عندما بلغ ذو القرنين بين السدين ﴿وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾(الكهف:93)، لقد عرضوا عليه صفقة ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾(الكهف:94)، عرضوا عليه صفقة للقيام بعمل معين لقاء أجر دون أي مشاركة منهم. فما كان جوابه عليهم؟ لقد نحى موضوع الصفقة جانبًا وقرر أن ينطلق من مُكْنَتِهِ هو: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾(الكهف:95)، أي مما يستطيعه هو كفرد مع نسبة الفضل فيما يستطيعه إلى الله جل جلاله كما لو كان يستشرف المشيئة الإلهية كي يعمل في ظلها.
المهم هنا، كيف تعامل ذو القرنين مع هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولاً؟ أبسط ما يمكن أن يقال عنهم، إنهم أميّون أو جهلاء أو عديموا القدرة على الفهم. لقد قال لهم: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾(الكهف:95)، أي أنه -بعد تنحيته الصفقة معهم جانبًا- استنفر قوتهم وجعل إعانتهم له شرطًا لعمله معهم: ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾(الكهف:95)، ثم عاد وطلب منهم إحضار خام محلي لديهم: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾(الكهف:96)، ثم طلب منهم المساعدة في صهر الحديد: ﴿قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾(الكهف:96)، ثم عاد فطلب خامًا آخر وهو النحاس ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾(الكهف:96)، ليصنع سبيكة من الحديد والنحاس، أي إن ذا القرنين استطاع أن يطلق طاقاتهم وقدراتهم الكامنة التي لم تكن ظاهرة في البداية: ﴿لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾(الكهف:93). وهذا هو جوهر التنمية الذاتية؛ إطلاق الطاقات واستخدام الموارد المتاحة محليًّا، لإيجاد حل مناسب لمشكلة أو تحدٍّ واجها المجتمع المحلي.
التنمية الذاتية
هي عملية التحول المستمرة للمجتمع المحلي، التي تؤدي إلى إطلاق الطاقات الكامنة فيه، والتي تنمي قدراته على التجدد الذاتي والنهضة، والتي تمكنه بالتالي من التعبير عن هويته وقيمه الحضارية المميزة، والتنمية الذاتية قد تبدأ بعوامل مساعدة من خارج المجتمع المحلي، أو تكون نابعة بالكامل من داخله. هي دعوة لمشاركة عامة الناس في التنمية، وإطلاق طاقاتهم الخلاقة وقدراتهم على التفكير والخيال والتعاون والعمل، مما يفتح المجال للإبداع المحلي في كل المجالات الفعالية الإنسانية والنهوض الحضاري في كل مكان. هي دعوة لتخطيط يبدأ بإعطاء دور رئيسي لمشاركة عامة الناس وتوظيف طاقاتهم الخلاقة في التنمية، مما يمكن أن يفضي إلى نموذج جديد للتحديث؛ قائم على الإبداع المحلي والاعتماد على الذات.
وتنطلق التنمية الذاتية من النظرة المتعاطفة والمنصفة للناس، والثقة فيهم والرهان على كل ما هو إيجابي في نفوسهم، ومن الاعتماد على النسيج الاجتماعي الحضاري الحي للمجتمع المحلي، ومن النظرة إلى المجتمع المحلي باعتباره كائنًا حيًّا قادرًا على الفعل والحركة، وحاملاً لمقومات نموه ذاتيًّا وذي هوية متفردة، وملامح وقسمات تهبه طابعًا خاصًّا وتميزه عن غيره من المجتمعات المحلية.
وعلى مستوى الفرد تنطلق التنمية الذاتية من النظر لكل إنسان باعتباره معجزة في ذاته، وأن لديه إمكانات كامنة للفعل والإبداع تميزه عن غيره من بني البشر. وتتيح التنمية الذاتية -على مستوى الفرد أيضًا- الفرصة للتفاعل النفسي/الاجتماعي في حدود طاقة الفرد على التواصل والتفاعل والعمل والمشاركة الإيجابية في مجتمعه المحلي، وكذلك في حدود قدرته على أن يرى ويلمس ويدرك ناتج تفاعله وعمله، أي إن دائرة النية والعمل ورؤية ناتج العمل، تنغلق على مستوى المجتمع المحلي، فيستطيع الفرد بالتالي أن يصحح رؤيته ويعدل مسار عمله ويعيد الاختيار، فيدخل في دائرة تفاعل جديدة وهكذا، ألا يعد ذلك مجالاً لتغيير النفس.
