تمثل الأراضي الصحراوية بيئة خاصة، ففي ظروف الجفاف وفي وطأة الحرارة المرتفعة، تأخذ هذه البيئة لونًا فريدًا يبدو قاسيًا، لكنه في الحقيقة نظام معيّن من الأنظمة البيئية المختلفة التي أوجدها الله تعالى في هذا الكون. وفي هذه البيئة العجيبة توجد نباتات عديدة ذكرها القرآن الكريم وأشارت إليها السنة النبوية المطهرة، وهذا لا يكون إلا لأهميتها الكبيرة وفوائدها الجمّة. فنجد مثلاً التمور، والسدر، والآراك، والأثل، والصبّار، والكمأة التي يسميها أهل الصحراء “لحم الأرض” لطعمها الفريد وغناها بالبروتينات.
ماهية الكمأة
هي فطريات جذرية (Mycorhize) تنتمي إلى نوعي “Terfezia” و”Tirmania”، تنمو تحت الأرض مع جذور نباتات أخرى كنبات القصيص (Helianthemum Lippii)، الإجرد (Helianthemum Ledifolium)، وجنس آخر يُعرف بـ”Helianthemum Ellipticum”. كما أن الكمأة تُعرف أيضًا بـ”المنّ”، ونبات الرعد، والفقع، وعيش الغراب، أما في الجزائر والمغرب العربي فتسمى بـ”الترفاس”.
جاء في لسان العرب أن “الكَمْء”؛ نبات يُنَقِّضُ الأرض فيخرج كما يَخرج الفُطْرُ. وكَمَأَ الرجلُ تشققت رجلاه. و”الكمي” يعني التخفي وعدم الظهور. والكمأة لا تظهر حتى تتشقق الأرض عنها، وإنها تكون في الأرض من غير زرع أو سقي. سميت “كمأة” لاستتارها، فهي مخفية تحت الأرض لا ورق لها ولا ساق. توجد في الربيع وتعتبر من أطعمة أهل البوادي، وتكثر بأرض العرب، وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء. وتكثر الكمأة عند مجاري الأنهار في السنوات التي تتمتع بمناخ جيد، حيث توجد كميّات متنوعة من النباتات العائلة. هذا وإن المنطقة الممتدة من شمال إفريقيا إلى حدود آسيا الوسطى تعدّ محيطًا طبيعيًّا لانتشار الكمأة.
الكمأة في الكتاب والسنة
لقد ذكر الله تعالى “المَنَّ” في مواضع ثلاثة من القرآن الكريم حيث قال: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)(البقرة:57)، وقال أيضًا: (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)(الأعراف:160)، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)(طه:80).
أما في الحديث النبوي الشريف، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- تذاكروا “الكمأة” فقالوا: هي جدري الأرض وما نرى أكلها يصلح، وعندما بلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “الكمأة من المَنّ وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السّم”.
وأخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح إلى قتادة قال: حدثتُ أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاث أكمؤ أو خمسًا أو سبعًا فعصرتهن فجعلت ماءهن في قارورة فكحلت به جارية لي فبرئتْ.
وذكر الزرقاني أن “المتوكل” أميرَ المؤمنين العباسي، رمد، ولم يزدد استعماله الأدوية إلا رمدًا، فطلب من الإمام أحمد بن حنبل إن كان يعرف حديثًا في ذلك، فذكر له أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “الكَمْأَةُ من المَنّ وماؤها شفاء للعين”، فأرسل “المتوكل” إلى طبيبه “يوحنا بن ماسويه” المسيحي، وطلب منه أن يستخرج له ماء الكمأة، فأخذ الكمأة فقشرها ثم سلقها فأنضجت أدنى النضج، ثم شقّها وأخرج ماءها بالميل، فكحل به عين “المتوكل” فبرئت في الدفعة الثانية، فعجب ابن ماسويه وقال: “أشهد أن صاحبكم كان حكيمًا”. وقد اختلف العلماء في حقيقة ماء الكمأة وكيفية استخراجه.
