ما إن يهل شهر رجب حتى تشمل الحركة جميع أنحاء إستانبول، لأن موعد إرسال المحمل النبوي الشريف إلى مكة المكرمة قد اقترب، ولأنه يحمل كسوة الكعبة الجديدة، ولأنه يحمل الصرة السلطانية التي تحتوي على هدايا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم رمزا للولاء والحب والإخلاص. فترى المساجد وقد تزينت بأضواء براقة، وأقيمت حولها السرادقات مع موائد الطعام، وإحياء الليالي بتلاوة القرآن والدروس الدينية والأناشيد في مدح المصطفى، كما يتحدث الأئمة في المساجد عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم فينبعث الشوق والحنين إلى ديار الحبيب في قلوب المستمعين.
هذا، ولو دخلت قصر الخلافة أي “قصر طوب قابي” لشاهدت نفس الشعور ونفس الحيوية والنشاط حيث تُزيَّن كل أرجاء القصر، وتقام الخيام العظيمة، وتُبسط السجاجيد والبُسط، وتعلق الستائر المذهبة، وتنثر الأزهار والورود الزاهية في أنحائه حتى يتحول إلى عروس رائعة الجمال. فالقصر يستقبل اليوم الذي يتحرك فيه موكب المحمل إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام. وتستمر الاحتفالات حتى الثاني عشر من شهر رجب حيث تمضي الأيام باستقبال الضيوف من أعيان وعلماء أتوا من بلاد مختلفة، وإكرامهم أحسن إكرام، وإلقاء الدروس الدينية، وتلاوة القرآن الكريم والأناشيد النبوية. فالقصر في مهرجان دائم وعيد سعيد حتى ذلك اليوم.
إستانبول تودع المحمل
يدخل السلطان إلى صالة الديوان، فيقوم له الحاضرون بإجلال عظيم، ويُتلى القرآن الكريم، ويأتي أغوات الحرم بأكياس ممتلئة بسجلات الصرة السلطانية ليتم تسليمها إلى أمين الصرة الذي يختاره السلطان من العلماء أو الجند أو الأشراف، كما يتم الإعلان عما تحتويه الصرة أمام السلطان والحاضرين، ويخرج الجميع إلى ساحة القصر الكبيرة حيث يكون الموكب جاهزا للانطلاق، وهو يتألف من مئات الجمال المحملة بالهدايا، ومئات من الفرسان المدججين بالسلاح، وعلى رأسهم “جمل المحمل”، وهو جمل جميل الشكل مهيب البنية لا يستخدم لأي عمل سوى الحج، ويحمل كسوة الكعبة المعظمة والصرة السلطانية.
وتبدأ الحركة، ويبدأ صوت رخيم بتلاوة القرآن، ويمشي جمل المحمل بخطوات وئيدة فيمر من أمام السلطان، ويتبعه الموكب الكبير. ويثور الحنين إلى الأراضي المقدسة في القلوب، إذ لم يستطع أي منهم أن يزور تلك الأراضي، فيجد السلطان وأتباعه أنفسهم يسيرون خلف الموكب، ويخرج الموكب من حديقة القصر متجها إلى المرفأ.
الطريق تغص بالجماهير الذين حضروا ليعيشوا هذه اللحظات العظيمة، ويودعوا ذلك الحمل العزيز الذي يسافر إلى قرية الحبيب. وترتفع الأصوات بالأناشيد والأدعية، وتسيل الدموع على الخدود، ويبلغ الشوق إلى الحرم الشريف أقصاه. وبعد لحظات تتضاءل صورة الموكب وسط مياه البسفور على المراكب الشراعية كلما ابتعد عن الضفة الأوروبية واقترب من منطقة أسكدار في الضفة المقابلة… ويغيب تماما بعد قليل، وتعود الوجوه المودعة إلى منازلها وهي في شوق إلى اليوم الذي سيعود فيه.
وما أن يصل موكب المحمل إلى أُسكدار حتى ييمم وجهه شطر ديار الشام مجتازا أراضي الأناضول مدينة تلو أخرى. أما استقبال أهل الأناضول الأوفياء للمحمل فلا تسأل عن روعته ودفء اللقاء فيه. فالموكب يسير على طريق تناثرت عليها أزاهير الحب للحبيب المصطفى ؟. وكلما مر على مدينة انضم إليه المزمعون على الحج من الأهالي مودعين الأحباب بدموع ملؤها الشوق والود.
