الترجمة مؤشر على ارتفاع منسوب الفكر والمعرفة عند أمة (مترجَم لها) وانكسار أخرى (مترجم إليها)، ليروي بذلك تاريخ الترجمة قصة التدافع الحضاري بين بني الإنسان؛ أمةٍ تعيش ذروة الحضارة وتؤذن بما بعدها (ما بعد الحضارة)، أنتجت علمًا ومعرفة وخبرة… وأمةٍ أخرى تعصرها أزمةٌ معرفية؛ أفاقت للتو من دُوار حضاري، وانتكاس نفسي، تعيش ملامح “ما قبل الحضارة”، فانكبّت بين أقدام المنتصر متتلمذة ناقلةً المعارف، علّها تكون محرّك الانطلاق، ووقود الانعتاق من جاذبية التخلف والجهل والاسترخاء الحضاري.
إنها شريحة زمنية تتآلف مشاهدها كلما ازددت استكشافًا لأغوار الماضي سابحًا سائحًا، ابتداء من الحضارة الصينية الشرقية إلى الإغريقية الغربية، ومن ثم إلى الحضارة الإسلامية في محطّاتها التاريخية المختلفة معلِّمة حينًا ومتتلمذة حينًا آخر، لتجد نفسك بين يدي “هارون الرشيد” (786-809م)، و”المأمون” (813-833م) من بعده، وهما يؤسسان لجهود الترجمة من الفكر اليوناني إلى اللغة العربية(1) من خلال ترجمة فنون وصنوف شتى، ابتداء من كتاب “الأخلاق الكبرى” لأفلاطون، وكتاب “مواضع الجدل” (Topique) لأرسطو، إلى كتابات بطليموس بعنوان “تيترابيبلوس” (Tetrabiblos)… هذا الحراك المعرفي خوّل رجلاً اسمه “الخوارزمي” من بعدُ، نسْجَ أول كتاب في “الجبر والمقابلة”. وتقف بك عجلة الزمن فجأة عند “الرجل الغربي” وهو يسابق الدقائق والثواني في ترجمة ما انتهت إليه حضارة المسلمين في “بلاد الأندلس” يوم سقطت “غرناطة” سنة 1422م، حين آذنت كلمات “أم المعتمد” بانحدار “حضارة الأندلس” قائلة لابنها الخليفة “أبي عبد الله الصغير” حين أضاع الملك: “ابك كالنساء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال”. إنه تاريخ الترجمة الذي يروي قصة رِيّ بعد عَيّ، وفيض بعد غيض.
… محفوفة بالمخاطر
مهمة الترجمة الفكرية محفوفة بالمخاطر، ومُحاطة بالمحاذِر؛ فترجمة الفكر ليست نقلاً بريئًا محايدًا لمجموع المعلومات والمعارف والخبرات التي أفرزتها حضارة إنسانية ما، بعد اتباعها الأسباب الكونية، حيث تتطابق المعارف مع الكون اطّرادًا. فترجمة “الفكر” تعني ترجمة “النسق” الفكري الكامن وتبنيه بوعي أو بدونه، ويعني انتقال الخصيصة مع الفكرة والمعرفة؛ سريان الأملاح المعدنية في “نسغ نباتي ناقص”، إلا أنّ النسق الكامن ليس نهائيًّا، بل يمكن تجاوزه باكتشاف كلياته الخفية، ومواقفه الكونية المضمرة غير المعلنة. إن ترجمة الفكر تعني ترجمة النسق، والتصدي لعملية زرع دقيقة وحساسة لرقعة معرفية ومعنوية ضمن نسيج فكري جديد، يحرص فاتلُه على التناغم في اللون، والتماسك في اللحمة، والتآلف في المبنى، والتكاتف في المعنى.
