذلك أول مشروع إصلاحي له، وهو مشروع لم يقتصر على تفسير الرؤيا فحسب، بل تجاوزه إلى وضع برنامج متكامل ومدروس على أرض الواقع، استطاع من خلاله أن ينجو بشعب من الهلاك إلى بر الأمان والرخاء، وفق سياسة حكيمة ومنهجية مدروسة بإحكام راعى فيها الخطوات التالية:
أ- العمل الزراعي الدائب الذي لا ينقطع: وهو المقصود في قوله تعالى على لسان نبيه يوسف عليه السلام: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا)(يوسف:47) لتحقيق الأمن الغذائي في السنوات العجاف المقبلة.
بـ- تخزين الثمار وحفظها من التلف: وهي سياسة اقتصادية، الهدفُ منها عدم استهلاك كل إنتاج العمل من ثمار وحبوب، بل يتعين تخزين ما يكفي منه لسنوات الضيق والأزمات.. ولا يعني تخزين جزء من الإنتاج إبعاده عن الاستهلاك فقط، بل يشمل خطة وطريقة علمية تجعله آمنًا من التلف طوال مدة الأزمة، وهو ما تعبر عنه حكمة سيدنا يوسف في قول الله تعالى: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)(يوسف:47).
جـ- عدم الإسراف في الاستهلاك: وهو المُعَبَّر عنه في قوله تعالى على لسان نبيه يوسف عليه السلام: (إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)(يوسف:47)، وهي إشارة حكيمة إلى ضرورة الاقتصاد في الاستهلاك، ولذلك جُعلت الموازنة بين الاستهلاك والادخار من صفات عباد الرحمن (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)(الفرقان:67).
د- وجوب تحقيق فائض يسمح بإعادة الإنتاج؛ لمواجهة متطلبات هذه السنوات وما بعدها. وقد صور القرآن الكريم هذه السنوات بأنها (سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ)(يوسف:48)، وهو تصوير يفيد مدى شدة نهم هذه السنوات إن لم يتم التخطيط لها.
هـ- حسن استخدام الفائض في العملية الإنتاجية، وتحقيق الموازنة بين كل من الإنتاج والاستهلاك؛ لتوليد المزيد من الفائض الذي سيساعد بدوره على إعادة الإنتاج وتحقيق الرخاء، وفي هذا يقول عز وجل: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(يوسف:49).
و- أهمية العنصر البشري، والمتمثلة في اختيار مساعدين أمناء له، وعلى رأسهم أخوه الصغير الذي كان عونًا له ويدًا أمينة تشد من أزره، الأمر الذي انعكس إيجابًا على تجاوز آثار القحط والمجاعة، مما جعل مصر محط آمال شعبها ومخزن الطعام لها ولجيرانها. وبهذه السياسة الاقتصادية الرشيدة والحكمة الجيدة، أصبح سيدنا يوسف عليه السلام أول اقتصادي عرفته البشرية.
بعد هذه الخطة التي نهجها يوسف عليه السلام لتدبير الأزمة الاقتصادية، يُطرح السؤال التالي: ما مدى استفادة الدول المجاورة لمصر من هذا الإصلاح؟ أم أن المشروع شمل مصر وحدها؟
إن النبي يوسف عليه السلام استطاع أن يدير الأزمة الاقتصادية ليس في مصر فحسب، بل وضع خطة تفصيلية لكيفية التعامل مع القادمين من البلاد المجاورة لمصر، وعلى رأسها منطقة “فلسطين” التي أصابها هي الأخرى القحط، مما جعل الناس يفدون أفواجًا إلى مصر من أجل الكيل، خاصة بعدما سمعوا عن الرخاء الاقتصادي وعن سياسة يوسف عليه السلام ، وكان إخوته من بين الوافدين، يقول تعالى: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(يوسف:58)، فكانت معاملة يوسف عليه السلام لهؤلاء الوافدين مبنية على إجراءات دقيقة أثناء الكيل لهم، اعتمد فيها الإجراءات التالية:
• وضع نظام البطاقة التموينية؛ حيث حدد كمية الطعام التي تعطى للقادمين بقدر حمل بعير واحد لكل شخص، حتى يتمكن الجميع من الحصول على الطعام.
• جعل لكل شخص بطاقة خاصة به؛ حتى يعرف من خلالها أنه حصل على الطعام، درءًا لأي فوضى.
وكان يوسف عليه السلام يستقبل الوفود بنفسه، ثم يبدأ بسؤالهم من أين أتوا ومن أي عائلة هم.. وكان يعاملهم بكل احترام وأدب ويختم بطاقتهم دون إهانة. واشترط على كل من أراد الطعام أن يأتي ومعه بضاعة بلده عملاً بنظام المقايضة.
بهذا الأسلوب استطاع يوسف عليه السلام أن يحل مشكلة البطالة نتيجة إعمال نظام المقايضة، فحفز الناس على الإنتاج لتصبح بذلك مصر من الدول المنتجة في تلك الفترة، كما عمل أيضًا على تشغيل الأيدي العاملة من خلال توظيف وتشكيل فرق، لفرز البضائع وتصنيفها وإعادة بيعها والاستفادة منها.
