هناك خلط كبير وشديد بين مضامين هذه المصطلحات الثلاثة: الجهاد… والقتال… والإرهاب.
وهذا الخلط هو أشد ما يكون في هذه الحرب السياسية والفكرية والدينية والإعلامية الكبرى التي تشنها دوائر غربية متنفذة ضد الإسلام وأمته وحضارته وعالمه، ليس فقط منذ “قارعة” 11 سبتمبر سنة 2001م التي وقعت بأمريكا، وإنما قبل هذه القارعة بعقود وربما بقرون. لكن هذه القارعة قد تصاعدت بهذه الحملة، ومن ثم بهذا الخلط بين مفاهيم هذه المصطلحات تصاعداً غير مسبوق في تاريخ علاقات الغرب بالشرق، والغربيين بالشرقيين.
ولأن النظر إلى “الآخر” من خلال “الذات” هو عيب شائع في الدراسات المقارنة بين الديانات والثقافات والحضارات، لأنه يؤدي إلى صب “الآخر” في قوالب “الذات”، وتجاهل -ومن ثم- إلغاء الفروق بين الديانات والثقافات والحضارات، وذلك بدلاً من التمييز بين “الأشباه والنظائر” التي تجمع النماذج الثقافية في موضوع الدراسة، وبين “الفروق” التي تمايز بينها.. كان هذا المنهاج الأحادي الجانب السبب في كثير من الخلط الذي يصيب مضامين العديد من المصطلحات.
صحيح أنه لا مشاحة في استخدام المصطلحات من قِبل أهل الحضارات المختلفة والديانات المتعددة والثقافات المتمايزة، لكن هناك مشاحة أكيدة في المضامين والمفاهيم والمحتويات التي تُفهم لدى كل فريق من ذات المصطلحات. فالمصطلحات بمثابة الأوعية يستخدمها ويتداولها الجميع، لكن محتويات هذه الأوعية (مضامين المصطلحات) تتفاوت وتتغاير وتتمايز بل وقد تتناقض لدى أصحاب الأنساق الفكرية المختلفة رغم وحدة المصطلحات. كذلك الحال مع مصطلحات الجهاد والقتال والإرهاب.
الحرب الدينية المقدسة
باستثناء قطاع محدود من العلماء الغربيين الذين درسوا الإسلام وحضارته وتاريخه وفق موضوعية الدراسات المقارنة، والذين تحررت ضمائرهم من قيود المقاصد “الإمبريالية” الغربية، فإن الكثيرين من الذين قاموا بدراسة الحضارة الإسلامية وتاريخ المسلمين -سواء بسوء فهم أو سوء نية- قد وقعوا في خطإ النظر إلى “الذات الإسلامية” من خلال منظار “المعايير” التي حكمت مسيرة الحضارة الغربية، والكهانة الكنسية للنصرانية الغربية، والتاريخ الحضاري الغربي، وما شهده من صراعات.
فإذا ذُكرت الخلافة الإسلامية -وهي دولة مدنية مرجعيتها الشريعة الإسلامية- قفز إلى مخيلتهم كهانة الدولة الكنسية الأوربية التي حكمت بالحق الإلهي والتفويض السماوي. وإذا ذُكر الحق في المواطنة، لم يتصوروه إلا قائماً على أنقاض الدين وشريعته وفي ظلال العلمانية واللادينية. وإذا ذُكر الدين، لم يتصوروه إلا علاقة فردية بين الإنسان وخالقه تقف عند خلاص الروح ومملكة السماء، لا علاقة لها بهذا العالم، لأنها تدع ما لقيصر لقيصر، مكتفية بما لله لله.
وانطلاقاً من النظر إلى “الآخر الإسلامي” من خلال منظار “الذات الغربية” حسب هؤلاء الغربيون -ومعهم مثقفونا المتغربون- الجهاد الإسلامي “حرباً دينية مقدسة” ضد أصحاب الديانات الأخرى تكون معايير البراء والعداء والصراع فيها هي الاختلافات في المعتقدات.
وانطلاقاً من هذا النموذج “الحضاري والتاريخي”، ومن خلال هذا المنظار الغربي نظر كثير من المستشرقين الغربيين إلى الجهاد الذي تحدث عنه القرآن الكريم والذي جعلته السنة النبوية ذروة سنام الإسلام.
