يبقى الفكر الرفيع حبيساً في ذهن صاحبه لا يثير الانتباه، ولا يجلب الأنظار ما لم يتحول إلى لهب ترتفع ألسنته إلى عنان السماء، مخترقةً سود الليالي ومشعلةً النار في هشيم الظلمات. وهنا ينتبه إليه الناس، ويقبلون عليه، ويقبسون منه، ويأخذون عنه، ويسضيئون به، ويتدافعون لحمل تبعاته، ونشر أفكاره، ويمتلئون حماسة بالانتصار له والدفاع عنه والعيش من أجله.
فالعيش في هذا الفكر الملتهب، والعيش من أجله ولأجله، يحتاج كذلك إلى رجال من ذوي الإرادات الملتهبة، والوجدانات المشتعلة، والنفوس الفوَّارة، والعقول الوثَّابة، والإدراكات العالية، والفهوم الفطنة الذين إذا مشوا تواثبوا، يسابقون الزمن، ويختصرون المسافات، لا يتعبون ولا يَمَلُّون، ولا يركنون لراحةٍ، ولا ينعمون بدفء فراش أو ملازمة زوجة وأولاد… شعارهم “خَلُّوا سبيلنا ودعونا نضرب في أرض الله”… يكسرون العادات ويخترقون المألوفات ويلوون رقاب الأيام إلى حيث يريدون.
إن نار الوجد الإلهي تحرق أفئدتهم وتأكل أكبادهم، فيلوبون من لواعج ما يجدون فلا يستقربهم مقام ولا يأنسون بحال. إنهم حراك يتدفق، وعمل دؤوب تنتهي الأزمان ولا ينتهي لهم في كل يوم شأن… يأخذون بأيدي المنهزمين، ويجبرون كسر المنكسرين، ويُنهضون المنسحقين، ويزرعون الأمل في اليائسين، ويُطلِعُونَ شمس الهدى في ظلماء التائهين…
إنهم جنود القدر وأنصاره، يستخدمهم في رسم خطاه، وإنفاذ أمره، وتحقيق غاياته، وإشعال العزائم، وإتيان الخوارق، وتخطي العوائق، والجري وراء الآتي من الزمن، والقادم من المستقبل… لا تستنفدهم آلام اليوم، ولا توهن عزائمهم فواجع الحاضر… فلهم من الإيمان واليقين ما يجعلهم يمشون فوق الآلام، ويتخطون جسور الأوجاع إلى الهدف المنشود والغاية المبتغاة… إنهم يشكلون ضمير العالم كما ينبغي أن يكون، وعقل الخليقة التي تريد الحصانة من الجنون… إنهم درجات متحركة في سلم الوجود لمن يريد الصعود، وشعل محبّة توقد مجامر الخلود في الإنسان الموعود…
ولعل هؤلاء الذين استعرضنا بعض ملامحهم في السطور السالفة هم “المجانين” الذين عناهم الأستاذ “فتح الله كولن” متضرعاً إلى الله تعالى أن يمنحه قلة منهم يجدون في بطولة السموّ واحداً من مطامحهم العالية، ثم لا يكفُّون عن ملاحقة قلوبهم الفتية المتفلتة من أقفاصها نحو ذرى العظمة الإيمانية من خلال الفكر الذي يمتثلون ويجهدون لجعله تاجاً يزين هامة البشرية التي تآكلت تيجانها منذ زمن بعيد.
إن شعور أجيالنا الطالعة بالانهزام العقلي يشكل اليوم واحداً من إحباطاتنا التي تشلُّ قدراتنا العقلية، وتعيقها عن النهوض من جديد لتجديد نفسها وتنشيط قواها، أما روحنا فقد أصابه المرض، وركبته العلل، وأوهنته الهبوطات والسفليات والعمى عن “الماورائيات”، ولقد أفرغتنا الأيام من جوهر وجودنا الاستثنائي بين الوجود… إننا ندرك اليوم كم كان شقاؤنا مريعاً عندما عشنا وكأننا بلا ربّ يربينا وبلا إله يراعينا، فغدت حياتنا تعباً مُمِلاً ومتاهات محيرة.
إن خمود الاستعلاء الإنساني في الإنسان المؤمن، وانسحاق روحه تحت أثقال المشاغل الدنيوية، وتشتت ذاته بين مختلف الاتجاهات، هو واحد من أسباب الضعف الروحي والفكري الذي نعاني منه جميعاً، حتى غدا التعبير عن ذواتنا فنياً فيه من الضحالة والسطحية ما جعلنا نبدو أمام الآخرين وكأنّنا عراة من أية أعماق فكرية أو روحية، وغدونا أشدّ ما نكون افتقاراً إلى دروس في الروحانية العالية، والفكر الأعماقي الذي يتحفنا به بين آونة وأخرى الأستاذ “فتح الله كولن” في كتبه ومقالاته وأحاديثه.
لقد بلغ بنا الهزال الروحي والفكري إلى الحد الذي جعل الآخرين ينظرون إلينا وكأننا قوارير عتيقة سرعان ما تتفتت في الأيدي عند أخف الضغوط.
فأعمال “كولن” الفكرية إنما هي مناخات عقلية ووجدانية تساعدنا على أن نتنفس حتى أعماق رئاتنا صفاء الأفكار ونقاءها وعظمتها، فنتحول بهذا الفكر إلى كيانات متماسكة من الإيمان والمعرفة صعبة الاختراق والتفتت.
إن مما يجلب الانتباه في هذا الفكر الملتهب عند “كولن”، أنّ أفكاره إنما هي شرح وتفسير لأعماله، وأعماله إنما هي أفكار مطبقة أو هي في سبيلها إلى التطبيق.
ومما يثير الانتباه في هذا الفكر كذلك قدرته الفذّة على مغالبة اليأس وابتعاث الرجاء من مكامنه حيث يضيع كل رجاء… إنه فكر تجددي ولكنه غير استجدائي، اكتفائي غير افتقاري، تراثي وحداثي في الوقت نفسه، ماضوي ومستقبلي، محلي وعالمي، كوني السعة، إنساني النظر، عولمي الامتداد، يعتمد الحوار، ويتقبل الآخر، ويدعو إلى السلام.