إن استكمال البناء التربوي للمسلم بصفة عامة ولحامل القرآن الكريم بصفة خاصة يقوم على التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والكون والحياة ولمعنى ألوهية الله عز وجل. ويمكن إيجاز ذلك في النقاط التالية:
1-الاستخلاف في الأرض
إن الإنسان هو عبد من عباد الله تعالى خلقه من طين، ونفخ فيه من روحه، وعلمه من علمه، وأمر الملائكة بالسجود له، وكرمه واستخلفه في أرضه، وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلاً. وعلى ذلك فإن القدرة على التعلم واكتساب المعرفة هي صفة أساسية من صفات الإنسان، وضرورة من ضرورات وجوده؛ فهي التي تعينه على فهم رسالته في هذه الحياة، وهي رسالة ذات شقّين: عبادة الله تعالى بما أمر، والقيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة عدل الله عز وجل فيها، وهذا لا يمكن أن يتم بغير علم والتزام. ومن هنا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم.
2-الإنسان كيان روحي
الإنسان جزء من هذا الكون المادي، ولكنه يختلف عن الكون المادي بأنه -بالإضافة إلى جسده المادي- هو كيان روحي عاقل، قادر على التفكير وعلى إدراك ما يفكر فيه، وعلى التعبير عن تفكيره ومشاعره ببيان واضح.
والإنسان يحس في نفسه معاني وقيمًا للأشياء والأفعال تجعله يستطيع إدراك ذاته، وتجسيد تلك الذات تجسيدًا يجعلها متميزة على كل ما سواها من الكائنات الحية الأخرى، رغم ما بينه وبينها من شبه في البناء؛ فهو أعلى المخلوقات مرتبة، وآخرها وجودًا، وعلى ذلك فهو جامع لكل صفاتها، ومتميز عليها بالقدرة والاختيار والتكريم، فهو الكائن الحي العاقل القادر المختار المُكلَّف الذي وصفه خالقه سبحانه وتعالى بقوله العزيز: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70).
على ذلك فالإنسانية في الإنسان ليست بجسده المادي المعقّد، ولا بصفاته التشريحية الخاصة، إنما الإنسانية فيه هي القدرة التي وهبها له خالقه عز وجل على الارتقاء بنفسه إلى الدرجة التي تؤهله لاحتمال تبعات التكليف، وأمانة المسؤولية -خاصة إذا كان من حملة كتاب الله- حتى يصل إلى المقام الخاص به، وهو الاجتهاد في تحقيق الكمال الاختياري الواعي بإرادته وعزيمته وصبره، وبهداية كتاب ربه. وهذا لا يمكن الوصول إليه بغير تربية وبغير علم وفهم وهداية وأخلاق والتزام، وبغير مجاهدة للنفس.
وعلى ذلك فالتربية في الإسلام تربية شاملة لكل مكونات الإنسان، وقدراته ومواهبه، وهي ليست عملية محدّدة بزمان ومكان. وإذا لم يتلقَّ الإنسان قدرًا كافيًا من التربية فإنه قد يستخدم هذه الإرادة الحرة في الخروج عن منهج الله، والإفساد في الأرض.
3-أصالة الخير في الإنسان
إن الخير أصيل في الإنسان، والشر طارئ عليه، وقد وهب الله الإنسان القدرة على التمييز بينهما، والإنسان يولد على الفطرة التي يزكيها حمْل كتاب الله، وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الروم:30).
ثم تتفاعل قابليات الإنسان وميوله وقدراته مع المجتمع الذي يربَّى فيه، فتنمو في الاتجاه الصحيح أو الخاطئ حسب ما يتلقى من توجيه، ومن هنا تتضح أهمية التربية الصالحة، ودورها في توجيه العقل لاستخدام قدراته كلها في الخير وليس في الشر، وهذا هو دور أساسي من أدوار التربية الإسلامية خاصة مع حاملي القرآن الكريم.
4-فطرية القيم عند الإنسان
إن قمّة الخير في الإنسان، ووسيلته إلى إنمائه هي خضوعه بالعبودية لله وحده؛ لأنه إذا لم يخضع بالعبودية لله كان جبارًا عاتيًا في الأرض، يستخدم كل نعمة وهبها إياه الله في الاستعلاء والتجبر والإفساد في الأرض، أو يكون عبدًا لغير الله، وهذه صورة من صور الإذلال الإنساني الذي يتنافي مع تكريم الله لبني آدم؛ ومَن أجدر بتوحيد الله تعالى من حامل كتابه؟!
ومن سمات التوحيد الخالص لله الخالق عز وجل أن يؤمن الإنسان بأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله، ومن ثم فالعبودية لغيره تعالى هي إهدار لكرامة الإنسان، وإذلال لإنسانيته، وهي صورة من صور الشرك الذي حرّمه الله تعالى وجعله المصطفى صلى الله عليه وسلم من الكبائر، ومن السبع الموبقات المهلكات.
فمن الخير الفطري في الإنسان بصفة عامة وفي حامل القرآن بصفة خاصة تلك القيم الكبرى التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، ومنها حب الحق، وحب الخير، وتذوق الجمال الحسي والمعنوي، وهذه في المخلوقات انعكاس لعظمة القدرة المبدعة، ودلالة على الخالق العظيم الذي هو الحق والخير، وهو مسبغ كل صور الجمال على الإطلاق. فالله تعالى هو مصدر كل القيم العليا، وهو سبحانه غايتها.
وواجب التربية الإسلامية أن تحافظ على الفطرة الإنسانية السليمة، وأن تعمل على تنميتها وتزكيتها باستمرار خاصة مع حامل القرآن الكريم؛ فالتعليم بدون تربيةٍ وتزكيةٍ تعليمٌ ناقص، فهذا هو سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء وولده إسماعيل عليهما السلام يدعوان الله لذريتهما من بعدهما فيقولان: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(البقرة:129).