حقيقة الجهاد الإسلامي
إن الجهاد الإسلامي ليس حرباً دينية مقدسة، لأن الإسلام ينكر ويستنكر أي حرب دينية. فالإيمان الإسلامي تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، وهو سر بين المؤمن وبين خالقه لا يتأتى إلا بالفهم والعلم والإقناع والاقتناع، ولا يمكن أن يكون ثمرة لأي لون من ألوان الإكراه فضلاً عن أن يكون هذا الإكراه عنفاً قتاليا. ولذلك قرر القرآن الكريم القاعدة المحكمة والمحاكمة: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة: 256) والتي لا تعني فقط “النهي” عن الإكراه في الدين، وإنما تعني أيضاً “نفي” أن يكون هناك دين أو تدين عن طريق الإكراه. إذ الإكراه يثمر “نفاقاً” وهو أخطر من “الشرك” الصراح و “الكفر” البواح، ولا يمكن أن يثمر “إيماناً” بحال من الأحوال. ولذلك شاعت في القرآن الكريم الآيات التي تقول للمخالفين: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6)، ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف:29) والتي تحدد مهمة الرسالة في الاعتقاد: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ﴾ (المائدة:99)، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 22).
وإذا كان الخلط بين الجهاد الإسلامي وبين الحرب الدينية المقدسة هو أثر من آثار سوء الفهم للإسلام، أو سوء النية في تصوير الإسلام، فإن هناك خطأ آخر يقع فيه الذين يختزلون الجهاد الإسلامي في القتال الذي تحدث عنه القرآن الكريم ومارسه المسلمون في عصر النبوة وعلى امتداد تاريخ الإسلام.
ذلك أن الجهاد الإسلامي الذي هو فريضة إسلامية أعم من القتال الذي شرعه الإسلام. فكل قتال جهاد وليس كل جهاد قتالاً، إذ القتال هو الجانب العنيف من الجهاد وليس كل الجهاد.
إن الجهاد في اصطلاح العربية كما جاء في “لسان العرب” لابن منظور هو: “استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل”. فهو لا يقف عند “الفعل” فضلاً عن أن يكون هذا “الفعل” فقط هو “الفعل العنيف” (الحرب) دون سواه.
والجهاد في الاصطلاح القرآني: “هو بذل الوسع في المدافعة والمغالبة” في كل ميادين المدافعة والمغالبة، أي في كل ميادين الحياة، وليس فقط في ميادين القتال. وأكثر ما ورد الجهاد في القرآن الكريم ورد مراداً به بذل الوسع في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها. وسبيل الدعوة الإسلامية هو الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وليس بالقتال والإكراه والحرب الدينية المقدسة. فميادين الجهاد الإسلامي -الأكبر والأعظم والأغلب- هي عوالم الأفكار والحوار.
فبذل الوسع واستفراغ الطاقة والجهد في ميادين العلم والتعلم والتعليم هو جهاد؛ وبذل الوسع واستفراغ الطاقة والجهد في عمران الأرض نهوضاً بأمانة الاستخلاف الإلهي للإنسان هو جهاد؛ بل إن الرفق بالإنسان والحيوان والنبات والجماد -الطبيعة- هو جهاد؛ وكذلك البر والإحسان إلى الوالدين والأقربين وأولي الأرحام هو جهاد. كما أن الخشية لله ومراقبته وتقواه والتبتل إليه هي قمة من قمم الجهاد الذي فرضه الإسلام؛ والكلمة الصادقة جهاد.
بل لقد جعلت السنة النبوية -وهي البيان النبوي للبلاغ القرآني- من أفعال القلوب -وليس فقط الأيدي والألسنة- ميدانا من ميادين الجهاد الإسلامي: “فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جهادهم بقلبه فهو مؤمن”. (رواه مسلم).
ومثل ذلك حراسة الوطن والمرابطة على ثغور دار الإسلام -كل الثغور- هي جهاد يكون أصحابها أول من يدخل الجنة من خلق الله.
كذلك جعلت السنة النبوية الحج إلى بيت الله الحرام -وفيه التجرد من الدنيا وقوّتها، بل وزينتها- والتعايش السلمي حتى مع الهوان، وكل أنواع الأحياء والنباتات… جعلت السنة النبوية هذا الحج ميداناً من ميادين الجهاد الإسلامي.
تلك هي حقيقة الجهاد الإسلامي الذي هو بذل الجهد واستفراغ الوسع والطاقة في أي ميدان من ميادين الجهاد على امتداد هذه الميادين واتساعها وتنوعها، وليس فقط هو القتال، فضلاً عن أن يكون الحرب الدينية المقدسة.
