حين يذوي ربيع قلوبنا، وتذبل أزاهير أرواحنا، وتَجفُّ سواقي عيوننا، وتقفر أيام حاضرنا، وتكثف ظلمة ليلنا، ويَنْفَضُّ سامرنا، وتُطوى سجَّادتُنا…
نَمُدُّ أيادينا لأيام ماضينا، نقتطف منها الذكريات، ننعش بها خيالَنَا.. نشرب من ينابيعها.. نَثْمُلُ.. ننتشي.. نطرب.. نتملاَّها.. نجتلي جمالها، نحياها من جديد.. نَسْتَنْشِق عبيرها، نعانقها، نحتضنها.. نُسِرُّ بها أرواحَنَا، نضاحكها، نمازحها.. نولج ذاتنا في ذاتها، وأيامَنا في أيامها.. ثم ننظر في مرآة الزمن، فتلتاث علينا الصور.. فلا ندري أنحن هي؟ أم هي نحن؟
أَمَّا حاضرنا، في موج ماضينا اندثر.. ثم غابَ وغام، وفي مدافن “الذات” ثوى، وكأنه ما كان، لا يعرفنا ولا نعرفه.. بَعُدَ من حاضر بائس بئيس، قفر يباب، فقر وجوع، قتل وقتول، موتى وقبور، وأيام سود، دموع وعَبَرات، أيامَى وثكالى، يتم وأيتام.. لا دمعًا يكفكف، ولا دمًا يُحَرِّم، ولا عِرْضًا يصون.. لا يواسي ولا يعزي، ولا عاثرًا يقيل، ولا كسيرًا يجبر، ولا خائفًا يجير…
ولكنّ النفس هي النفس.. لا تتآكلها الأزمنة ولا تتقاضمها الأمكنة.. هي اليوم تغلي وتفور، تصرخ وتئنّ، تشتعل نيرانًا، تتقد لهبًا.. تزداد معرفة، تتأصَّل حكمة.. تغالب اليأس، تبتعث الرجاء.. يتقوى نضالها، تشتد عزيمتها.. وإذا الأخطار بها حاقت ومنها اقتربت، انتفضت حياةً وتوهجتْ ألَقًا.. ونادتْ وقالتْ: أنا ابْنة العليين الآتين من قِمَم الغيوب.. خارقة الأزمان، صانعة المستقبل.. أسرع إليه.. أصوغه.. إلهيَّ النشأة، عبقريَّ البنيان.. شامخي الصرح، سماوي الأفق، خلودي الزمان…
يا أحباب، افتحوا للمستقبل الأبواب.. لا توصدوها، اتْركوها مفتَّحة.. فقد يأتي في كل ساعة، ساعة ليل أو ساعة نهار.. فهاجس ذهني لا يكذب، وحلم روحي لا يخيب، ورؤيا خيالي لا تخدع…