5-التربية الإسلامية والمجتمع الإنساني
إن الإنسان الفرد هو عضو في جماعة تظل تتسع حتى تشمل الإنسانية كلها بما فيها أسرته وأهله، ومجتمعه وبلده وأمته والعالم بأسره. فهو مرتبط بهذه الجماعات كلها بارتباطات شتى، وله عندها حقوق، كما أن عليه تجاهها واجبات، ولا تستقيم الحياة في هذه الدنيا إلا بقيام اتزان دقيق بين حقوق الفرد وواجباته تجاه الجماعة، وهو أمر من صميم العملية التربوية، ومن صميم الإسلام. وهو من الأمور التي لا يُكتَفى فيها بالتلقين، وإنما لا بد لها من أن تغرس في النفوس بالممارسة الفعلية وباتباع القدوة الحسنة، والتزام أوامر الله واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده التي وضعها لعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقات كل منهم بالمجتمع الإنساني كله وعلى اختلاف أبعاده، خاصة إذا كان المربى من حملة القرآن الكريم.
والتربية الإسلامية في ذلك لا يمكن أن تكون عملية إقليمية ضيقة، تحدها حدود الأرض، أو فواصل اللغة، أو اختلاف اللون وتنوع الجنس؛ فهي تسعى إلى بناء الإنسان الصالح لتبني به المجتمع الإنساني الصالح، وهو مجتمع لا بد أن يكون مجتمعًا متعلما متبصرًا، يستشعر الفرد فيه معنى الأخوة الإنسانية، ويعتزّ به، ويصونه ويحافظ عليه. وعلى ذلك فالمساواة في التعليم الإسلامي بين عناصر الجنس البشري كلها أمر واجب لا فرق في ذلك بين أبيض وأسود، ولا بين ذكر وأنثى، فكلهم مطالبون بعبادة الله وتقواه، ولا عبادة بغير علم وهدى والتزام.
6-الاهتمام باختلاف الملكات عند الأفراد
إن الأفراد متفاوتون في قدراتهم وملكاتهم ومواهبهم، وإن كان ذلك بمثابة ابتلاء واختبار إلا أن هذا التفاوت بين الأفراد لا بد وأن يؤخذ بعين الاعتبار في العملية التربوية، فلا يكلف إنسان فوق طاقته. ومن ثم فالتربية في الإسلام تربية فردية، لا تُحدّ في قوالب موحدة جامدة تفقدها طبيعتها الإنسانية، بل تتركها لحسن تقدير المربِّي وقدرته على توجيه الملكات الخاصة لكل طالب، وعلى حسن قبول الطالب لتوجيه مربيه لما يربطهما من صلة نورانية أساسها خشية الله تعالى والعمل على مرضاته، وما أجمل ذلك في حلقات تعلم كتاب الله!
7-تكامل المعرفة التربوية
إن مصادر المعرفة الإنسانية في الإسلام هي الوحي السماوي المُنـزَّل، والمعارف والتقنيات المكتسبة، والتراث البشري الموروث في هذين المجالين. وعليه فإن التربية الإسلامية لا بد أن تستمد منهجها ومحتواها من كلٍّ من وحي السماء وميراث المعارف والتقنيات المكتسبة، فإهمال أيٍّ منهما لا يمكن أن يؤدي إلى معرفة متكاملة نافعة أو إلى تربية سليمة، ومن هنا كانت ضرورة إلمام حافظ القرآن الكريم بالمعطيات الكلية للعلوم حتى لا ينعزل عن عصره.
8-الوحي الإلهي وآثاره التربوية
إن وسيلة الإنسان إلى العلم السماوي هي وحي السماء المُنـزَّل على عدد من الرسل والأنبياء، والذي تَجمَّع واكتمل وحفظ في الرسالة الخاتمة المتمثلة في القرآن الكريم وفي سنة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم. وقد تعهد ربنا تبارك وتعالى بحفظهما، فحُفظا حفظًا كاملاً في نفس لغة الوحي بهما (اللغة العربية) على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية، وتعهّد تعالى بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقيا حجة على الناس كافة إلى قيام الساعة، وهنا يتضح فضل حامل القرآن الكريم.
وعلى ذلك فإيمان الإنسان برسالة السماء هو ضرورة من ضرورات علمه، بل من ضرورات وجوده؛
أ- فهو من ضرورات علمه لأن العلم الذي لا يستطيع أن يجيب على تساؤلات أساسية في حياة الإنسان -مثل من هو؟ من الذي خلَقه وأرسله إلى هذه الحياة؟ وما هي رسالته فيها؟ وكيف يمكن له أن يحقق تلك الرسالة على الوجه الأمثل؟ وما مصيره بعد هذه الحياة؟- هو علم ناقص حتى ولو وصل بالإنسان على القمر، وجاب به في الفضاء، وفجَّر له أسرار الذرة، وسخَّر له مختلف طاقاتها.
بـ- والإيمان بوحي السماء هو من ضرورات وجود الإنسان لأنه لا يستطيع أن يضع لنفسه نظامًا شاملاً كاملاً ينظم حياته وعلاقاته أفرادًا وجماعات، ودولاً وأممًا، ومجتمعًا إنسانيًّا واحدًا على أساس من الحق والعدل، دون ميل شخصي، أو هوى نفسي مهما أوتي الإنسان من أسباب الذكاء والفطنة؛ وذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يحدد تفاصيل رسالته في هذه الحياة، ولا أن يدرك مصيره من بعدها بعقله منفردًا. ومن هنا كانت ضرورة رسالة السماء ليهتدي بهديها الإنسان في القضايا التي لا يستطيع أن يصل فيها بجهده إلى أية تصورات صحيحة. ولذلك بعث الله الرسل والأنبياء بدينه الحق، وطالب الناس بالإيمان بهذا الدين الحق وإقامة حكم الله في الأرض على أساس منه.
وآخر الرسالات السماوية هي رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله تعالى خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل أعظم معجزاته القرآن الكريم، وتعهد بحفظه فبقي سليمًا من الضياع ومن التحريف والتبديل. ومن هنا فإن التربية في الإسلام تقوم على أساس من القرآن وهديه، وتعاليم رسولنا الكريم وسنته، وربط ذلك بواقع الأمة في كل زمان ومكان، ومن أجدر بذلك من حامل القرآن!
