إن السماحة التي تعني المساهلة واللين في المعاملات، والعطاء بلا حدود، ودونما انتظار مقابل، أو حاجة إلى جزاء.. إن هذه السماحة في النسق الإسلامي ليست مجرد كلمة تقال، ولا شعار يرفع، ولا حتى صياغةَ نظرية تأملية ومجردة؛ كما أنها ليست مجرد فضيلة إنسانية يمنحها حاكم ويمنعها آخر. وإنما هي دين مقدَّس، ووحي إلهي، وبيان نبوي لهذا الوحي الإلهي، وتجسيد وتطبيق لهذا الدين في دولة النبوة وفي دولة الخلافة الراشدة، وفي التاريخ الحضاريّ للشرق الإسلامي منذ ما قبل أربعة عشر قرنًا، وحتى هذه اللحظات، بل لأن هذه السماحة هي ثمرة للدين الخالد والشريعة الخاتمة، فإنها ستظل منهاجًا للإسلام والمسلمين إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها.
التأسيس القرآني للسماحة الإسلامية
لقد بدأ القرآن الكريم فأسس السماحة الإسلامية على قاعدة الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود. ففي هذا الوجود هناك “حقّ” هو الله سبحانه وتعالى، و”خلْق” يشمل جميع عوالم المخلوقات. هناك واجب الوجود، وهناك الوجود المخلوق لواجب الوجود. وفي هذا التصور الفلسفي الإسلامي تكون “الواحدية والأحدية” فقط للحق، لله سبحانه وتعالى واجب الوجود؛ بينما تقوم كل عوالم الخلق المادية والنباتية والحيوانية والإنسانية والفكرية، (أي كل ما عدا الذات الإلهية) على التعدد، والتنوع والتمايز والاختلاف باعتبار هذا التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف قانونًا إلهيًا تكوينيًّا، وسنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل. الأمر الذي يستلزم -لبقاء هذه السنة الكونية قائمة ومطردة- تعايشَ كل الفرقاء المختلفين، وتعارف جميع عوالم الخلق، أي سيادة خُلق السماحة في العلاقات بين الأمم والشعوب والثقافات والحضارات والمذاهب والفلسفات والشرائع والملل والديانات والأجناس والألوان واللغات والقوميات. فبدون السماحة يحل “الصراع” الذي ينهي ويلغي ويفني التعددية محلَّ التعايش والتعارف، الأمرُ الذي يصادم سنة الله سبحانه وتعالى في الاختلاف والتنوع بكل عوالم المخلوقات.
على هذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود أقام الإسلام مذهبه في السماحة، باعتبارها فريضة دينية، وضرورة حياتية، لتكون جميع عوالم الخلق على هذا النحو الذي أراده الله.
وفي التأسيس القرآني لهذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود نقرأ في آيات الذكر الحكيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13). فالإنسانية تتنوع إلى شعوب وقبائل، والسماحة هي السبيل إلى تعايشها وتعارفها في الإطار الإنساني العام.
وهذه الأمم والشعوب والقبائل تتنوع أجناسها وألوانها وألسنتها ولغاتها ومن ثم قومياتها كآية من آيات الله. والسماحة هي السبيل لتعايش الأجناس والقوميات في إطار الحضارات الجامعة لشعوب هذه القوميات.
وهذه الأمم والشعوب تتنوع دياناتها وتختلف مللها وشرائعها، وتتعدد مناهجها وثقافاتها وحضاراتها، باعتبار ذلك سنةً من سنن الابتلاء والاختبار الإلهي لهذه الأمم والشعوب، وحتى يكون هناك تدافع وتسابق بينها جميعًا على طريق الحق وفي ميادين الخيرات ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(المائدة:48). وبدون السماحة يستحيل تعايش هذه التعددية، التي هي علة الوجود، وسر التسابق في عمران هذا الوجود.
وانطلاقًا من هذا الموقف القرآني الذي جعل هذا التنوع سنة إلهية وقانونًا كونيًّا، كان “العدل” الذي هو معيارُ النظرة القرآنية وروح الحضارة الإسلامية هو أساس السماحة الإسلامية في التعامل مع كل الفرقاء المختلفين. ففي التأسيس لهذه السماحة العادلة يطلب القرآن الكريم منا العدل مع النفس والذات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ﴾(النساء:135)، بل ويوجب الله سبحانه وتعالى علينا العدل حتى مع مَن نكره ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(المائدة:8).
