يتحرك المسلم في بيداء الحياة ودروبها على هدى وبصيرة، ولا هدى ولا بصيرة دون تحديد الوجهة وتبين الهدف المراد. وإن المقصد الأسنى والغاية العالية للإنسان المسلم هي الفوز برضا الله تعالى. ولذلك فإن كل الأهداف والغايات والبرامج والوسائل، ينبغي أن يكون تابعًا للأول وخادمًا له ومؤديًا إليه… وإن أساس كل خير وثقافة وسلوك هو الإيمان بالحق والتمسك به والثبات عليه.
إن سعادة الإنسان ومستقبله لن يتوقف على مزيد من الكشوفات المخبرية والتقنية وتكنولوجيا المعلومات، ولكنه سيكون منوطًا بمدى إيمان المرء بمبادئ صحيحة وقيم عليا، وتأثير هذا الإيمان في ترشيد سلوكه وتعديل مواقفه واتجاهاته في الحياة.
وما لم يعِ المجتمع أهمية هذه القيم العليا وجعلها أكثر نقاء ووضوحًا وفعالية، فلن يتمكن من إقناع الأجيال الصاعدة بها، والثقة فيها، واعتبارها جزءًا من هويتها وتراثها. والطريق الأقوم إلى ذلك باختصار، هو المجاهدة والتضحية من جهة كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(العنكبوت:69)، والاحتراز من أشكال التناقض بين القول والفعل من جهة أخرى، على نحو قوله جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾(الصّف:2-3). ستظل أرواحنا فارغة، وذواتنا ممزقة، وأعمالنا متناقضة ومتضاربة، ما لم نوحّدها عن طريق الإيمان، وما لم يتحول إيماننا إلى طاقة قادرة على تخليصنا من أهواء أنفسنا وسيئات أعمالنا.
ومن المقاصد الكبرى للإنسان المسلم، معانقة الحق ونصرته والدفاع عنه. فبالحق نزلت الرسالات، وبالحق قامت السماوات والأرض، وباتباع نقيضه “الهوى” فسد الإنسان وفسد العالم: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)(المؤمنون:71)، وإن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيف وبيء. ولذلك أخبر الباري جل وعلا، أن أكثر الناس لا يحبون الحق ويستثقلونه فقال: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)(المؤمنون:70).
والدفع والتدافع بين الحق والباطل ماضٍ إلى يوم القيامة، ومن دأب المسلم وديدنه أن يدور مع الحق حيث دار، لأن البديل عن نصرة الحق والتمكين له، هو نصرة الباطل والترويج له.
إن التربية على قيم الحق معناها، أن نربي أنفسنا وناشئتنا والأجيال على قبول الحق وتعظيمه والانفعال به، ذلكم هو الخطوة الأولى على طريق صياغة مفردات الحياة ومواضعاتها وجوانبها على أساسه وترسيخ قيمه. وإن الإذعان للحق والفرح به، شأن من شؤون النفوس الكبيرة التي تربأ عن الأهواء والأنانيات والحسابات الضيقة، وشأن الحكماء وأولي النهى الذين قال الله في أمثالهم: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(المائدة:82-83).
والتربية على تحمل المسؤولية عن التصرفات التي يقوم بها الطفل، نوع من الاستمساك بالحق وتعزيزه وإقامته. وهذا الخُلُق ينمو لدى الطفل حين يسمع الثناء على ما قام به من خير، وحين ينبه بلطف على ما بدر منه من خطأ. كما يتعزز حين يرى الطفلُ الكبارَ يعترفون بأخطائهم ويتحملون المسؤولية عنها بطيب نفس. وقد نوّه سبحانه -في هذا السياق- بشجاعة امرأة العزيز حين اعترفت بمراودتها يوسف ـ عليه السلام ـ عن نفسه إذ قالت: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)(يوسف:51-52).
إن تحمل المسؤولية عن الخطأ، سلوك تربوي رفيع منبثق عن عقيدة عالية في التزام الحق والتمسك به. وقد بلغ هذا السلوك عند صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَبْلغًا عظيمًا يندُرُ وجوده في اجتماع البشر… فقد جاءت الغامدية وقالت: يا رسول الله إني زنَيْتُ فطهّرني، فردّها، ثم جاءته، وطلبتْ منه أن يرجمها، وقالت يا رسول الله إني حُبلى، فأمرها أن تذهب حتى تلد، ثم جاءت بعد ولادتها بطفلها وقالتْ ها قد ولدته يا رسول الله، قال “اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه”، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فطلبتْ أن يرجمها ففعل عليه الصلاة والسلام. وهذا الخبر غني عن كل تعليق.