وعلى ذلك فإن اهتمام السلف الصالح من المسلمين بتحفيظ أبنائهم وبناتهم القرآن الكريم في سن مبكرة كان عملاً أساسيًّا في تربيتهم، به تكونت عقيدتهم وأخلاقهم، وانضبط سلوكهم ومعاملاتهم، وعمُق إيمانهم وصلتهم بخالقهم، وزاد فهمهم لرسالتهم، وسادوا الدنيا بهذا الفهم وملَؤوها علمًا وعدلاً ورحمة وإنسانية، وبه تمكّنوا من لغتهم، وحفظوا رسالة ربهم، ولا يزال ذلك هو الأسلوب الأمثل في تربية المسلم على الرغم من الاعتراضات التي وُجِّهت -ولا تزال توجه من أعداء الإسلام وأبواقهم- إلى ذلك النهج في تربية الصغار؛ وذلك لأن حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة تتميز فيها الذاكرة بصفائها هي عملية سهلة ميسرة. والقرآن -بالإضافة إلى كونه ذخيرة علمية ودينية ولغوية وتربوية وأخلاقية وسلوكية- هامّة لحامله حتى ولو لم يعِ ذلك وعيا كاملا في سن مبكرة، فإنه ينمو -بالقطع- مع نموه العقلي والجسدي، ويبقى ذخيرة له في دنياه كما هو ذخيرة له في آخرته. فالتربويّون اليوم يجمعون على أن للمفردات والتراكيب الجميلة التي يحفظها الطفل في صغره صلة كبرى بنمو الطفل العقلي والفكري، والأخلاقي والسلوكي بنموّ قدراته على البيان. وهل هناك أبلغ من بيان الله في القرآن الكريم؟!
9-العلم والحكمة في الممارسة التربوية
إن العلوم الكونية في منهج التربية الإسلامية شيء أساسي، ولكن العلم بها ليس علمًا ماديًّا مجردًا عن الحكمة، فتعرّف الإنسان على الكون ضرورة من ضرورات وجوده؛ لأنه بذلك يتعرف على الظواهر الطبيعية والسنن التي تحكمها، ويضع الفروضَ والنظريات اللازمة لذلك، ويستنتج القوانين للمطرد منها. ونتاج ذلك تعرّفُ الإنسان على مصادر الخير المادي في هذه الحياة، فيستفيد بها وينمّيها بسد حاجاته وحاجات بني جنسه، وتعرّفه على شيء من قوانين الكون وسننه مما يعينه على تسخيرها في عمران الحياة على الأرض والقيام بواجبات الاستخلاف فيها، وهذا مجال العلوم البحتة والتطبيقية أو ما يسمى بالعلوم الكونية، والتي يجب على حامل القرآن الكريم أن يلم بشيء من المعطيات الكلية لها.
وهذه العلوم في التربية الإسلامية ليست فقط حقائق وأرقامًا، ومعادلات مجردة من الحكمة، فإن دلالتها المعنوية أكبر منها. ومن هنا كان لزامًا على المسلم أن ينظر في كل شيء وفي كل أمر بعين الاعتبار، وهو حاضر القلب، متفتح الحواس، جاد في محاولة الوصول إلى المعرفة، وإلا أتت معرفته معرفة حسية فقط، معرفة بمادة الأشياء، وهو أقل ما يمكن للإنسان أن يدرك منها؛ فالمسلم حين ينظر في الكون متأملاً دارسًا متفكرًا يدرك أن الكون بكل ما فيه ومن فيه خلق بالحق، ولأجَل مسمى، وأن لكل شيء طبيعته الخاصة، وقوانينه الثابتة، ووظيفته المحددة وغايته المرسومة، وأن الكون لم يخلق عَبَثًا. وكذلك يجب أن تكون حياة الإنسان نظامًا ودقة وعملاً وفهمًا ينسجم مع قوانين الكون وسننه، وإلا أتت حياة الإنسان شاذة عنها، خارجة عليها، متعارضة معها.
والكون للمسلم هو كتاب الله المنظور، يرى فيه عظمة الخلق، ودقة البناء، وانتظام الحركة، وإتقان الصنعة، فيدرك من ذلك جانبًا من صفات خالقه العظيم، ويتعلم عددًا من الشروط الواجبة للنجاح في هذه الحياة، ويرى في الكون وحدة في البناء تنطق بوحدانية الخالق العظيم، ويرى فيه أنه مستحدث فانٍ، كانت له في الأصل بداية بدأها الخالق البارئ المصوّر ويحاول العلماء حسابها، وسوف تكون له في يوم من الأيام نهاية هي بيد الخالق عز وجل وحده، ويرى الإنسان من كل ذلك أنه في كل لحظة من لحظات وجوده هو محتاج إلى رحمة الله ورعايته، وإلا هلك وهلك كل ما في الكون ومن فيه.
ويؤكد لنا ربنا عز وجل أن وجود الإنسان في هذه الحياة هو لغاية محددة، فيقول عز من قائل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56). ويوضح ربنا جلّت قدرته أن هذه العبادة ليست مقصورة على طقوس دينية محددة، بل إن الاجتهاد في عمران الحياة على الأرض عبادة، وطلب العلم عبادة، والعدل بين الناس عبادة، والسعي في مصالح الخلق عبادة، فيقول عز وجل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(التوبة:105).
والمعرفة في التربية الإسلامية لا تنفصل عن الحكمة فهُمَا من وسائل الإيمان الراسخ. والإيمان الراسخ يصدقه العمل الصالح، ولذلك قرن ربنا عز وجل الإيمان دوما بالعمل الصالح في محكم كتابه فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وكلٌّ من الإيمان الصادق والعمل الصالح يؤدي إلى التزكية المستمرة للنفس الإنسانية حتى تصبح نفسًا مطمئنة، وكلها من وسائل التربية الإسلامية. ومع إيمان هذه التربية الإسلامية بالتخصص الدقيق، ويقينها من فوائده، فإنها لا تعرف فصلاً متكلّفًا بين معرفةٍ بالله ومعرفة بما خلق الله، أو بين دراسات دينية منعزلة انعزالاً كاملاً عن المعطيات الكلية للعلوم، أو معارف كونية منفصلة عن وحي السماء، أو بين علوم بحتة وتطبيقية منعزلة انعزالاً تامًّا عن بقية المعارف الإنسانية. فالمعارف كلها في التربية الإسلامية تلتقي على غاية واحدة هي معرفة الله تعالى وعبادته بما أمر، وحين القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض. ومصدرُها في هذه المعرفة هو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومجالُها الكون كله، والإنسان بمختلف أبعاده، والحياة بكل أشكالها وألوانها ومستلزماتها، ومنطلقُها ذلك التصور الإسلامي الصحيح عن الإنسان والكون والحياة وعن معنى “لا إله إلا الله”. ويتضح ذلك أكثر ما يتضح في الدراسات الكونية. ولذا فإننا نجد القرآن الكريم -ومنذ أربعة عشر قرنًا- يحضّ الناس حضًّا على الاهتمام بالنظر في الكون وفي كل مكوناته وأجزائه، وما به من مختلف صور المادة والطاقة والأحياء والظواهر المصاحبة له، وعلى الأخذ بأسباب ذلك كله للتعرف على الله والقيام بواجبات الاستخلاف في الأرض.