ولهذه الحقيقة كان الجهاد الإسلامي فريضة لازمة على كل مسلم ومسلمة، لأنه مستطاع لكل المكلفين وفق القدرات التي امتلكها ويمتلكها هؤلاء المكلفون، وفي أي ميدان يستطيع المكلف أن يبذل جهده فيه بسائر ميادين العبادات والمعاملات؛ بينما كان القتال الذي هو شعبة من شعب الجهاد مشروطاً بشروط، وله ميادين محددة، ضبطها القرآن الكريم في الآيات التي تحدثت عن القتال.
تلك هي حقيقة الجهاد الذي فرضه الله وجعله ذروة سنام الإسلام، والذي جاهده المسلمون -ولا يزالون- على امتداد تاريخ الإسلام، والذي يكون جهاداً كبيراً عندما يكون فقهاً ووعياً وحواراً بالحكمة والموعظة الحسنة انطلاقاً من القرآن الكريم: ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾ (الفرقان:52).
حقيقة القتال في الإسلام
وإذا كان الجهاد في الإسلام أعم من القتال، فإن القتال الذي هو الجهاد العنيف، والذي هو شعبة واحدة من الشعب السلمية التي لا تُحصى للجهاد، متميزة ثمرته -وهي القتل- عن الموت الطبيعي. فالموت: هو فوْتُ الحياة، بينما القتل: هو إزالة الروح وإزهاقها، وفوت الحياة بفعل فاعل من الخارج يتولى هذا الإزهاق.
وليس هناك شك -بل ولا غرابة- في أن نجد في الإسلام تشريعاً مضبوطاً يجوّز القتال أو يوجبه في بعض الحالات، ذلك أن الإسلام دين ودولة، وأمة ووطن، واجتماع ونظام، فالدين في الإسلام لا بد لإقامته من وطن يقام فيه، لأن هذا الدين الإسلامي ليس مجرد تكاليف فردية، يستطيع المكلف بها أن يقيمها بمعزل عن الناس، أو بإدارة الظهر للناس، وإنما فيه -إلى جانب التكاليف الفردية- تكاليف اجتماعية لا تؤدى إلا في أمة، وجماعة، ونظام، ومؤسسات، وسلطة، واجتماع؛ أي لا بد له من وطن ودولة. وهذه التكاليف الاجتماعية -والكفائية- هي آكد وأهم من التكاليف الفردية، لأن الإثم في التخلف عن التكليف الفردي يقع على الفرد فقط، بينما إثم التخلف عن التكليف الجماعي والاجتماعي -الكفائي- يقع على الأمة جمعاء. بل إن أغلب التكاليف الفردية في الإسلام تُؤدّى وتقام في جماعة، وثوابها في الجماعة أضعاف أضعاف إقامتها خارج الجماعة.
ولهذه الحقيقة -أيضاً- رفع الإسلام قيمة الحفاظ على حرية الوطن واستقلاله وسيادته، وحق المواطن -بل واجبه- في أن يعيش حراً في وطن حر… رفع هذه القيمة إلى مقام الحياة.
ولأن هذا هو مقام الوطن وضرورته لإقامة دين الإسلام، كان الجهاد القتالي وارداً، وأحياناً واجباً، للحفاظ على الوعاء -الوطن- الذي بدونه لا يُقام كامل الإسلام.
فلا بد لإقامة الإسلام من وطن، الأمر الذي يجعل القتال لحماية حرية هذا الوطن -التي هي حرية مواطنيه- وارداً في شريعة الإسلام. فالحفاظ على الدين هو ذروة سنام مقاصد الشريعة الإسلامية. والحفاظ على حرية الوطن الإسلامي هو الشرط لإقامة الدين والقيام بأمانة العمران التي هي المهمة العظمى من وراء استخلاف الله لجنس الإنسان ولذلك وقف الإسلام بالقتال -إذناً وأمراً وتحريضاً- فقط عند:
1- الحفاظ على الديـن، وحريـة الدعـوة إليـه، وتحريـر ضـمائـر المؤمنين به من الفتنة والإكراه.
2- الحفاظ على الوطن، وصيانة حريته وحرية أهله من العدوان.
فالقتال في الإسلام هو الاستثناء الذي لا يجوز اللجوء إليه إلا لمدافعة الذين يفتنون المسلمين في دينهم، أو يخرجونهم من ديارهم. ولقد كان منهاج الدعوة الإسلامية التجسيد لهذا المنهاج.