2- الإصلاح العقدي والديني
إن انشغال نبي الله يوسف عليه السلام بالتخطيط للأزمة الاقتصادية التي حلّت بأرض الفراعنة، لم يمنعه من أداء مهمته الدعوية والإصلاحية في ظل مجتمع كان يعمه الجهل وفساد العقيدة.. وعلى الرغم من مكوثه مدة في السجن، فإن هذا لم يكن سدًّا منيعًا لمزاولة الدعوة إلى الله تعالى وإصلاح النفوس، ويتضح ذلك من خلال إخبار الله تعالى بقصته التي يصف فيها فترة دخوله السجن: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)(يوسف:36-37). ومن هنا بدأت سلسلة الإصلاح العقدي عند يوسف عليه السلام ؛ حيث انتهز فرصة تواجده بالسجن ليبث بين السجناء العقيدة الصحيحة، فكونه سجينًا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة، والأوضاع الفاسدة القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام، و”في هذه الفترة، كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام ديانة التوحيد الخالص، وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة”.
إن مشروع يوسف عليه السلام مشروع إصلاحي لم يتوقف عند الجانب الاقتصادي فحسب، بل جاء لإصلاح النفوس أولاً من براثين الجاهلية، ثم انتقل لإصلاح مجالات الحياة الأخرى من اقتصاد وسياسة.. إنه مشروع -أقل ما يمكن أن يقال عنه- متكامل الأبعاد.
ولكن لنتأمل كيف بدأ يوسف عليه السلام دعوته الإصلاحية.. أخاطبهم بنفس الأسلوب الذي كان سائدًا في مصر آنذاك؟ أم أنه لجأ إلى منهج خاص به كي يدخل إلى قلوب الناس؟
لم يبدأ يوسف عليه السلام دعوته لإصلاح النفوس بهدم صرح العقائد الفاسدة مباشرة، بل استعمل منهج التدرج، وذلك عن طريق التقرب أولاً إلى الشخص المراد نصحه وإرشاده قصد كسب مودته؛ حيث عمد عليه السلام في البداية إلى طمأنة هؤلاء السجناء بأنه سيفسر لهم رؤياهم انطلاقًا مما علّمه ربه، وهنا إشارة قوية من يوسف، ودقة منهجية في استعمال جملة (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)، حيث يؤكد على أن ما أوتيه من علم ليس من وحي خياله بل مستمد من وحي الله تعالى.
ونلاحظ أن يوسف عليه السلام كان يوجه الخطاب بصيغة الجمع عندما قال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) حتى لا يحرجهم وينفّرهم، خاصة وأن سياق كلامه كان موجهًا إلى “بيت العزيز، وحاشية الملك، والملأ من القوم، والشعب الذي يتبعهم، وهي كياسة وحكمة، ولطافة حسنة، وحسن مدخل”.
ويواصل يوسف عليه السلام منهجه في الإصلاح العقدي بعدما كشف عن معالم ملة الكفر، لينتقل مباشرة إلى بيان معالم ملة الإيمان الصحيحة التي اتبعها هو وأباؤه قائلاً: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ)(يوسف:38).
ويزيد يوسف عليه السلام من التقرب إلى هؤلاء الغافلين بنوع من الحلم والتلطف قائلاً: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)(يوسف:39-40)؛ فهو يتخذ منهما صاحبين لا عدوين من أجل إمتاعهم ومؤانستهم، وهو منهج غاية في الدقة استعمله يوسف الصدّيق كمدخل إلى قلوب هؤلاء، من أجل تفنيد العقائد الجاهلية الفاسدة، وبناء مقومات العقيدة السليمة، وهدم قوائم الشرك والجهل، بذلك يكون عليه السلام “قد رسم معالم هذا الدين ومقومات هذه العقيدة.. وقد استقر في اعتقاد الناس فعلاً أن الحكم لله وحده، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده والخضوع للحكم عبادة.
إن أقل ما يمكن أن نقول عن هذا الأسلوب الدعوي والإصلاحي، إنه فن من فنون الدعوة، ومنهج من مناهج الإصلاح العقدي الذي لازم يوسف عليه السلام طيلة فترته الإصلاحية.
وختامًا يمكن القول إن مشروع يوسف عليه السلام الإصلاحي، مشروع متكامل الأبعاد، لم يعتمد فيه على التواكل، بل نهج فيه أساليب دقيقة وسار فيه بخطى ثابتة فرسم أولى ملامحه الاستشرافية في السجن؛ ليخرج به إلى الناس في صيغة متكاملة.. مشروع إصلاحي لم يتوقف عند الجانب الاقتصادي فحسب، بل جاء لإصلاح النفوس أولاً من براثين الجاهلية، ثم انتقل لإصلاح مجالات الحياة الأخرى من اقتصاد وسياسة.. إنه مشروع -أقل ما يمكن أن يقال عنه- متكامل الأبعاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كلية الآداب، جامعة أبي شعيب الدكالي / المغرب.
المراجع
(1) يوسف بن يعقوب عليهما السلام منهج جديد لدراسة قصص الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم على ضوء التحدي القرآني والتأويل المبين لوجوه الإعجاز، لأحمد عز الدين عبد الله خلف الله، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1978م.
(2) سياسة التخطيط الإستراتيجي في ضوء سورة يوسف عليه السلام ، للدكتور صلاح الدين محمد قاسم النعيمي، طبعة 2011م.