وعلى ذلك فالتربية في الإسلام يقترن فيها العلم بالإيمان، والمعرفة باليقين، وكلها وسائل للتعرف على الله عز وجل وعلى بديع صنعه في خلقه، حتى يستطيع الإنسان المسلم أن يقوم بواجبات الاستخلاف في الأرض بنجاح، ويحقق رسالته في هذه الحياة على الوجه الأكمل خاصة إذا كان من حملة كتاب الله.
10-التربية فن وعلم تطبيق
إن العلم النافع يصدقه العمل النافع، كما أن الإيمان الصادق مقرون بالعلم الصالح، فلا تكفي عقيدة وعلم مجردان عن العمل النافع الصالح، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع فيقول: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، اللهم إني أعوذ بك من هؤلاء الأربع” (رواه مسلم). “العلم علمان: علم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان، فذلك حجة الله عز وجل على ابن آدم”(رواه الترمذي). ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نظر إلى مصلين فقال: “… ولا يغرّني كثرة رفع أحدكم رأسه وخفضه، ما الدين إلا الورع في دين الله، والكف عن محارم الله، والعمل بحلال الله وحرامه” (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر).
وعليه فإن التربية في الإسلام ليست مجرد كلام يلقَّن، أو نظريات تطرح في معزل عن مجال التطبيق وواقع الحياة، إنما هي ممارسة فعلية تتحد فيها كل الأخلاق والقيم والحكمة التي تقوم عليها، وتتحقق فيها القدوة الحسنة في المربي، والاتباع الفطن في المتربي.
11-التربية ضرورة إنسانية وليست ترفًا فكريًّا
إن التربية في الإسلام ضرورة إنسانية تُقصَد لذاتها، لا للمردود المادي أو الاجتماعي الذي يمكن أن يعود على الإنسان من وراء تحصيلها، وإن كان ذلك في حد ذاته ليس مستنكَرًا؛ لأن الأصل في التربية الإسلامية أن تكون تأهيلاً للفرد لكي يكون قادرا على تنمية نفسه وأسرته ومجتمعه، لا لمجرد الترف الفكري المنفصل عن التطبيق في الحياة، بل من أجل تحقيق الاستخلاف في الأرض القائم على العمل الدؤوب من أجل التنمية الشاملة للفرد وللمجتمع وللحياة. فالإنسان الفرد عمره محدود، وهو محاسَب عن كل مال وصل إلى يديه.. من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ثم إن له بعد هذه الحياة الموت، ومن بعد الموت البعث والحساب، ثم حياة أخرى خالدة يلقى فيها جزاء ما قدمت يداه في هذه الدنيا.
هذه الصورة الإسلامية الصادقة للوجود الإنساني بصفة عامة ولحامل القرآن الكريم بصفة خاصة تجعل له معنى لا يمكن أن يتحقق إذا كانت حياته مقصورة على هذه الدنيا فقط، ولذلك فإن التربية الإسلامية تبعث في الإنسان الضمير الحي الذي يحاسبه دوما قبل أن يحاسَب، ويَزِنُ عليه أعماله قبل أن توزَن عليه في عملية من المراجعة الذاتية الآنية المستمرة التي تعمل على تطهير قلبه وتزكية نفسه، وتدفعه إلى المسارعة في عمل الخيرات باستمرار، في شمولٍ وكمال تعجز كلُّ النُّظُم التربوية الأخرى عن تحقيق شيء منه.
12-فلسفة التربية الإسلامية
هذا التصور الشامل الكامل للإنسان والكون والحياة ولمعنى ألوهية الله، يمثل أساس التربية الإسلامية، فهذا الخالق العظيم متفرد في وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه، بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد، ومنـزه تنـزيهًا كاملاً عن كلٍّ من المادة والطاقة والمكان والزمان… فهذه كلها من صفات المخلوقين. والخالق جلّ في علاه منـزه عن جميع صفات خلقه في ذاته وصفاته وأفعاله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(الشورى:11)، فهو قديم لا أول له، باق لا آخر له، قادر لا حدود لقدرته، عالم لا يخفى شيء عن علمه، عادل لا يفلت ظالم من حكمه، متصرف لا يخرج شيء عن مشيئته، حكيم تتجلى في كل شيء حكمته، رحيم تعمّ الكونَ رحمتُه، ورعايته وعنايته، هو الكبير المتعال الأول والآخر، والظاهر والباطن، سبحانه له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، لا إله إلا هو، ولا معبود سواه.
هذه بإيجاز هي فلسفة التربية الإسلامية، وهي فلسفة تقوم على التصور الإسلامي الصحيح للإنسان ورسالته في هذه الحياة، عبدًا لله، خلقه تعالى لعبادته، واستخلفه في الأرض للقيام على عمارتها، وللعمل على إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وعلى إقامة عدل الله فيها.
وتقوم التربية الإسلامية على أساس من الفهم الصحيح للكون ودلالاته، ولعلاقة الإنسان به، وبخالقهما معًا وهو الله، وهذا كله ينعكس بوضوح في تحديد أهداف التربية الإسلامية، ويتراءى في وسائلها، وفي رسم منهجيتها، وينعكس أجمل ما ينعكس على حامل كتاب الله الذي يجب أن يكون ملمّا بالمعطيات الكلية للمعارف في عصره، ملتزما بتعاليم الكتاب الذي شرّفه الله بحمله، قادرا على الدفاع عنه بلغة العصر وبالحكمة والموعظة الحسنة حتى يفعل ما يحمل في قلبه من أنوار القرآن الكريم، ولا يتم له ذلك إلا لفهم دلالات الآيات القرآنية التي يحملها، وإدراك مختلف جوانب الإعجاز فيها حتى يدرك فضل القرآن الكريم على غيره من الكتب، وفضل الإسلام العظيم على كل ما سواه من معتقدات.