ولعلي أضرب مثالاً غاية في البساطة؛ إذ نعدّد في اللغة الإنجليزية ضمائر الغائب المفردة ثلاثةً، وهي للمذكر “هو” (He)، وللمؤنث “هي” (She)، وللمحايد ويُطلق على عالم الأشياء والحيوان (It)، إلا أن المرء يقع في المفارقة الآتية:
• فتجد أن الطبيعة (Nature) في اللغة الإنجليزية -التي هي باعتبار رؤيتنا الكونية- مخلوقًا غير عاقل ولا مريد، يعبَّر عنه بضمير التأنيث العاقل المريد (She)، فهل هذه التركيبة اللفظية محايدة وبريئة؟ أم إنها تحمل نسقًا كامنًا، وتعلن تحيزًا كونيًّا فاضحًا في مستوى الرؤية الكونية؟ وهل نحن ملزمون بتبني اللفظ رغم كراهة رائحة دلالته الفكرية والكونية؟ أم أن هذا الكلام كلّه حذلقة وثرثرة؟
• ولْنضرب مثالاً آخر؛ ينوب عن لفظة الصبي (Baby) ضمير (It) الذي يعبَّر به عن “عالم الأشياء” و”عالم الحيوان”، فهل سترى وأنت تتأمل في ابنك الطفل؛ فترى إلى ابتسامته على أنها ابتسامة “دُمية”، أم بسمة “طفل/إنسان”، أم أنك ستضطر إلى أن تعُدَّه “أقنوما”(2) -في أحسن الأحوال!- حين تحدّثه بالإنجليزية، وتُعيد إليه إنسانيته فجأة حين تحدّثه بلسان عربي مبين؟ فهل الترجمة تحويل لبُنيات لغوية صماء من لغة إلى أخرى، أم أن الأمر أدق وأخطر؟
النسغ الكامل
الانتقال بالفكرة من لغة إلى أخرى، تَحَوُّل في النسق لا في اللفظ، وانتقال من عالم مصطبغ بخصائص موضوعية وذاتيةٍ لا تنفك عنه، إلى عالم جديد يحمل ذات النسق وإن تبدّلت البنية. فالترجمة الفكرية عالم يتلاحم فيه المؤلف بالمترجم، وينصهر المترجم في ذات الفكر فيصير قارئًا ومفسرًا ومؤلفًا في الوقت نفسه، ليحمل مع صاحب النسق جذوة فكره التي تلفح صفحات لفظه، ويقاسمه همومه وآلامه التي تؤجج سهاد ليله، فيميز بين اللفظ الذي يُصافيه المفكر؛ فيبوح له بأوار ما اتقد في عقله، واللفظِ الذي يجنّده ليعبر به تارة عن رضاه وتارة عن سخطه. ترجمة الفكر ليست معادلة رياضية صارمة صامتة لا تعرف الضحك ولا البكاء، ولا بُنية صمّاء باهتة لا تفقه لغة الألوان وسحر الأذواق وفتنة الحكمة الحوراء… إنها ترجمة الجوهر والروح، لا ترديد الصدى و”غوغلة”(3) المعنى والمبنى، فلا يصلح لترجمة النسق -ابتداءً- إلا من حمَل خصائص الفكر الذي يترجمه قلبًا ولبًّا، وتلاحمت ذاته بذات الفكر فهمًا وحُبًّا.
الترجمة ترجمة السياق (Sens)
تكتسي ترجمةُ الفكر بُعدًا أسمق وأعلى، فبالإضافة إلى كونها ترجمة “نسق” فهي كذلك ترجمة “سياق”، إذ بؤرة التركيز في الترجمة ليست تقليص المسافة اللفظية الفاصلة بين الدال ومدلوله بين اللغتين، بل المقصد اعتبار تغيّر المناخ الفكري والمعنوي واللفظي.