كذلك يوجب الإسلام علينا العدل في النظر إلى المخالفين لنا في الاعتقاد الذي هو سنة إلهية، ونحن مدعوون وفق منهاج القرآن ألا نضع كل المخالفين لنا في سلّة واحدة، وألا نسلك طريق التعميم الذي يظلم عندما يغفل الفروق بين مذاهب هؤلاء المخالفين ومراقفهم. وإقامةً لهذا المنهاج رأينا القرآن الكريم لا يعمم أبدًا في حديثه عن أهل الكتاب وأصحاب العقائد والديانات، وإنما يميّز بين مذاهبهم وطوائفهم، فيقول: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾(آل عمران:113).
فالقاعدة القرآنية الحاكمة في التمييز العادل بين الفرقاء المخالفين لنا هي أنهم ﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾. صنع القرآن ذلك عندما ميز فرقاء اليهود فلَم يعمم في الحكم على مجموعهم، وصنع ذلك أيضًا في الحديث عن النصارى عندما ميّز بين مَن هم أقرب مودة للمسلمين: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾(المائدة:82-83).
والمنطلق الإسلامي لهذا التمييز المؤسس للعدل والسماحة هو العدل الإلهي الذي هو فريضة إسلامية جامعة. فالله سبحانه وتعالى رب العالمين جميعًا ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الفاتحة:2) وليس رب شعب بعينه دون سائر الشعوب. والتكريم الإلهي شامل لكل بني آدم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70). ومعيار التفاضل بين البشر المكرمين هو التقوى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات:13)، وليس معيار التفاضل لونًا أو جنسًا أو سلالة أو أية صفة من الصفات اللصيقة التي تستعصي على الاختيار والكسب والتغيير. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾(الكهف:30).
وتأسيسًا على هذا العدل الإلهي، أسس القرآن الكريم سماحة الإسلام في النظر إلى مواريث النبوات والرسالات التي سبقت رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ فالقرآن الكريم لم يأت نافيًا لما سبقه من كتب، وإنما جاء مصدِّقا لها، ومهَيمنًا عليها، أي مشتملاً على ثوابتها ومستوعبًا لأركان العقائد فيها، ومضيفًا إليها، ومصححًا لما طرأ عليها. فعلى حين كانت اليهودية تنكر النصرانية وكانت النصرانية تنكر اليهودية جاء القرآن الكريم مصدقًا لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾(البقرة:91)، ومؤكِّدًا على أن ما أصاب بعض مواضع هذه الكتب لم يمح ما أودعه الله فيها من هُدى ونور ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾(آل عمران:2-4)، فالتوراة ﴿فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾(المائدة:44)، وكذلك الإنجيل ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾(المائدة:46).
ذلك هو التأسيس القرآني للسماحة الإسلامية على الرؤية الفلسفية للكون والوجود، المحكومة بسنة التعدد والتنوع والتمايز والاختلاف كقانون تكويني (أزلي أبدي)؛ الأمر الذي يجعل السماحة ضرورة لازمة وفريضة واجبة لبقاء قانون التنوع والاختلاف عاملاً ومرعيًا في عوالم المخلوقات والفلسفات والشرائع والديانات والثقافات والقوميات والحضارات.
التطبيق النبوي للسماحة الإسلامية
ولأن الإسلام هو الجامع والوارث لكل مواريث النبوات، فلقد تفرد بالسماحة التي جعلته وحده المؤمن بكل الرسل والأنبياء، وبجميع الكتب والصحف والألواح، دون تفريق بين أحد من رسل الله عليهم الصلاة والسلام ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾(البقرة:285).
ولأن السنة النبوية هي التطبيق النبوي للبلاغ القرآني، رأينا احتفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل الرسل والأنبياء. فالوحي الذي جاء به في عقائد دين الله الواحد هو ذاته الوحي الذي أوحاه الله إلى الخالين من أصحاب الرسالات.
وانطلاقًا من هذا البلاغ القرآني جاء التطبيق النبوي الذي يحتضن بالإيمان كل الرسل والأنبياء، فهم جميعًا أبناء دين واحد، وشرائعهم (أمهاتهم) شتى: “الأنبياء إخوة من علاّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد”(متفق عليه). ولذلك خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: “نحن أحقّ وأولى بموسى منكم”(متفق عليه). وقال عن عيسى عليه السلام: “أنا أولى بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة”(متفق عليه).