ففي البداية وبعد ما تعرض له المسلمون من أذى في عقيدتهم، وفتنة عن دينهم، واضطهاد تصاعد حتى اقتلعهم من وطنهم (مكة)، وجعلهم يهاجرون إلى يثربَ (المدينة)، بعد هجرة العديدين منهم إلى الحبشة؛ أذن الله -مجرد إذن- للمؤمنين في القتال. (الحج: 38-40) ولقد كان الإخراج من الديار، والفتنة في الدين الأسباب التي ذكرها القرآن الكريم في كل الآيات التي شرعت لهذا القتال.
وعندما تطور الحال من “الإذن” في القتال إلى “الأمر” به، جاء القرآن الكريم ليضع الإخراج من الديار سبباً لهذا الأمر. فهو قتال دفاعي ضد الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم، وفتنوهم في دينهم لتحرير الوطن الذي سلبه المشركون من المسلمين ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ (البقرة:190-192).
ذلك لأن منهاج الشريعة الإسلامية في الدعوة إلى الله وإلى دينه ليس القتال، وإنما هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
بل قد تميز الإسلام في هذا الميدان برفضه فلسفة “الصراع”، لأنه يؤدي إلى أن يصرع القوي الضعيف فيزيله وينهي التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف، التي هي سنة من سنن الله في سائر عوالم المخلوقات. رفض الإسلام فلسفة “الصراع”، وأحل محلها فلسفة “التدافع” الذي هو حراك يعدّل المواقف، ويعيد التوازن، مع بقاء التعددية والتعايش والحوار والتفاعل بين مختلف الفرقاء.
إن الإسلام لا يريد “الصراع” الذي ينهي “الآخر”، وإنما “التدافع” الذي هو حراك يحل التوازن محل الخلل الذي يصيب علاقات الفرقاء المتمايزين.
كذلك يرفض الإسلام الفلسفات التي اعتبرت القتل والقتال وإزهاق الأرواح جبلّة جُبل عليها الإنسان وغريزة من غرائزه المتأصلة فيه. وفي مواجهة هذه الفلسفات التي ذهبت إلى حد اعتبار الحرب طريقاً من طرق التقدم والتطور(!) يقرر الإسلام أن القتال هو الاستثناء المكروه وليس القاعدة. إنه ضرورة تُقدر بقدرها: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾(البقرة: 216)، وليس هناك “مكتوب” و”مفروض” وصف في القرآن الكريم بأنه “كُرْهٌ” سوى القتال.
ولقد بينت السنة النبوية وأكدت هذه الفلسفة الإسلامية إزاء القتال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا وأكثروا ذكر الله” (رواه الدارمي).
وحتى هذا القتال الذي كتب على المسلمين وهو كُره لهم والذي وقف به الإسلام ودولته عند حدود القتال الدفاعي لحماية حرية العقيدة وحرية الدعوة من الفتنة -التي هي أكبر من القتل المادي- ولحماية حرية الوطن الذي بدونه لا يُقام الإسلام… حتى هذا القتال -الاستثناء والضرورة- قد وضع الإسلام ودولته له “دستوراً أخلاقياً” تجاوز في سموه كل المواثيق الدولية التي تعارف عليها المجتمع الدولي نظريا (!) بعد أربعة عشر قرناً من ظهور الإسلام، وتطبيق المسلمين لقواعد الدستور الأخلاقي لهذا القتال.
ولقد صاغ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو رأس الدولة قواعد هذا الدستور الأخلاقي للقتال والحرب في وثيقة إسلامية عندما أوصى قائد جيشه يزيد بن أبي سفيان وهو يودعه أميراً على الجيش الذاهب لرد عدوان البيزنطيين في الشام، فقال في وثيقة الوصايا العشر: “إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبَّسوا أنفسهم لله (الرهبان) فدعهم وما زعموا أنهم حبّسوا أنفسهم له (…) وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأةً ولا صبيّاً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخرّبن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً، ولا تفرقنه، ولا تغْلُل، ولا تجْبُن”(رواه مالك في الموطأ).
فمعيار الإسلام ودولته في السلم والسلام أو الحرب والقتال ليس “الإيمان” و “الكفر” ولا “الاتفاق” و “الاختلاف”، وإنما هو التعايش السلمي بين الآخرين وبين المسلمين، أو عدوان الآخرين على المؤمنين بالفتنة في الدين أو الإخراج من الديار. وعن هذا المعيار للعلاقة بين الإسلام وبين الكافرين به والمنكرين له يقول القرآن الكريم: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(الممتحنة: 7 – 9).
