وعلى الرغم من كون هذا المؤتمر -كما جاء في بيانه الختامي- قد تنبأ بـ”انبجاس جامعة عالمية في المثل والقيم والتطلعات” كإطار ثقافي عالمي يواكب التواصل الحضاري العالمي، إلا أن البيان المذكور أكد على مواصفات لهذا الإطار بما لا يمكن أن يتحقق في أي ثقافة عرفها التاريخ البشري إلا من خلال الثقافة الإسلامية طال الزمن أم قصر، وذلك لما تمتلكه هذه الثقافة من أصالة، ولما تتصف به من شمولٍ وعالمية ورعاية للنزعة الإنسانية الحضارية التي نظَّر لها ذلك المؤتمر.
ولئلا يوحي هذا القول بالتعارض مع المقدمات السابقة وما تدل عليه من تمايز الثقافات وتقبل هذا التمايز واحترامه وتقديره، أقول إن هذا التعارض المتوهم مدفوع بالحقيقتين الآتيتين:
الحقيقة الأولى: كون الثقافة الإسلامية هي الثقافة الرائدة في مضمار التجربة التاريخية، فقد نجحت في التسامح مع جميع الثقافات والتعايش السلمي معها، بل هي الثقافة الإيجابية في علاقاتها مع الشعوب والأمم؛ انفتاحًا عليها وإفادة منها، وبالمقابل فقد مدَّت جسورها لسائر الثقافات، وكانت بمثابة المدرسة التي تخرجت فيها النماذج الثقافية المبدعة.
الحقيقة الثانية: كون الثقافة الغربية التي شقت طريقها نحو العالمية بعوامل ذاتية من جهة وبجهود موجهة من جهة أخرى، تتحول باستمرار نحو الحقائق الإيمانية التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية ابتداءً ولها السبق إليها -أعني الثقافة الإسلامية- وكون الثقافة الغربية من جهةٍ أخرى تقترب شيئًا فشيئًا من مناهج الثقافة الإسلامية في كثير من قضايا الوجود والكون والتاريخ، فهي بعبارة مختصرة كما ذكر مؤلفا كتاب “العلم من منظوره الجديد”: “بصدد تحول كلّي في عناصرها المختلفة”.
وذلك لأسباب عدة من أهمها كما ذكرا فيه أيضًا: “تراكم الخبرة الإنسانية، والبحث عن الأفضل لدى الإنسان الغربي”، مما يدل على أنها تسير نحو الاعتدال في رؤيتها الشاملة… والأمثلة على ذلك من الكثرة بمكان، بيد أنني أختصرها في الأمثلة الآتية:
أولاً: العودة بها إلى الإيمان بوجود إله واحد.
ثانيًا: التأكيد على الجانب الروحي من الإنسان وأن حياته الروحية والخلقية هي حقائق تمامًا كحياته “البيولوجية”.
ثالثًا: إدراك حقيقة أن العلم ليس محصورًا بالطبيعة مجالاً، ولا بالمنهج التجريبي طريقًا.
رابعًا: تقلص النفور والعبثية من علم النفس والكونيات والاستعاضة عنها؛ بالغائية، وبالله، وبالجمال، وبالعناصر الروحية، وبكرامة الإنسان.
خامسًا: بروز المشاعر الإنسانية النبيلة، كما في تقديم الخدمات الإنسانية في مجالات التغذية، ومقاومة المجاعات، والعناية بالطفولة والأمومة ونحو ذلك، مما يعد في الحقيقة والنظرة المتجردة المنصفة، من أبجديات الثقافة الإسلامية ومن مقوماتها وخصائصها قبل أن تتشكل هذه الرؤية الإيجابية في الثقافة الغربية بقرون عدة، بل إن الثقافة الغربية على الرغم من هذه التحولات الجوهرية والإيجابية، لم تتحرر بالقدر الكافي من عقدة الاستعلاء في علاقاتها بالثقافات الأخرى وبخاصة الثقافة الإسلامية، بل لا زالت تتسم معها -بشكل أو آخر- بطابع النرجسية وعدم الاعتراف بفضلها إلا ما ندر.
إن حقًّا على المسلمين أفرادًا وشعوبًا وأمة، التشبث بثقافتهم الإسلامية الأصيلة، فهي سفينة نجاتهم -بإذن الله- تعبر بهويتهم وذاتيتهم إلى بر الأمان وشواطئ النجاة في عصرٍ يتواصل فيه العالم بوسائط تحمل الغث والسمين، والطيب والخبيث، والنافع والضار.