“الشام الشريف” يستقبله
أخيرا يصل الموكب بحمله العزيز ومرافقيه الأوفياء إلى “الشام الشريف”، وهو الاسم الذي أطلقه العثمانيون على أراضي الشام. وتحط القافلة رحالها في دمشق الحبيبة، ملتقى قوافل الحجاج من كل أنحاء العالم. فإليها يتقاطر الحجاج من دول آسيا وجنوبي أوروبا وأفريقيا وأماكن أخرى من بلاد الإسلام، ومنها تسير الأفواج إلى الأراضي المقدسة.
مع فرحة اليوم الأول من عيد الفطر يبدأ الشوق إلى لقاء عيد الأضحى في الأراضي المباركة، وتبدأ مراسم المحمل حيث تصطف الفرق العسكرية أمام الجامع الأموي وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وتخرج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين وسط احتفال كبير.
وفي الأيام التالية يتجه الجميع إلى القلعة حيث اللواء النبوي الشريف القريب من ضريح الصحابي الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه، ويخرج اللواء باحترام كبير ويحمل إلى قصر الوالي في انتظار يوم الانطلاق.
ويأتي اليوم الموعود وهو اليوم الرابع من شهر شوال حيث يخرج المحمل الشريف مع اللواء السعيد والهدايا الكريمة الأخرى. ويعطي أمير الحج إشارة الانطلاق، فتبدأ الحركة ويسير المحمل الشريف وسط حشد كبير من المسؤولين والمرافقين والمودعين. يمر الموكب العظيم من باب الميدان ثم باب مصر متجها نحو قرية القدم، بينما يتهافت الناس من كل صوب يملأون الشوارع مهللين مكبرين مودعين، وأصوات المنشدين وقراء القرآن الكريم تضفي على سماء المدينة جوا روحانيا رفيعا وتثير في القلوب عواطف شجية رقيقة.
وفي قرية القدم، وهي المحطة الأخيرة قبل الإقلاع ينتظر الموكب أن تكتمل عدة السفر عشرة أيام، كما يوضع المحمل الشريف وكسوة الكعبة المعظمة والصرة السلطانية في صناديقها الخاصة وسط احتفالات كبيرة. وأخيرا تشد القافلة رحالها باسم الله ناحية الأراضي المقدسة.
الأضحى عيد الوصال
تصل القافلة المباركة إلى مكة المكرمة يوم عيد الأضحى المبارك. وليست احتفالات استقبال المحمل النبوي الشريف في مكة المكرمة بأقل ابتهاجا من احتفالات تشييعه من إستانبول و”الشام الشريف”. ولم لا، وهو قادم من مقر الخلافة -وقتها-، ويحمل كسوة الكعبة وهدايا السلطان وأشواق القلوب التي لم تتمكن من زيارة بيت الله الحرام هذا العام.
وبعد أن يتم توزيع الصرة السلطانية على أماكنها المخصصة يرسل شريف مكة خطاب شكر ودعاء إلى السلطان يحمله إليه شخص يُدعى “حامل البشارة”.
ولا بد أن نشير إلى أهم قطعة في هذا الموكب، ألا وهي كسوة الكعبة حيث يتولى السلطان صنعها، ويتم تبديل الكسوة الجديدة بالقديمة وسط احتفالات كبيرة، ويعود الموكب بالقديمة إلى إستانبول، وتستقبل هي الأخرى بإجلال بالغ، وتوزع قطعها على المساجد السلطانية الكبيرة وعلى العلماء والأعيان وأشراف القوم.
الصرة بدايتها ونهايتها
لقد أولى السلاطين العثمانيون مكة المكرمة ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم اهتماما بالغا، ولا شك أن أكبر دليل على ذلك مواكب المحمل النبوي الشريف، أو مواكب الصرة -كما عُرفت في التاريخ العثماني-. وهو محمل كان يرسله السلطان إلى الحجاز كل عام في موسم الحج في موكب عظيم تحمله مئات الجمال، وتحيط به كتائب كثيرة من الفرسان المدججين بالسلاح مع أستار الكعبة، وهدايا ذات قيمة عالية، وصرة سلطانية كبيرة تحتوي على قطع ذهبية كثيرة ومجوهرات كريمة توزَّع على أهل تلك البلاد، وتصرف على إصلاح طرق الحج، وإعمار مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومرافق الحرم الشريف.