ولقد طبق المسلمون هذا المعيار في العلاقات مع المخالفين، فكان اليهود -بدولة المدينة المنورة- جزءً من الرعية والأمة. ونص دستور هذه الدولة الإسلامية الأولى على أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتنَاصر عليهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، فيهود أمة مع المؤمنين”. وبالنسبة لعموم النصارى قررت المواثيق النبوية في هذه الدولة الإسلامية الأولى: “أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم”.
تلك هي حقيقة النظرة الإسلامية إلى القتال. إنه الاستثناء لا القاعدة، وهو الاستثناء المكروه ولا يجوز اللجوء إليه إلا دفاعاً عن حرية الاعتقاد والضمير وحرية الوطن الذي بدون حريته يستحيل إقامة الاعتقاد الديني على النحو الذي أراده الله في شريعة الإسلام. تلك هي حقيقة القتال في الإسلام وتلك هي مقاصده.
إنه مجرد شعبة من شعب الجهاد، وهو الاستثناء لا القاعدة، والضرورة التي تُقَدَّر بقدرها، وهو الفريضة المكروهة وليس الجِبِلة التي تقود إلى التقدم كما زعمت فلسفات وثقافات خارج نطاق الإسلام.
حقيقة الإرهاب
إن المفهوم الغربي لمصطلح “الإرهاب”، والذي يعني استخدام العنف غير المشروع لترويع الآمنين ولإكراههم على قبول ما لا يريدون، وخصوصاً عندما يكون هذا الإرهاب تمارسه السلطة الحاكمة ضد المحكومين، أي إرهاب الدولة الذي يبث الرعب في نفوس المحكومين… إن هذا المفهوم الغربي للإرهاب هو أبعد ما يكون عن مفهوم المصطلح في لغتنا العربية وفي القرآن الكريم الذي هو كتاب العربية الأول وديوان شريعة الإسلام. بل إن الإسلام يبرئ سائر الديانات السماوية من أن يكون الإرهاب والعنف والإكراه والترويع للآمنين سبيل أي منها في الدعوة إلى شريعة أي دين من تلك الديانات. فمنهاج الدعوة إلى اليهودية في شريعة موسى عليه السلام هو “القول اللين”، وليس العنف أو الحرب والقتال والإرهاب: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخْشَى﴾(طه: 42-47).
ولأن موسى عليه السلام لم يقم دولة ولم يقد جيشاً ولم يخض حرباً ولا قتالاً، وإنما ولد ونشأ وبعث في مصر، فلقد ظلت شريعته الحقيقية بريئة من أي إكراه أو عنف أو إرهاب.
وكذلك الحال مع النصرانية التي جاء بها عيسى بن مريم عليه السلام. فهي شريعة الصوفية المسالمة والسلام الصوفي التي بلغت في السلام والمسالمة حدوداً ومثلاً ربما عَزَّتْ على التطبيق في نطاق هذا العالم. ولذلك قال المسيح عليه السلام إن مملكته ليست في هذا العالم. فبراءة النصرانية -ومنهجها في الدعوة- من العنف والإكراه والإرهاب الذي يروّع الآمنين براءة لا تحتاج إلى كثير حديث.
وكذلك الحال مع منهاج الدعوة الإسلامية في الدعوة إلى الله، فلقد جاءت مؤكدة على المنهاج الإلهي في الدعوة إلى الإيمان الديني… منهاج الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، لأن هذا المنهاج هو الوحيد الذي يثمر إيماناً وتصديقاً قلبياً يبلغ مرتبة اليقين؛ بينما الإرهاب بمعنى ترويع الآمنين وإكراههم على ما لا يريدون هو سبيل النفاق الذي هو أشد سوء من الشرك الصراح والكفر البواح، وليس سبيل الإيمان بأي حال من الأحوال.
أمَّا أولئك الذين يستندون إلى ورود الإشارة في القرآن الكريم -بسورة الأنفال- إلى الإرهاب، فإن خطأهم القاتل -هذا إذا حسنت النوايا، وساء الفهم- هو في وقوفهم عند المصطلح مغفلين تميز مفهوم هذا المصطلح في القرآن الكريم واللغة العربية عن مضمونه الغربي الذي شاع ويشيع الآن في دوائر الفكر والثقافة والسياسة والإعلام. ولو أنهم فهموا سياق الآيات القرآنية التي ورد فيها هذه المصطلح -بسورة الأنفال- ثم جمعوا إلى آيات الأنفال كل الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح ومشتقاته بالقرآن الكريم، ثم فسروا هذه الآيات، وفقهوا هذا المصطلح وفق مضمونه العربي وسياقه القرآني، لمَا تطرق إلى ذهن أحد أن هناك أدنى علاقة بين الإسلام وبين الإرهاب، بمعنى ترويع الآمنين بالعنف والعدوان والإكراه.