ولم يقف هذا التطبيق النبوي للسماحة القرآنية عند حدود السنة القولية، بل تحولت هذه السماحة في التطبيق النبوي إلى واقع معيش، وأخلاق وسجايا، قنّنها وقعدها دستور دولة النبوة في المدينة المنورة وفي العهود والمواثيق التي قطعها وكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين.
ففي دستور دولة المدينة (الصحيفة، الكتاب) أصبح الآخَر الديني (اليهود) جزءً من الذات (ذات الرعية الواحدة والأمة الواحدة) مع حرية الاعتقاد بالعقيدة الجاحدة لشريعة الإسلام. ونص هذا الدستور على أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتناصر عليهم”.(1)
وعندما جاء وفد نصارى “نجران” سنة 10 هـ / 631 م إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح لهم أبواب مسجد النبوة، فصلّوا فيه صلاة عيد الفصح، مولّين وجوههم إلى المشرق، ثم تركهم وما يدينون.(2) وعقد لهم عهدًا عامًّا دائمًا لهم ولسائر من يتدين بالنصرانية عبر الزمان والمكان.
في الخلافة الراشدة
ولقد امتدت هذه السماحة بامتداد الفتوحات الإسلامية التي أقامت “الدولة”، وتركت الناس أحرارًا في “الدين”؛ فرأينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه يوصي أمير الجيش الذاهب إلى الشام يزيدَ بن أبي سفيان “إنك ستجد قومًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذَرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له”(رواه مالك في الموطأ).
ووجدنا الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب عهد الأمان (العهد العمري) لأهل القُدس (إيليا) عند فتحها سنة 15 هـ / 635م الذي قرر فيه: “الأمان لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملّتها، وأنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارّ أحد منهم. ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود (وفق ما طلبوا)، وعلى أهل إيليا أن يُخرجوا منها الروم واللصوص؛ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن؛ ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلى بيَعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين”.(3)
بل لقد امتدت هذه السماحة الإسلامية من إطار التعامل مع أهل الديانات السماوية (اليهود والنصارى) إلى أهل كل العقائد والديانات، فشملت المتدينين بالديانات الوضعية من أهل البلاد التي دخلت في الدولة الإسلامية. وعندما فتحت فارس -وأهلها مجوس عبدة للنار- سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجلس الشورى (مجلس السبعين) عن الموقف من أهل هذه الديانات غير السماوية: “كيف أصنع بالمجوس؟” فوثب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب”.(4)
والإسلام لم يفرض على منكريه وجاحديه والكافرين به عقوبة دنيوية، وإنما أعلن أن حِسابهم على الله يوم الدين. ولذلك قال الإسلام حتى للمشركين الذين أشركوا الأوثان والأصنام مع الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون:4-6).
ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم حدًّا ولا عقوبة دنيوية على الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا، ولا على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره. فـ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة:256)؛ لأن الإكراه يثمر نفاقا، ولا يثمر إيمانًا، إذ الإيمان تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، فاجتماعه مع الإكراه مستحيل.
ولم يُقم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رأس الدولة حدًّا على مرتدّ إلا في الحالة الواحدة التي لم يقف فيها الأمر عند الردة عن الدين، وإنما بلغ الأمر مرتبة الحرابة والخروج المسلح على الأمة والدولة؛ فالنفر الذين اغتصبوا إبِل الصدقة (مال الدولة) وقتَلوا الغلمان الذين كانوا يرعون هذه الإبل (عمّال الدولة) ومثّلوا بجثثهم، وارتدوا عن الإسلام، قد ارتكبوا جريمة مركبة، صنفها الإسلام تحت حد الحرابة، وليس في باب الردة، وذلك عندما نزل في هؤلاء النفر قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(المائدة:33-34).
ولأن هذا هو موقف السماحة الإسلامية من المخالِفين في الاعتقاد، فلقد جاء حديث القرآن الكريم عند الإذن بالقتال والتحريض عليه دائمًا وأبدًا في سياق الحديث عن صدّ عدوان الذين اعتدوا على المؤمنين ففتنوهم في دينهم، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا على إخراجهم من أوطانهم، لا لشيء إلا لإيمانهم بالإسلام ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾(الحج:39-40). فحرية الدعوة والضمير، وحرية الوطن الإسلامي هما معيار “الولاء” و”البراء”، و”السلم” و”الحرب” بين المسلمين وغير المسلمين. وفي التقعيد لهذه القاعدة الكلية جاءت آيات القرآن الكريم: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الممتحنة:8-9).