إن استكمال البناء التربوي للمسلم بصفة عامة ولحامل القرآن الكريم بصفة خاصة يقوم على التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والكون والحياة ولمعنى ألوهية الله عز وجل. ويمكن إيجاز ذلك في النقاط التالية:
1-الاستخلاف في الأرض
إن الإنسان هو عبد من عباد الله تعالى خلقه من طين، ونفخ فيه من روحه، وعلمه من علمه، وأمر الملائكة بالسجود له، وكرمه واستخلفه في أرضه، وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلاً. وعلى ذلك فإن القدرة على التعلم واكتساب المعرفة هي صفة أساسية من صفات الإنسان، وضرورة من ضرورات وجوده؛ فهي التي تعينه على فهم رسالته في هذه الحياة، وهي رسالة ذات شقّين: عبادة الله تعالى بما أمر، والقيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة عدل الله عز وجل فيها، وهذا لا يمكن أن يتم بغير علم والتزام. ومن هنا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم.
2-الإنسان كيان روحي
الإنسان جزء من هذا الكون المادي، ولكنه يختلف عن الكون المادي بأنه -بالإضافة إلى جسده المادي- هو كيان روحي عاقل، قادر على التفكير وعلى إدراك ما يفكر فيه، وعلى التعبير عن تفكيره ومشاعره ببيان واضح.
والإنسان يحس في نفسه معاني وقيمًا للأشياء والأفعال تجعله يستطيع إدراك ذاته، وتجسيد تلك الذات تجسيدًا يجعلها متميزة على كل ما سواها من الكائنات الحية الأخرى، رغم ما بينه وبينها من شبه في البناء؛ فهو أعلى المخلوقات مرتبة، وآخرها وجودًا، وعلى ذلك فهو جامع لكل صفاتها، ومتميز عليها بالقدرة والاختيار والتكريم، فهو الكائن الحي العاقل القادر المختار المُكلَّف الذي وصفه خالقه سبحانه وتعالى بقوله العزيز: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70).
على ذلك فالإنسانية في الإنسان ليست بجسده المادي المعقّد، ولا بصفاته التشريحية الخاصة، إنما الإنسانية فيه هي القدرة التي وهبها له خالقه عز وجل على الارتقاء بنفسه إلى الدرجة التي تؤهله لاحتمال تبعات التكليف، وأمانة المسؤولية -خاصة إذا كان من حملة كتاب الله- حتى يصل إلى المقام الخاص به، وهو الاجتهاد في تحقيق الكمال الاختياري الواعي بإرادته وعزيمته وصبره، وبهداية كتاب ربه. وهذا لا يمكن الوصول إليه بغير تربية وبغير علم وفهم وهداية وأخلاق والتزام، وبغير مجاهدة للنفس.
وعلى ذلك فالتربية في الإسلام تربية شاملة لكل مكونات الإنسان، وقدراته ومواهبه، وهي ليست عملية محدّدة بزمان ومكان. وإذا لم يتلقَّ الإنسان قدرًا كافيًا من التربية فإنه قد يستخدم هذه الإرادة الحرة في الخروج عن منهج الله، والإفساد في الأرض.
3-أصالة الخير في الإنسان
إن الخير أصيل في الإنسان، والشر طارئ عليه، وقد وهب الله الإنسان القدرة على التمييز بينهما، والإنسان يولد على الفطرة التي يزكيها حمْل كتاب الله، وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الروم:30).
ثم تتفاعل قابليات الإنسان وميوله وقدراته مع المجتمع الذي يربَّى فيه، فتنمو في الاتجاه الصحيح أو الخاطئ حسب ما يتلقى من توجيه، ومن هنا تتضح أهمية التربية الصالحة، ودورها في توجيه العقل لاستخدام قدراته كلها في الخير وليس في الشر، وهذا هو دور أساسي من أدوار التربية الإسلامية خاصة مع حاملي القرآن الكريم.
4-فطرية القيم عند الإنسان
إن قمّة الخير في الإنسان، ووسيلته إلى إنمائه هي خضوعه بالعبودية لله وحده؛ لأنه إذا لم يخضع بالعبودية لله كان جبارًا عاتيًا في الأرض، يستخدم كل نعمة وهبها إياه الله في الاستعلاء والتجبر والإفساد في الأرض، أو يكون عبدًا لغير الله، وهذه صورة من صور الإذلال الإنساني الذي يتنافي مع تكريم الله لبني آدم؛ ومَن أجدر بتوحيد الله تعالى من حامل كتابه؟!
ومن سمات التوحيد الخالص لله الخالق عز وجل أن يؤمن الإنسان بأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله، ومن ثم فالعبودية لغيره تعالى هي إهدار لكرامة الإنسان، وإذلال لإنسانيته، وهي صورة من صور الشرك الذي حرّمه الله تعالى وجعله المصطفى صلى الله عليه وسلم من الكبائر، ومن السبع الموبقات المهلكات.
فمن الخير الفطري في الإنسان بصفة عامة وفي حامل القرآن بصفة خاصة تلك القيم الكبرى التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، ومنها حب الحق، وحب الخير، وتذوق الجمال الحسي والمعنوي، وهذه في المخلوقات انعكاس لعظمة القدرة المبدعة، ودلالة على الخالق العظيم الذي هو الحق والخير، وهو مسبغ كل صور الجمال على الإطلاق. فالله تعالى هو مصدر كل القيم العليا، وهو سبحانه غايتها.
وواجب التربية الإسلامية أن تحافظ على الفطرة الإنسانية السليمة، وأن تعمل على تنميتها وتزكيتها باستمرار خاصة مع حامل القرآن الكريم؛ فالتعليم بدون تربيةٍ وتزكيةٍ تعليمٌ ناقص، فهذا هو سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء وولده إسماعيل عليهما السلام يدعوان الله لذريتهما من بعدهما فيقولان: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(البقرة:129).
