حضارة المسلمين قامت على العلم، ووضَع المسلمون الأوائل علومًا خادمة لمحور حضارتهم وهو النص الشريف، التزموا بهذا المحور وخدموه وانطلقوا منه وجعلوه معيارًا للقبول والرد والتقويم. وأخذ المسلمون يخترعون العلوم اختراعًا، وينقلون منها عن الأمم السابقة ما يمكّنهم من فهم الحقيقة وإدراك الواقع ونفس الأمر، ويصنّفونها ويبلغونها لمن بعدهم ولمن بجوارهم. ورأينا عصر الترجمة في عهد المأمون، ورأينا البيروني في كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة ممدوحة في العقل أو مرذولة”، ورأينا الخوارزمي في كتابه “مفتاح العلوم” وهو الذي يرسم لنا الذهنية والعلمية في التاريخ الإسلامي ويرصد ذلك التنوع من ناحية، والتفاعل من ناحية أخرى.وهما الصفتان المجمع عليهما لكل من اطلع على التراث الإسلامي ونتاجه الفكري.
فتوليد العلوم، كان سمة أصحاب ذلك الدين حتى القرن الرابع الهجري، بل امتد ذلك التوليد إلى القرن السادس؛ حيث وضع عضد الدين الإيجي علمًا جديدًا أسماه بعلم “الوضع”، استلّه من علم اللغة والنحو والأصول والمنطق، عالج فيه -أهم ما عالج- قضية المصطلح التي تعد من أهم القضايا العلمية حتى يومنا هذا، حيث تعد ضابطًا علميًّا للحفاظ على لغة العلم والتفاهم بين الجماعة العلمية بما يضمن أمرين: أولهما هو نقل العلم لمن بعدنا، وثانيهما هو تطوير العلم بصورة مطردة مستمرة ومنضبطة في نفس الوقت. ثم خبا هذا التوليد وانشغل العلماء بتكرار الموروث والحفاظ عليه من الضياع، كرد فعل لما حدث في القرن السابع من غزو التتار وسقوط بغداد (656هـ).
ودعا محمد رشيد رضا في مجلة “المنار”(1) إلى إحداث علم جديد يَدرُس السنن الإلهية التي وردت بالقرآن الكريم، ولم يتم ذلك حتى بعد مضي أكثر من مائة عام على تلك الدعوة. فلابد علينا أن ندرك أن توليد العلوم نوع من أنواع مظاهر حياة الفكر وأنه لم يمت، وهو أيضًا مظهر من مظاهر التفاعل مع العصر الذي نعيشه، وهو ثالثًا الجسر الذي يصل بين الشرع وبين الواقع المحيط. ويسأل كثير من المخلصين عن كيفية توليد العلوم، وهي تحتاج إلى قدرة التصور المبدع، وهي التي قد لا توجد عند كثير ممن اشتغل بنقل العلم والحفاظ عليه.
التصور المبدع
التصور المبدع، هذا الأمر لابد منه لعملية الاجتهاد، وعدَّه الأقدمون ركنًا من أركانه. ولذلك فإنّ فقده يدل أيضًا على خبوت العملية الاجتهادية التي تنبثق أساسًا من ملكة قائمة بنفس الفقيه. وتأكيدًا لهذا المعنى، نرى السيوطي في كتابه “الرد على من أخلد إلى الأرض، وجَهِل أن الاجتهاد في كل عصر فرض”؛ يقول في الصفحة 169 ما نصه: “قال ابن برهان: لا ينعقد الإجماع مع مخالفة مجتهد واحد خلافًا لطائفة، وعمدة الخصم أن عدد التواتر من المجتهدين إذا اجتمعوا على مسألة، كان انفرادُ الواحد منهم يقتضي ضعفًا في رأيه، قلنا ليس بصحيح؛ إذ من الممكن أن يكون ما ذهب إليه الجميع رأيًا ظاهرًا تبتدر إليه الأفهام، وما ذهب إليه الواحد أدقَّ وأعوص، وقد يتفرد الواحد عن الجميع بزيادة قوة في النظر ومزية في الفكر، ولهذا يكون في كل عصر مقدم في العلم، يُفرّع المسائل، ويولّد الغرائب”. اهـ.