وفي التاريخ الإسلامي
وإذا كان المسلمون قد فتحوا في ثمانين عامًا أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون، فإن كل معارك الفتوحات الإسلامية قد وقفت عند تحرير الشرق من قهر القوى الاستعمارية وخاصة الروم الذين استعبدوا الشرق وقهروه، ومن قبلهم الإغريق عشرة قرون من الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد وحتى هرقل في القرن السابع بعد الميلاد.
وقفت كل معارك الفتوحات الإسلامية، عند تحرير الشرق من هذا القهر السياسي والديني والثقافي والحضاري، ولم تحدث معركة واحدة بين الجيوش الإسلامية وبين أهل البلاد الشرقية التي شهدت معارك تلك الفتوحات. بل لقد حارب أهل تلك البلاد وساعدوا جيوش الفتوحات الإسلامية ضد الفرس والروم وهم على دياناتهم القديمة. حدث ذلك بمصر والشام والعراق.
وعندما تم تحرير هذه البلاد، تركت الدولة الإسلامية شعوب تلك البلاد وما يَدينون، حتى إن الذين دخلوا في الإسلام من أهل مصر والشام وفارس بعد قرن من الفتح لم يزيدوا على عشرين بالماءة من السكان.(5) فكانت الدولة الإسلامية حارسة للأرض المحرَّرة من الروم المتربصين الذين ظلوا يجيّشون الجيوش لإعادة اختطاف الشرق حتى فتح القسطنطينية، كما ظلت هذه الدولة الإسلامية حارسة لحرّية الضمير والاعتقاد الديني، الذي سبق وقهره الرومان عشرة قرون.
ولقد شهد بهذه الحقيقة -حقيقةِ سماحة الإسلام مع ديانات شعوب البلاد التي دخلت في دولة الإسلام- التاريخُ والمؤرخون، وغير المسلمين منهم قبل المسلمين.
فهذا الفتح الإسلامي هو الذي أنقذ المسيحية الشرقية من الإبادة والزوال، حتى ليمكن أن نقول -دون مبالغة- إنّ بقاء هذه المسيحية الشرقية حتى الآن إنما هو هبَةُ الإسلام وسماحة الإسلام.
فعمرو بن العاص رضي الله عنه هو الذي أمّن البطرك المصري “بنيامين” على حريته، وأعاده إلى شعبه بعد ثلاثة عشر عامًا من الهرب والاختفاء عن أعين الرومان.. وهو الذي حرر كنائس نصارى مصر وأَدْيرتهم من الاغتصاب الروماني، لا ليجعلها مساجد، وإنما ليردها لأصحابها النصارى يتعبدون فيها بحرية، للمرة الأولى في تاريخ النصرانية المصرية. ومع تحرير الأرض والكنائس والأديرة حرر عمرو بن العاص رضي الله عنه -لأنه مسلم- ضمائر الشعوب التي أدخلتها الفتوحات في دولة الإسلام، لأول مرة في تاريخ نصرانية تلك الشعوب بعد أن كان الرومان يقدمونهم طعامًا للنيران والأسود!..
وشهد شاهد من أهلها
وإذا كانت نجاة النصرانية الشرقية من الإبادة الرومانية هي الشاهد الماديّ الأصدق على حقيقة السماحة الإسلامية، فإن المؤرخين النصارى -من الشرق والغرب، القدماء والمحدثين- قد شهدوا هم أيضا لهذه السماحة الإسلامية.
ففي أقدم كتب التاريخ النصرانية حديث عن سماحة عمرو بن العاص رضي الله عنه مع نصارى مصر، وكيف أن تحرير الإسلام لهم من قهر الرومان، وهزيمة الاستعمار الروماني بمصر على يد الجيش الإسلامي الفاتح إنما كان انتقامًا إلهيًّا من ظلم الرومان لمصر واضطهادهم لنصارى مصر.. ففي تاريخ “يوحنا النقيوسي” -وهو معاصر للفتح وشاهد عليه-: “إن الله الذي يصون الحق لم يهمل العالم، وحكم على الظالمين، ولم يرحمهم لتجرّئهم عليه، وردهم إلى يد الإسماعيليين (العرب المسلمين) ثم نهض المسلمون وحازوا كل مدينة مصر.. وكان هرقل حزينًا.. وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مدينة مصر، وبأمر الله الذي يأخذ أرواح حكّامهم مرض هرقل ومات.. وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقوى كل يوم في عمله، ويأخذ الضرائب التي حددها، ولم يأخذ شيئًا من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئًا ما، سلبًا أو نهبًا، وحافَظ عليها (الكنائس) طوال الأيام”.(6)
إنها شهادة شاهد عيان نصراني على هذه السماحة الإسلامية التي تجسدت على أرض الواقع. ومتى؟ قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان. وهي سماحة نابعة من الدين الإسلامي، وليست كحقوق المواطنة التي لم تعرفها المجتمعات العلمانية إلا على أنقاض الدين.