5-التربية الإسلامية والمجتمع الإنساني
إن الإنسان الفرد هو عضو في جماعة تظل تتسع حتى تشمل الإنسانية كلها بما فيها أسرته وأهله، ومجتمعه وبلده وأمته والعالم بأسره. فهو مرتبط بهذه الجماعات كلها بارتباطات شتى، وله عندها حقوق، كما أن عليه تجاهها واجبات، ولا تستقيم الحياة في هذه الدنيا إلا بقيام اتزان دقيق بين حقوق الفرد وواجباته تجاه الجماعة، وهو أمر من صميم العملية التربوية، ومن صميم الإسلام. وهو من الأمور التي لا يُكتَفى فيها بالتلقين، وإنما لا بد لها من أن تغرس في النفوس بالممارسة الفعلية وباتباع القدوة الحسنة، والتزام أوامر الله واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده التي وضعها لعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقات كل منهم بالمجتمع الإنساني كله وعلى اختلاف أبعاده، خاصة إذا كان المربى من حملة القرآن الكريم.
والتربية الإسلامية في ذلك لا يمكن أن تكون عملية إقليمية ضيقة، تحدها حدود الأرض، أو فواصل اللغة، أو اختلاف اللون وتنوع الجنس؛ فهي تسعى إلى بناء الإنسان الصالح لتبني به المجتمع الإنساني الصالح، وهو مجتمع لا بد أن يكون مجتمعًا متعلما متبصرًا، يستشعر الفرد فيه معنى الأخوة الإنسانية، ويعتزّ به، ويصونه ويحافظ عليه. وعلى ذلك فالمساواة في التعليم الإسلامي بين عناصر الجنس البشري كلها أمر واجب لا فرق في ذلك بين أبيض وأسود، ولا بين ذكر وأنثى، فكلهم مطالبون بعبادة الله وتقواه، ولا عبادة بغير علم وهدى والتزام.
6-الاهتمام باختلاف الملكات عند الأفراد
إن الأفراد متفاوتون في قدراتهم وملكاتهم ومواهبهم، وإن كان ذلك بمثابة ابتلاء واختبار إلا أن هذا التفاوت بين الأفراد لا بد وأن يؤخذ بعين الاعتبار في العملية التربوية، فلا يكلف إنسان فوق طاقته. ومن ثم فالتربية في الإسلام تربية فردية، لا تُحدّ في قوالب موحدة جامدة تفقدها طبيعتها الإنسانية، بل تتركها لحسن تقدير المربِّي وقدرته على توجيه الملكات الخاصة لكل طالب، وعلى حسن قبول الطالب لتوجيه مربيه لما يربطهما من صلة نورانية أساسها خشية الله تعالى والعمل على مرضاته، وما أجمل ذلك في حلقات تعلم كتاب الله!
7-تكامل المعرفة التربوية
إن مصادر المعرفة الإنسانية في الإسلام هي الوحي السماوي المُنـزَّل، والمعارف والتقنيات المكتسبة، والتراث البشري الموروث في هذين المجالين. وعليه فإن التربية الإسلامية لا بد أن تستمد منهجها ومحتواها من كلٍّ من وحي السماء وميراث المعارف والتقنيات المكتسبة، فإهمال أيٍّ منهما لا يمكن أن يؤدي إلى معرفة متكاملة نافعة أو إلى تربية سليمة، ومن هنا كانت ضرورة إلمام حافظ القرآن الكريم بالمعطيات الكلية للعلوم حتى لا ينعزل عن عصره.
8-الوحي الإلهي وآثاره التربوية
إن وسيلة الإنسان إلى العلم السماوي هي وحي السماء المُنـزَّل على عدد من الرسل والأنبياء، والذي تَجمَّع واكتمل وحفظ في الرسالة الخاتمة المتمثلة في القرآن الكريم وفي سنة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم. وقد تعهد ربنا تبارك وتعالى بحفظهما، فحُفظا حفظًا كاملاً في نفس لغة الوحي بهما (اللغة العربية) على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية، وتعهّد تعالى بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقيا حجة على الناس كافة إلى قيام الساعة، وهنا يتضح فضل حامل القرآن الكريم.
وعلى ذلك فإيمان الإنسان برسالة السماء هو ضرورة من ضرورات علمه، بل من ضرورات وجوده؛
أ- فهو من ضرورات علمه لأن العلم الذي لا يستطيع أن يجيب على تساؤلات أساسية في حياة الإنسان -مثل من هو؟ من الذي خلَقه وأرسله إلى هذه الحياة؟ وما هي رسالته فيها؟ وكيف يمكن له أن يحقق تلك الرسالة على الوجه الأمثل؟ وما مصيره بعد هذه الحياة؟- هو علم ناقص حتى ولو وصل بالإنسان على القمر، وجاب به في الفضاء، وفجَّر له أسرار الذرة، وسخَّر له مختلف طاقاتها.
بـ- والإيمان بوحي السماء هو من ضرورات وجود الإنسان لأنه لا يستطيع أن يضع لنفسه نظامًا شاملاً كاملاً ينظم حياته وعلاقاته أفرادًا وجماعات، ودولاً وأممًا، ومجتمعًا إنسانيًّا واحدًا على أساس من الحق والعدل، دون ميل شخصي، أو هوى نفسي مهما أوتي الإنسان من أسباب الذكاء والفطنة؛ وذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يحدد تفاصيل رسالته في هذه الحياة، ولا أن يدرك مصيره من بعدها بعقله منفردًا. ومن هنا كانت ضرورة رسالة السماء ليهتدي بهديها الإنسان في القضايا التي لا يستطيع أن يصل فيها بجهده إلى أية تصورات صحيحة. ولذلك بعث الله الرسل والأنبياء بدينه الحق، وطالب الناس بالإيمان بهذا الدين الحق وإقامة حكم الله في الأرض على أساس منه.
وآخر الرسالات السماوية هي رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله تعالى خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل أعظم معجزاته القرآن الكريم، وتعهد بحفظه فبقي سليمًا من الضياع ومن التحريف والتبديل. ومن هنا فإن التربية في الإسلام تقوم على أساس من القرآن وهديه، وتعاليم رسولنا الكريم وسنته، وربط ذلك بواقع الأمة في كل زمان ومكان، ومن أجدر بذلك من حامل القرآن!