ثم ينقل قولَ الغزالي من كتابه “حقيقة القولين” صفحة 181 فيقول: “قال الغزالي في كتاب “حقيقة القولين”: وضعُ الصور للمسائل ليس بأمر هين في نفسه، بل الذكي ربما يقدر على الفتوى في كل مسألة إذا ذُكرت له صورتها، ولو كلف وضع الصور وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كل واقعة عجز عنه، ولم تخطر بقلبه تلك الصور أصلاً، وإنما ذلك شأن المجتهدين”.
ولنضرب مثلاً يجيب على أولئك الذين يريدون نموذجًا لتوليد العلوم حتى يسيروا على منواله، وحتى يُهدّئ بال من يشك في هذه العملية وما قد تخفيه في ظنهم من الاعتداء على ثوابت الدين أو القدح في هوية الإسلام، فنحاول أن نلقي الضوء على بذور توليد العلوم وآليات ذلك في التراث الإسلامي، عسى أن ندرك المنهجية التي ساروا عليها في خدمة حضارتهم.
وبالمناسبة، فإن المنهج في ظني، رؤية كلية ينبثق عنه إجراءات، وهذه الرؤية الكلية هي النموذج المعرفي، أما الإجراءات فهي منهج البحث العلمي الذي نراه عند الأصوليين، حيث يعرّف الرازي ومدرسته أصول الفقه بأنه: “معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد” يعني تكلّم عن مصادر البحث الفقهي، ثم تكلّم عن كيفية البحث وطرقه، ثم تكلّم عن شروط الباحث. وهي الأركان الثلاثة بحالها التي اتخذت فيما بعدُ منهجًا علميًّا كما قرره “روجر بيكون”؛ المصادر والطرق والباحث.
الدين والعلم
وقبل أن نخوض في آليات توليد العلوم، يجب علينا أن ندرك بعض الحقائق عن موقف الدين من العلم. لا نقول إن الإسلام دين العلم فحسب، بل نرى موقفه من البحث العلمي، حيث أرى أنه لا حرج ولا قيد مطلقًا على البحث العلمي، فليبحث من شاء فيما شاء وليحاول أن يدرك حقيقة العالم كما شاء، ويكشف عن خلق الله في كونه كما يريد، وأن ذلك ضمانة للإبداع، وهذا مؤسس على أن الله قد أنزل أول ما أنزل: •اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ # خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ # اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ # الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(العلق:1-4). وذكر أن القراءة الأولى في الوجود، والثانية في الوحي، وأنهما قد صدرا عن الله I؛ الأولى من عالم الخلق، والثانية من عالم الأمر: •أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(الأعراف:54). وعلى هذا فلا نهاية لإدراك الكون؛ حيث إنه يمثل الحقيقة، لأنه من عند الله ولا نهاية لإدراك الوحي، قال رسول الله r: “لا تنتهي عجائبه، ولا يَخلَق من كثرة الرد” (أخرجه الترمذي). وأيضًا لا تعارض بينهما حيث إن كلاًّ من عند الله، وهذا التأسيس يتأكد في قوله تعالى على صفة الإطلاق: •هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ(الزمر:9).
السقف الأخلاقي للتطبيق
إلا أن استعمال المعلومات، يجب أن يكون تحت السقف الأخلاقي للتطبيق المأخوذ من مهمة الإنسان في الدنيا؛ العبادة، والعمارة، والتزكية. هذا السقف الذي يمنع من استعمال ما يوصلنا إليه فيما يخالف الأوامر والنواهي الربانية، أو يكر على المقاصد الكلية بالبطلان فنكون بذلك من أهل التعميل لا من أهل التدمير. وهذا السقف للاستعمال من الأهمية القصوى، حيث هو الضمان الوحيد لتلك العمارة.