إن قيمنا الثقافية والإعلامية السائدة، وتربيتنا في بيوتنا ومدارسنا، وعلاقات الشيوخ بطلبتهم والأساتذة بتلاميذهم، تتوارد في الغالب على ثقافة الصمت، وتعمل بخلاف المبدأ العمري الحكيم “قل يا ابن أخي ولا تَحقرنّ نفسَك”؛ فالكبير يُسكت الصغير، والزوج يُسكت الزوجة، والصبي يُسكت البنت، والمعلم يُسكت التلميذ، والمدير يُسكت المدرس وهلمّ جرًّا… وما زالت قيمنا تغري بتأجيل المشكلات بدل مواجهتها، والأخذ بالحلول التلفيقية، والاشتغال بالأعراض والنتائج بدل الأسباب والمقدمات… وما زلنا نظن أن غياب رأي معارض أو ناقد أو مستدرك هو علامة صحة وعافية وكمال، مع أن تلك الحالة أشبه بالجسم الذي يفتك به المرض ويتغلغل في أطرافه دون أن يصدر عنه إنذار من ألم أو حمى. وهذه العقلية جعلتْ منّا أمة نموذجية في إخفاء الحقائق، والخوف من الوضوح، والهروب من مواجهة المشكلات، والتنصل من المسؤولية، والبروز بالمظهر اللبق… فصار للمرء وجهان، الظاهر منهما خير من المستور، مع أن الأصل أن يكون باطن المرء خير من ظاهره. وفي الحديث الصحيح: “تجد مِنْ شرّ الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهَيْن الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه”، وروي بلفظ: “لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا”، وفي سنن أبي داود: “من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار”. وتجد كثيرًا من الناس لا يملك الشجاعة للاعتراف بخطإٍ ارتكبه مع صديقه أو زوجته أو ابنه، وتجد كثيرًا من المدرسين لا يجرؤ على القول: ذكرتُ لكم في الدرس الماضي كذا وكذا وهو خطأ والصواب كذا وكذا.
وحين ترى الناشئة أن كل ما حولها تام وكامل ومعصوم، فكيف تصير هي ناقصة؟! إن هذه الثقافة الدعائية، مدعاة لهم للدفاع عن النفس والمجادلة عنها بحق وبغير حق، لأن السراة والكبار كذلك يصنعون. وهكذا يضيع الحق في متاهة الأهواء والدعاوى والتزييف، وتتصاعد الانتصارات المجازية والصورية العريضة التي لا حظ لها من الواقع.
إن حقًّا على المؤسسات التربوية والتثقيفية أن تنهج أسلوبًا جديدًا في التربية والتثقيف والتواصل، قائمًا على الحوار والمصارحة والمناقدة والمناقشة.
وإن من يُمن طالِع المربين والمثقفين أن يكون بين ظهرانيهم من يعترض عليهم ويناقشهم ويسألهم ويصحح لهم ويستدرك عليهم، فذلكم هو السبيل الحقيقي للارتقاء بالسقف المعرفي للمجتمع، والوعي الثقافي العام لمختلف مرافقه وطبقاته ومؤسساته.
وإن مما أطال في عمر المدنية الغربية الغالبة اليوم -على ما يكتنف مسيرتها من أخطاء- اعتمادَ أسلوب النقد والتقويم والمراجعة، وإعمال مبدأ الرقابة المتبادلة الذي يتيح لكل فرد في المجتمع آليات شتى لمراقبة غيره ومحاسبته، خصوصًا إذا تعلق الأمر بالشأن العام والمصالح الضرورية للأمة.
وبالمقابل، فإن أخطر العلل التي أنهكت الحضارة الإسلامية وأضعفتها، وطوحت بها من أعلى إلى تحت، ومن الريادة إلى التبعية، ومن الفعالية إلى الركود… شيوع ثقافة الصمت، والتسليم المطلق، والانسحاب الجماعي من فروض الكفاية، واستبداد الفرد بالشأن العام والاستئثار به، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وقمع أصوات النقد والاستدراك، والخوف من المصارحة الذي حل محل منهج “قل يا ابن أخي ولا تحقرن نفسك”، وضمور روح المؤسسات المنتظمة لقيم الحق ومبادئه، وحسبة الأمر بالقسط، والرقابة المتبادلة، وإدارة الاختلاف وتدبيره بما يحقق المصالح المنشودة للأمة بصورة سلمية وهادئة.
(*) عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء / المغرب.