وعلى ذلك فإن اهتمام السلف الصالح من المسلمين بتحفيظ أبنائهم وبناتهم القرآن الكريم في سن مبكرة كان عملاً أساسيًّا في تربيتهم، به تكونت عقيدتهم وأخلاقهم، وانضبط سلوكهم ومعاملاتهم، وعمُق إيمانهم وصلتهم بخالقهم، وزاد فهمهم لرسالتهم، وسادوا الدنيا بهذا الفهم وملَؤوها علمًا وعدلاً ورحمة وإنسانية، وبه تمكّنوا من لغتهم، وحفظوا رسالة ربهم، ولا يزال ذلك هو الأسلوب الأمثل في تربية المسلم على الرغم من الاعتراضات التي وُجِّهت -ولا تزال توجه من أعداء الإسلام وأبواقهم- إلى ذلك النهج في تربية الصغار؛ وذلك لأن حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة تتميز فيها الذاكرة بصفائها هي عملية سهلة ميسرة. والقرآن -بالإضافة إلى كونه ذخيرة علمية ودينية ولغوية وتربوية وأخلاقية وسلوكية- هامّة لحامله حتى ولو لم يعِ ذلك وعيا كاملا في سن مبكرة، فإنه ينمو -بالقطع- مع نموه العقلي والجسدي، ويبقى ذخيرة له في دنياه كما هو ذخيرة له في آخرته. فالتربويّون اليوم يجمعون على أن للمفردات والتراكيب الجميلة التي يحفظها الطفل في صغره صلة كبرى بنمو الطفل العقلي والفكري، والأخلاقي والسلوكي بنموّ قدراته على البيان. وهل هناك أبلغ من بيان الله في القرآن الكريم؟!
9-العلم والحكمة في الممارسة التربوية
إن العلوم الكونية في منهج التربية الإسلامية شيء أساسي، ولكن العلم بها ليس علمًا ماديًّا مجردًا عن الحكمة، فتعرّف الإنسان على الكون ضرورة من ضرورات وجوده؛ لأنه بذلك يتعرف على الظواهر الطبيعية والسنن التي تحكمها، ويضع الفروضَ والنظريات اللازمة لذلك، ويستنتج القوانين للمطرد منها. ونتاج ذلك تعرّفُ الإنسان على مصادر الخير المادي في هذه الحياة، فيستفيد بها وينمّيها بسد حاجاته وحاجات بني جنسه، وتعرّفه على شيء من قوانين الكون وسننه مما يعينه على تسخيرها في عمران الحياة على الأرض والقيام بواجبات الاستخلاف فيها، وهذا مجال العلوم البحتة والتطبيقية أو ما يسمى بالعلوم الكونية، والتي يجب على حامل القرآن الكريم أن يلم بشيء من المعطيات الكلية لها.
وهذه العلوم في التربية الإسلامية ليست فقط حقائق وأرقامًا، ومعادلات مجردة من الحكمة، فإن دلالتها المعنوية أكبر منها. ومن هنا كان لزامًا على المسلم أن ينظر في كل شيء وفي كل أمر بعين الاعتبار، وهو حاضر القلب، متفتح الحواس، جاد في محاولة الوصول إلى المعرفة، وإلا أتت معرفته معرفة حسية فقط، معرفة بمادة الأشياء، وهو أقل ما يمكن للإنسان أن يدرك منها؛ فالمسلم حين ينظر في الكون متأملاً دارسًا متفكرًا يدرك أن الكون بكل ما فيه ومن فيه خلق بالحق، ولأجَل مسمى، وأن لكل شيء طبيعته الخاصة، وقوانينه الثابتة، ووظيفته المحددة وغايته المرسومة، وأن الكون لم يخلق عَبَثًا. وكذلك يجب أن تكون حياة الإنسان نظامًا ودقة وعملاً وفهمًا ينسجم مع قوانين الكون وسننه، وإلا أتت حياة الإنسان شاذة عنها، خارجة عليها، متعارضة معها.
والكون للمسلم هو كتاب الله المنظور، يرى فيه عظمة الخلق، ودقة البناء، وانتظام الحركة، وإتقان الصنعة، فيدرك من ذلك جانبًا من صفات خالقه العظيم، ويتعلم عددًا من الشروط الواجبة للنجاح في هذه الحياة، ويرى في الكون وحدة في البناء تنطق بوحدانية الخالق العظيم، ويرى فيه أنه مستحدث فانٍ، كانت له في الأصل بداية بدأها الخالق البارئ المصوّر ويحاول العلماء حسابها، وسوف تكون له في يوم من الأيام نهاية هي بيد الخالق عز وجل وحده، ويرى الإنسان من كل ذلك أنه في كل لحظة من لحظات وجوده هو محتاج إلى رحمة الله ورعايته، وإلا هلك وهلك كل ما في الكون ومن فيه.
ويؤكد لنا ربنا عز وجل أن وجود الإنسان في هذه الحياة هو لغاية محددة، فيقول عز من قائل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56). ويوضح ربنا جلّت قدرته أن هذه العبادة ليست مقصورة على طقوس دينية محددة، بل إن الاجتهاد في عمران الحياة على الأرض عبادة، وطلب العلم عبادة، والعدل بين الناس عبادة، والسعي في مصالح الخلق عبادة، فيقول عز وجل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(التوبة:105).
والمعرفة في التربية الإسلامية لا تنفصل عن الحكمة فهُمَا من وسائل الإيمان الراسخ. والإيمان الراسخ يصدقه العمل الصالح، ولذلك قرن ربنا عز وجل الإيمان دوما بالعمل الصالح في محكم كتابه فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وكلٌّ من الإيمان الصادق والعمل الصالح يؤدي إلى التزكية المستمرة للنفس الإنسانية حتى تصبح نفسًا مطمئنة، وكلها من وسائل التربية الإسلامية. ومع إيمان هذه التربية الإسلامية بالتخصص الدقيق، ويقينها من فوائده، فإنها لا تعرف فصلاً متكلّفًا بين معرفةٍ بالله ومعرفة بما خلق الله، أو بين دراسات دينية منعزلة انعزالاً كاملاً عن المعطيات الكلية للعلوم، أو معارف كونية منفصلة عن وحي السماء، أو بين علوم بحتة وتطبيقية منعزلة انعزالاً تامًّا عن بقية المعارف الإنسانية. فالمعارف كلها في التربية الإسلامية تلتقي على غاية واحدة هي معرفة الله تعالى وعبادته بما أمر، وحين القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض. ومصدرُها في هذه المعرفة هو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومجالُها الكون كله، والإنسان بمختلف أبعاده، والحياة بكل أشكالها وألوانها ومستلزماتها، ومنطلقُها ذلك التصور الإسلامي الصحيح عن الإنسان والكون والحياة وعن معنى “لا إله إلا الله”. ويتضح ذلك أكثر ما يتضح في الدراسات الكونية. ولذا فإننا نجد القرآن الكريم -ومنذ أربعة عشر قرنًا- يحضّ الناس حضًّا على الاهتمام بالنظر في الكون وفي كل مكوناته وأجزائه، وما به من مختلف صور المادة والطاقة والأحياء والظواهر المصاحبة له، وعلى الأخذ بأسباب ذلك كله للتعرف على الله والقيام بواجبات الاستخلاف في الأرض.