وبعدما استقبل عمرو بن العاص رضي الله عنه البطرك القبطي “بنيامين”، وأمّنه على نفسه وكنائسه ورعيته وحرية عقيدته بل وطلب منه أن يدعو له، أخذ “بنيامين” في زيارة كنائسه وفي إعادة افتتاحها. وكان الناس يستقبلونه فرحين، مرددين العبارات التي تشهد على أن هذا الفتح الإسلامي إنما هو عقاب إلهي للرومان جزاء الظلم الذي أوقعوه بالنصارى المصريين.
ولقد عبّر الأنبا “بنيامين” عن الأمان الذي أحلّته سماحة الإسلام بمصر، على أنقاض القهر والاضطهاد اللذين مارسهما الرومان (النصارى) ضد نصارى مصر. فقال وهو يخطب في دير “مقاريوس”: “لقد وجدتُ في الإسكندرية من النجاة والطمأنينة اللتَين كنتُ أنشدهما، بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون”.(7)
تلك شهادات شهود العيان ورجال الدين النصارى تقول: إن الفتوحات الإسلامية كانت “الإنقاذ” لشعوب تلك البلاد ودينهم من القهر الروماني، وإن سماحة الإسلام كانت آية من آيات الله، انتقم الله بها من مظالم الرومان. حتى لقد اعتبروا مرض هرقل وموته -وزوال الإمبراطورية الشرقية للرومان- و”سيادة الإسلام” في مصر والشرق آية من آيات الله.
بل لقد زحف رهبان النصرانية المصرية من الأديرة والمغارات التي كانوا هاربين فيها من الاضطهاد الروماني.. زحفوا للقاء عمرو بن العاص رضي الله عنه، حتى “ليُروى أنه خرج للقائه من أديرة وادي النطرون سبعون ألف راهب، بيد كل واحد عكاز، فسلموا عليه. وأنه كتب لهم كتابًا (بالأمان) هو عندهم”.(8)
وحتى يحافظ الأقباط على نعمة هذا التحرير وهذه السماحة الإسلامية، فلقد هبّوا عندما عاد الرومان إلى احتلال الإسكندرية سنة 25 هـ / 646م، في عهد الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، هبّوا إلى القتال مع الجيش المسلم ضد الرومان النصارى، وطلبوا من الخليفة إعادة عمرو بن العاص لقيادة المعركة. فعاد إلى مصر، واستخلص الإسكندرية ثانية من أيدي الرومان.
تلك هي السماحة الإسلامية.. كما تجلّت في القرآن الكريم.. وفي البيان النبوي للبلاغ القرآني.. وكما تجسدت في المواثيق الدستورية.. وفي الحياة العملية والواقع المعيش للدولة الإسلامية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، وعبر تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية.. وكما شهدت بها المصادر التي كتبها المؤرخون الثقات من النصارى الشرقيين والغربيين.. القدماء منهم والمحدثين والمعاصرين، والذين تعمدنا الاعتماد على شهاداتهم هم وحدهم، دون شهادة المؤرخين المسلمين. وذلك عملاً بمنهاج ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾ على هذه السماحة الإسلامية، التي تفرّد بها الإسلام، والتي لا نظير لها خارج إطار الإسلام.
________________________
الهوامش
(1) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، جمع وتحقيق: د.محمد حميد الله الحيدرآبادي، القاهرة 1956م، ص 17-21.
(2) سبل الهدى والرشاد لمحمد بن يوسف بن صالح الشامي، 6/642.
(3) الوثائق السياسية، د.محمد حميد الله، ص 345-346.
(4) الوثائق السياسية، د.محمد حميد الله، ص 345-346.
(5) المسيحيون واليهود في التاريخ الإسلامي العربي والتركي، فيليب فارج، يوسف كرباج، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة 1994م، ص 25.
(6) تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي، القاهرة 2000م، ص 201-202.
(7) تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي، ص 220.
(8) تاريخ مصر في العهد البيزنطي، ص 194.