إن آيات سورة الأنفال تتحدث عن المشركين الذين يقاتلون المسلمين، بفتنتهم في دينهم، وإخراجهم من ديارهم؛ وتخص بالحديث قوماً من هؤلاء المشركين المقاتلين احترفوا الخيانة للعهود، وأخذ المسلمين على غرة رغم ما بينهم من عهود للسلم والأمان. فتطلب هذه الآيات القرآنية من المسلمين أن يعدوا من العدة، ويتخذوا من القوة ما يرهب ويخيف -أي يردع- هؤلاء الذين مردوا على الخيانة ونقض العهود والغدر والعدوان ما يردعهم عن هذه الخيانة.
يخاطب الله رسوله في هذه الآيات فيقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال:58-63).
فمعنى الإرهاب هنا هو التخويف لردع الخونة والمخادعين والغادرين كي لا يغدروا بالمسلمين المعاهدين. وهو تخويف يوجب إعداد القوة الرادعة وليس تخويف العدوان والعنف والإكراه، أي أنه التخويف الذي ينفي العنف والإكراه والقتال. فهو كالعقوبة الرادعة؛ إعلانها يمنع ويردع عن الجريمة، ومن ثم يمنع تطبيقها. ولا علاقة لهذا الإرهاب بهذا المعنى بترويع الآمنين وإكراههم بالعنف والقتال والإكراه الذي هو معنى مصطلح الإرهاب في الفكر الغربي.
إن امتلاك الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة في منتصف القرن العشرين للسلاح -الرادع- النووي والهيدروجيني، هو الذي أرهب وردع أمريكا وأخافها من العدوان الذري على السوفيت، فتحقق الأمن والأمان للعالم من هذه الكارثة النووية.
ويشهد على هذه الحقيقة المفاهيمية مع السياق الذي وردت به آيات سورة الأنفال معنى مصطلح الإرهاب في العربية لغة القرآن الكريم.
ونحن عندما نعود إلى “الراغب الأصفهاني” في كتاب “المفردات في غريب القرآن” نجد أن معنى الإرهاب في القرآن ولغته العربية هو على الضد من العنف الذي يروّع الآمنين ويرعبهم. فهو من “الرهبة” بمعنى المخافة مع “تحرّز واضطراب”. وليس هناك عاقل يمكن أن يفسر المخافة والرهبة والخشية بالعنف الذي يروّع الآمنين ويرعبهم. وتشهد على ذلك كل الآيات القرآنية التي وردت فيها إشارات إلى هذا المصطلح وتصريفاته اللغوية.
فالرهبان هم الذين يبالغون في الخوف من الله وفي خشيته. والرهبانية هي المبالغة في الخشية من الله. وليس في أي من مضامين هذه المصطلحات القرآنية -يرهبون، فارهبون، تُرهبون، استرهبوهم، الرهْب، الرهبة، الرهبان، الرهبانية- ما يشير من قريب أو بعيد للمعنى الغربي للإرهاب، بمعنى العنف الذي يروّع الأبرياء والآمنين ويرعبهم.
إن إخراج الناس من ديارهم وأوطانهم وتحويلهم إلى لاجئين، هو عنف وإرهاب وترويع للأبرياء والآمنين. وإن نظرة على تاريخ العلاقات بين الغرب والشرق، لتضع أيدينا وأبصارنا وبصائرنا على قرون الغزو والعنف والقهر الثقافي والسياسي والديني والحضاري الذي مارسه الغرب ضد الشرق أغلب قرون ذلك التاريخ.
تلك هي حقيقة الجهاد والقتال والإرهاب في مصطلح العربية والقرآن والإسلام.
____________
المصادر
1. مجمع اللغة العربية، (معجم ألفاظ القرآن الكريم) طبعة القاهرة سنة (1390هـ – 1970م).
2. د.محمد حميد الله الحيدر آبادي، محقق (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، والخلافة الراشدة)، ص 16- 21، طبعة القاهرة سنة 1956م.
3. مجمع اللغة العربية، (معجم العلوم الاجتماعية) طبعة القاهرة، سنة 1975م.