ومن زاوية التدخل كعامل مساعد، تعني التنمية الذاتية السعي لإزالة عمي القلوب والعقول والأبصار، والسعي للخروج بالناس من حالة الغيبوبة والعجز والسلبية وانتظار الحلول الجاهزة، إلى المشاركة الفعالة في صنع واقعهم واستعادة دورهم كفاعلين ومعاصرين في سياق مجتمعاتهم المحلية. كما تعني التنمية الذاتية السعي لصناعة المناخ الذي يساعد وييسر على كل إنسان اكتشاف أو إعادة اكتشاف ذاته في سياقات واقعية متزايدة الاتساع، تبدأ من أصغر وحدة اجتماعية ينتمي إليها فالمجتمع المحلي فالقومي فالإقليمي فالعالم أجمع.
ويبدأ تفعيل التنمية الذاتية بفهم السياق العام للمجتمع المحلي وما يحوزه من إمكانات ذاتية، سواء كانت قيمًا إيجابية دافعة للعمل والإبداع، أو شبكات علاقات اجتماعية فاعلة، أو أشكال من التنظيم الجماعي المحلي، أو معارف واسعة يحوزها الناس عن المحيط الحيوي وعن الموارد المحلية، أو التراث التقني (المعارف والمهارات والقدرات التقنية) والذي هو حصيلة تفاعل أبناء المجتمع المحلي مع البيئة المحيطة عبر آلاف السنين من أجل إشباع حاجاتهم الأساسية، كما تضم الإمكانات الذاتية الخامات والموارد المحلية.
وتعني التنمية الذاتية الاعتراف بالتنوع في الظروف الأيكولوجية، والخبرات التاريخية، والبنى الاجتماعية والاستفادة منه؛ أولاً في اكتشاف الميزات النسبية والتنافسية التي يتميز بها كل مجتمع محلي كمنطلق لإقامة أنشطة اقتصادية ناجحة. وثانيًا في إثراء التجربة التنموية على المستوى القومي والإقليمي والعالمي.
كذلك تعني التنمية الذاتية، إنصاف العديد من عناصر الطابع المحلي في المسكن والملبس والأثاث والمأكل والأنشطة الاقتصادية… إلخ. ولا يعني ذلك تجميد هذه العناصر على صورتها الراهنة، فالعديد من عناصر الطابع المحلي يمكن أن تحمل صفتي الثبات والتغير في نفس الوقت. فالبناء بالطين -مثلاً- فكرة، لكن هناك بدائل عديدة من المواد (الطين والطفلات… إلخ) والتقنيات وكذلك التصميمات. الأهم هو اكتشاف الشفرة والتعبيرية الحضارية الكامنة خلف الطابع المحلي، مما يعطي اتجاهات متميزة للتفكير والخيال والإبداع المرتكز على خصائص البيئة المحلية والخصوصية الحضارية للمجتمعات المحلية.
ما الذي تعنيه التنمية الذاتية بأعم وأوسع معانيها؟ إنها تعني استعادة الناس -عموم الناس- للمبادرة وحقهم في الاختيار؛ اختيار أهداف الحياة ومعنى التقدم ومضمونه وحقهم في المشاركة في التنمية وفي بناء مستقبل المجتمع/الأمة. كذلك تعني التنمية الذاتية تمكين أبناء المجتمعات المحلية تنظيميًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا كي يكونوا منتجين ومبدعين، كما تعني التنمية الذاتية التخلي عن صيغة “التحديث” الجاهزة والمرتبطة بالتلقي السلبي، لثمرات إبداع وعمل الآخرين في صورة سلع وأساليب جاهزة للحياة والاستهلاك والإنتاج، مما يؤدي إلى خمود القدرات الإبداعية الذاتية.