إن الفصل بين حرية البحث للوصول إلى صحيح المعرفة، وبين تقييد الاستعمال للوصول إلى العمارة، أمر قد اختلط على كثير من الناس مع وضوحه وتأكيده.
ومن الحقائق أيضًا، أن العلوم لها صورة كليّة تتمثل في عملية متكاملة من التعليم لإدراك المعلومات، والتربية لإقرار القيم، والتدريب لتنمية الملكات… وأن هذا كلٌّ لا يتجزّأ، أو لو تجزّأ لفقدنا “دليل التشغيل” إن صح التعبير، وفقدُ دليل التشغيل يوقع في حيرة واضطراب. ويبدو أننا قد فقدنا دليل التشغيل هذا في كثير من جوانب حياتنا، ليس العلمية فقط، بل أيضًا السياسة والاجتماعية والدينية.
ومن الحقائق أيضًا، أن فَرقًا بين علم الدين وبين التدين. فالأول تقوم به جماعة علمية وله مصادره ومنهجه. والعملية التعليمية لها أركانها التي يجب أن تكتمل بعناصرها الخمسة؛ الطالب، والأستاذ، والمنهج، والكتاب، والجو العلمي. أما الثاني وهو التدين، فهو مطالب به كل مكلّف لتنظيم علاقته مع نفسه وكونه وربّه.
ومن الحقائق أيضًا، أن هناك فرقًا بين الفقه والفكر. فالفقه موضوعه “فعل المكلف”، ويهتم علم الفقه بوصف أفعال المكلّفين بالإقدام عليها أو الإحجام عنها، وأن هذا حلال وهذا حرام بأحكام شرعية خمسة وهي؛ الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح. وأما الفكر فموضوعه “الواقع المعيش النسبي المركب المتغير”. وهذا الفكر يرتِّب فيه الإنسان أمورًا معلومة كمقدمات، ليتوصل بها إلى شيء مجهول كنتيجة. والعملية الفكرية هي الجسر الذي بين الشرع والواقع، ولذلك تحتاج إلى علوم تجدد وتولد كل حين، حيث إن طبيعة الواقع الذي نريد أن ندركه، شديدة التعقيد والتغيير.
فإذا تقرر كل ما سبق، فإن التراث الإسلامي وضع ما يسمى بالمبادئ العشرة، من أجل أن يطلع عليها طالب العلم؛ ليتشوف للعلم الذي سوف يدرسه، أو ليعرف ما لابد له من معرفته، وهي بذاتها هي العناصر التي يجب الالتفات إليها عند توليد العلوم.
ووضعها بعضهم في صورة نظم يحفظه صغار الطلاب حتى يحدث لهم هذا التشوف الذي انحسر بعد ذلك عند المسلمين في التلقي دون إنشاء العلوم واستمرار الفكر، قال:
مـــــــــــن رام فـــــــــــنًّا فــــلـيــــــــــرم أولاً
عــلمًا بحــده ومـوضــــع تـــلا
وواضـــــع ونســـــــبة ومــا استـــــمد
منــه وفضـــله وحكــم معتــمد
واســــــــم ومــا أفـــاد والمســـــــائـــل
فتــلك عشــــر للــمنى وســــائــل
وبعضهم فيها على البعض اقتصر
ومــــــن درى جــميعـها انتصـــــر
فالمبادئ العشرة هي؛ تعريف العلم، وموضوعه، ومن الذي وضعه، ونسبته إلى العلوم الأخرى، ومن أي العلوم يستمد، وأحكامه، ومسائله، وما فضله، وما حكمه، وما اسمه، وما الثمرة والفائدة المترتبة عليه. فهذه العشرة تعدّ مدخلاً للعلم، تدفع طالب العلم إلى التشوف لدراسته وتحصيله، وهي بنفسها التي يمكن للمفكر إذا أراد أن يبني علمًا، أن يحددها كبداية لاستقلال العلوم أو إبداعها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مفتي الديار المصرية السابق.
الهوامش
(1) العدد 26، 3 جمادى الأولى 1317هـ (9 سبتمبر 1899م)، في مقالة بعنوان “كرامات الأولياء”.