لقد بدأت عادة إرسال الصرة إلى الحرمين الشريفين في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله (908-932م). والوثائق تشير إلى أن الفاطميين والمماليك كانوا يرسلون صرة إلى الحجاز أيضا.
وقد درج السلاطين العثمانيون على إرسال الصرة منذ بداية تأسيس الدولة العثمانية، إلا أن أول صرة تم العثور على وثيقتها في الأرشيف العثماني تعود إلى تاريخ 1389م، وهو عهد السلطان “بيازيد الأول”، وتنص الوثيقة قائلة: “لقد صدر الأمر السلطاني بإرسال صرة بمقدار 80 ألف قطعة ذهبية تنفق في مرافق الحرمين الشريفين، وتوزع على فقرائها وأشرافها وساداتها وعلمائها.”..
وقد أرسل السلطان محمد الملقب بـ”محمد شلبي” 14 ألف قطعة ذهبية عام 1413م، وصرة أخرى تحتوي على أكياس لم يحص عددها عام 1421م.
أما السلطان “مراد الثاني” فكان قد أمر بصرف ألف قطعة ذهبية إلى السادة الأشراف المقربين إليه في إستانبول، كما وقف موارد منطقة “باليق هصار” الواقعة قرب مدينة أنقرة على أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف، إضافة إلى إرساله صرة تحتوي على 35000 قطعة ذهبية كل عام. وفي وصيته العائدة لسنة 1446م أمر بوقف ثلث أملاكه الموجودة في “مانيصا” لخدمة الحرمين الشريفين، وذلك يعني 10 آلاف قطعة ذهبية كل عام.
وقد أمر السلطان “محمد الفاتح” بإرسال تسعة آلاف قطعة ذهبية مع مرسوم سلطاني إلى الحجاز قام شريف مكة بقراءته على الجماهير أمام الكعبة المعظمة، وأرسل له ماء زمزم وعددا من حمائم الكعبة ردا على معروفه. وحدد السلطان بعد ذلك كمية تزيد على 200 ألف قطعة ذهبية لخدمة الحرمين الشريفين كل سنة.
ولما أصبحت الحجاز ضمن حدود الأراضي العثمانية عام 1517م على يد السلطان “سليم الأول” أمر بتخصيص 200 ألف قطعة ذهبية كل عام للحرمين الشريفين مع هدايا ثمينة ومواد غذائية متنوعة.
أما أكثر السلاطين إرسالا للصرة بين “آل عثمان” فهو السلطان “سليمان القانوني”. ومن اللافت للنظر أنه قد أُنشئت مؤسسة جديدة في هذا العهد باسم “وراثة الصرة” حيث يرث الشخص حصة مورثه من الصرة. وإذا مات صاحب الحق ولم يكن له وارث وزعت حصته على الفقراء والمساكين.
والجدير بالذكر أن الدولة العثمانية لم تتخلَّ عن إرسال الصرة السلطانية حتى في أصعب أيامها اقتصاديا وسياسيا. فخلال الحرب العالمية الأولى في عام 1915 تم إرسال 107 حقائب تحتوي على 24 ألف ليرة و847 قرشا إلى أهل مكة، إلى جانب 197 حقيبة تشتمل على 32 ألف ليرة و882 قرشا مع حقيبة أخرى إلى أهل المدينة المنورة.
وعندما قام “الشريف حسين” بثورة في العام التالي انفصلت الأراضي المقدسة عن الدولة العثمانية، ورغم ذلك أصدر السلطان “وحيد الدين” مرسوما بإرسال “صرة كالماضي تُنفق على أهل مكة والمدينة وعربان الحجاز”. وكانت آخر صرة في عام 1917 حيث أرسلت عبر الشام في أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكن عندما انتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية عادت القافلة أدراجها إلى إستانبول، ومن ثم كانت نهاية قوافل المحمل الشريف أو ما عرف بمواكب الصرة.
رحلة المحمل الشريف، رحلة بدأت من قصر طوب قابي وانتهت في الأراضي المقدسة. سفر طويل شاق، ولكن في سبيل الحبيب تهون المشاق. وديعة كريمة حملها الكرام على محامل قلوبهم تلبية للعهد ولمشاعر الوفاء. بداية عن طريق البر، ثم عن طريق البحر، ثم عبر السكة الحديدية. رغم مرور السنين لا نزال نتسمع في خيالنا وقع خطوات جمل المحمل رتيبة هادئة مطمئنة…