وعلى ذلك فالتربية في الإسلام يقترن فيها العلم بالإيمان، والمعرفة باليقين، وكلها وسائل للتعرف على الله عز وجل وعلى بديع صنعه في خلقه، حتى يستطيع الإنسان المسلم أن يقوم بواجبات الاستخلاف في الأرض بنجاح، ويحقق رسالته في هذه الحياة على الوجه الأكمل خاصة إذا كان من حملة كتاب الله.
10-التربية فن وعلم تطبيق
إن العلم النافع يصدقه العمل النافع، كما أن الإيمان الصادق مقرون بالعلم الصالح، فلا تكفي عقيدة وعلم مجردان عن العمل النافع الصالح، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع فيقول: “اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، اللهم إني أعوذ بك من هؤلاء الأربع” (رواه مسلم). “العلم علمان: علم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان، فذلك حجة الله عز وجل على ابن آدم”(رواه الترمذي). ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نظر إلى مصلين فقال: “… ولا يغرّني كثرة رفع أحدكم رأسه وخفضه، ما الدين إلا الورع في دين الله، والكف عن محارم الله، والعمل بحلال الله وحرامه” (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر).
وعليه فإن التربية في الإسلام ليست مجرد كلام يلقَّن، أو نظريات تطرح في معزل عن مجال التطبيق وواقع الحياة، إنما هي ممارسة فعلية تتحد فيها كل الأخلاق والقيم والحكمة التي تقوم عليها، وتتحقق فيها القدوة الحسنة في المربي، والاتباع الفطن في المتربي.
11-التربية ضرورة إنسانية وليست ترفًا فكريًّا
إن التربية في الإسلام ضرورة إنسانية تُقصَد لذاتها، لا للمردود المادي أو الاجتماعي الذي يمكن أن يعود على الإنسان من وراء تحصيلها، وإن كان ذلك في حد ذاته ليس مستنكَرًا؛ لأن الأصل في التربية الإسلامية أن تكون تأهيلاً للفرد لكي يكون قادرا على تنمية نفسه وأسرته ومجتمعه، لا لمجرد الترف الفكري المنفصل عن التطبيق في الحياة، بل من أجل تحقيق الاستخلاف في الأرض القائم على العمل الدؤوب من أجل التنمية الشاملة للفرد وللمجتمع وللحياة. فالإنسان الفرد عمره محدود، وهو محاسَب عن كل مال وصل إلى يديه.. من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ثم إن له بعد هذه الحياة الموت، ومن بعد الموت البعث والحساب، ثم حياة أخرى خالدة يلقى فيها جزاء ما قدمت يداه في هذه الدنيا.
هذه الصورة الإسلامية الصادقة للوجود الإنساني بصفة عامة ولحامل القرآن الكريم بصفة خاصة تجعل له معنى لا يمكن أن يتحقق إذا كانت حياته مقصورة على هذه الدنيا فقط، ولذلك فإن التربية الإسلامية تبعث في الإنسان الضمير الحي الذي يحاسبه دوما قبل أن يحاسَب، ويَزِنُ عليه أعماله قبل أن توزَن عليه في عملية من المراجعة الذاتية الآنية المستمرة التي تعمل على تطهير قلبه وتزكية نفسه، وتدفعه إلى المسارعة في عمل الخيرات باستمرار، في شمولٍ وكمال تعجز كلُّ النُّظُم التربوية الأخرى عن تحقيق شيء منه.
12-فلسفة التربية الإسلامية
هذا التصور الشامل الكامل للإنسان والكون والحياة ولمعنى ألوهية الله، يمثل أساس التربية الإسلامية، فهذا الخالق العظيم متفرد في وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه، بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد، ومنـزه تنـزيهًا كاملاً عن كلٍّ من المادة والطاقة والمكان والزمان… فهذه كلها من صفات المخلوقين. والخالق جلّ في علاه منـزه عن جميع صفات خلقه في ذاته وصفاته وأفعاله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(الشورى:11)، فهو قديم لا أول له، باق لا آخر له، قادر لا حدود لقدرته، عالم لا يخفى شيء عن علمه، عادل لا يفلت ظالم من حكمه، متصرف لا يخرج شيء عن مشيئته، حكيم تتجلى في كل شيء حكمته، رحيم تعمّ الكونَ رحمتُه، ورعايته وعنايته، هو الكبير المتعال الأول والآخر، والظاهر والباطن، سبحانه له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، لا إله إلا هو، ولا معبود سواه.
هذه بإيجاز هي فلسفة التربية الإسلامية، وهي فلسفة تقوم على التصور الإسلامي الصحيح للإنسان ورسالته في هذه الحياة، عبدًا لله، خلقه تعالى لعبادته، واستخلفه في الأرض للقيام على عمارتها، وللعمل على إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وعلى إقامة عدل الله فيها.
وتقوم التربية الإسلامية على أساس من الفهم الصحيح للكون ودلالاته، ولعلاقة الإنسان به، وبخالقهما معًا وهو الله، وهذا كله ينعكس بوضوح في تحديد أهداف التربية الإسلامية، ويتراءى في وسائلها، وفي رسم منهجيتها، وينعكس أجمل ما ينعكس على حامل كتاب الله الذي يجب أن يكون ملمّا بالمعطيات الكلية للمعارف في عصره، ملتزما بتعاليم الكتاب الذي شرّفه الله بحمله، قادرا على الدفاع عنه بلغة العصر وبالحكمة والموعظة الحسنة حتى يفعل ما يحمل في قلبه من أنوار القرآن الكريم، ولا يتم له ذلك إلا لفهم دلالات الآيات القرآنية التي يحملها، وإدراك مختلف جوانب الإعجاز فيها حتى يدرك فضل القرآن الكريم على غيره من الكتب، وفضل الإسلام العظيم على كل ما سواه من معتقدات.