لعل من أوضح الأمثلة وأكثرها طرافة، والميسّرة لهذا المعنى؛ تباين التعبير بين الرجل العربي والرجل الفرنسي عن كلمة طيبة أفاضت قلبه بهجة، ورفلت بمهجته سعادة وحبورًا. فالرجل العربي حين يسره لفظ طيّب أو كلِم حسن يقول: “لقد أثلجت صدري”، لكن ترجمة هذه الدلالة إلى اللغة الفرنسية -مثلاً- ستكون على النحو الآتي: (ça m’a réchauffé le cœur) بمعنى: لقد جعلت قلبي دافئًا بحسن كلامك… والمراد من القول إن الترجمة هنا لم تكن البؤرة فيها ترجمة درجة الحرارة موضوعيًّا من اللغة “أ” إلى اللغة “ب”، بل المقصد ترجمة السياق لا اللفظ، لأن بيئة الرجل العربي والرجل الفرنسي محدِّدة في البيان؛ فيصير المعنى المراد إبلاغه أن أثر الكلمة الطيبة على المرء كحلاوة العثور على مكان للدفء أوان القرّ، أو إثلاج الصدر أوان الحرّ. إن الترجمة الحرفية لهاتين العبارتين ستجعلان “العربي” يستشهد لفرط الاحتباس الحراري! والفرنسي يموت لدخوله العصر الجليدي (دون سابق إنذار)! هذه فاتورة الترجمة الحرفية الأيقونية التي لا تراعي النسق ولا السياق.
مصطلح “الترشيد”: نموذج تطبيقي
في هذا السياق يعالج الدكتور عبد الوهاب المسيري إشكالية توظيف مصطلح “الترشيد” دون النظر إلى التحيزات والمنطلقات فيقول: “ولْنأخذ مصطلحًا مثل “Rationalisation” وهو ترجمة لمصطلح ألماني استخدمه المفكر ماكس فيبر؛ ويُترجم مصطلح الترشيد أو العقلنة، إذ اشتق من كلمة “Raison” والتي تعني “العقل”، وتعرّف المعاجم عملية الترشيد بأنها عملية استيعاب الغيب والسحر من المعرفة، وتطبيق المناهج العلمية البيروقراطية غير الشخصية على إدارة المجتمع. حسنًا، ولكن “فيبر” نفسه عرّف الترشيد بأنه تحويل العالم إلى حالة المصنع، كما قال: “إن عملية الترشيد ستؤدي لا إلى مزيد من الحرية للإنسان، وإنما إلى القفص الحديدي وإلى أزمة المعنى”. ويرى كثير من دارسي المجتمعات المتقدمة الحديثة أن كثيرًا من نبوءات “فيبر” قد تحققت، وأن ظهور نظم شمولية منهجية رشيدة مثل النظام النازي، هو تعبير متطرف عن عملية الترشيد، وأن تنميط الوجود في المجتمعات الديموقراطية هو تعبير عادي عنها، وأنها مجتمعات لم تعد تسأل لماذا؟ وإنما تسأل كيف؟ وتركز على الإجراءات دون الغايات، ولذا فهي مجتمعات تنغلق داخل المرئي والمحسوس.
بعد نبوءات فيبر، وبعد تحقق معظمها، ما زلنا نصرّ على تسمية الظاهرة ترشيدًا… ألم يحن الوقت أن نسمي الأشياء بأسمائها؟ وإذا كانت الظاهرة بدأت بالترشيد وانتهت بالسجن، فلِم لا نسميها بمصطلح آخر لنبين الجوانب المظلمة فيها والتي ظهرت من خلال الممارسة التاريخية؟ أحيانًا يبلغ التردي منتهاه فلا نترجم المصطلح، وإنما نكتفي بتعريبه(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) انظر، الفكر اليوناني والثقافة العربية، لدمتري كوتاس.
(2) انظر، الأقانيم الثلاثة وآلهة من الحلوى: الطفل، المرأة، الحاكم.
(3) “غوغلة”، نسبة إلى شركة المعلوماتية الأمريكية (Google)، والمراد هو التعبير عن تحويل الترجمة إلى حرفة آلية ذرية غير قادرة على توليد المعاني المركبة المتماسكة.
(4) يمتلك مصطلح (Sens) باللغة الفرنسية خاصية تركيبية عالية، حيث يحمل دلالة الوجهة/المعنى.
(5) اللغة والمجاز، لعبد الوهاب المسيري، ص:207.