الفوائد الطبية والغذائية للكمأة
أظهرت عديد الدراسات الكيميائية أن الكمأة تحتوي على البروتينات والأحماض الأمينية الأساسية بنسبة 20-27%، بحيث تفوق أغلب النباتات والفطريات الأخرى بـ3-7.5% من الدهون، والستيرولات 7-13% من الألياف الغذائية، 2-5% من حمض الأسكوربيك (Vitamine C)، والمعادن (K, P, Fe, Cu, Zn, Mn, Na, Ca) والسكريات كالجلوكوز، والفركتوز والمانيتول بنسبة 60%.، كما أن ذوق الكمأة الخاص هو نتيجة تواجد مكونات أخرى وهي الألدهيدات، والكحولات، والكيتونات، والأحماض العضوية، والمركبات الكبريتية. لكن نسبة تواجدها تختلف من نوع لآخر بحسب المنطقة والتربة ومكوناتها. ونظرًا لغناها بهذه المواد الطبيعية فهي تعتبر غذاءً غنيًّا متكاملاً.
تعتبر الخاصية المضادة للبكتيريا، من أكثر الدراسات التي تمت على مستخلصات الكمأة، وكانت البكتيريا المستعملة من عدة أجناس مثل “Staphylococcus Aureus” و”Pseudomonas aeruginosa”، هي التي تتسبب في أمراض العيون الشائعة. كما تمت دراسات أخرى على بكتيريا “Chlamydia Trachomatis” والتي تتسبب في مرض “التراخوما” المعروف بـ”الحثر” أو “الرمد الحبيبي”، وهو مرض خطير يصيب العين ويؤدي غالبًا إلى العمى. وأما هذا المرض فينتشر عن طريق ذُبابتي “Musca Sorbens” و”Musca domestica”، إذ تحط على وجه الشخص السليم وخصوصًا على وجه الرُضَّع والأطفال فتتسبب بذلك بانتقال المرض من شخص إلى آخر، ويزداد هذا المرض عند تكاثر الذباب في فترات الحرارة. إنه التهاب مزمن مُعدٍ يقاسي منه معظم سكان منطقة الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط وبقاع أخرى من العالم، وقد كان الرمد الحُبَيبي مسؤولاً تمامًا بمضاعفاته عن أكثر من ربع حالات العمى في منطقة انتشاره قبل ظهور المضادات الحيوية خصوصًا في الأحياء الفقيرة. وقد أثبتت الدراسات المخبرية فاعلية الكمأة ضد هذه البكتيريا، ويرجع ذلك خاصة لوجود بروتينات ذات تأثير مضاد للبكتيريا.
أما الخاصية المضادة للأكسدة فهي قوية، وأظهرت التجارب أنها تتناقص مع التعليب والتجميد، وتبين أن المركبات المسؤولة عنها هي الفيتامين “أ” والفيتامين “ج”، ومتعددات الفينول “الأنثوسيانين”، “الفلافونويدات الكلية”، “الكاروتينات الكلية”، “الفينولات الحرة والمؤسترة”.
إن الكمأة تعتبر نعمة من نِعَم الله القدير القائل في محكم التنزيل: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ)(لقمان:20)، وتبقى الكمأة متخفية في باطن الأرض تنتظر من يخرجها لتكون له غذاءً أو دواءً شافيًا.
إن الكمأة إذن، غذاء كما أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم، لاحتوائها على أهم العناصر المغذية، وهي البروتينات والأحماض الأمينية، يستعملها أهل البوادي والبدو الرُّحَّل في تغذيتهم كبديل عن اللحوم، ويمكن الاحتفاظ بها بعد تجفيفها أو تمليحها لكي تستهلك في فصول أخرى من السنة.
وهي شفاء للعين كما وضحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لتأثيرها المضاد للبكتيريا المسببة لأمراض العيون. وما تواجدها في الصحراء وفي فترة بداية الربيع، إلا لحكمة منه تعالى. فمرض “التراخوما” ينتشر في منطقة انتشار الكمأة من شمال إفريقيا إلى الشرق الأوسط، والذبابة التي تنقله تتكاثر وتنشط في فترات الحرارة التي تبدأ مع فصل الربيع، خاصة في المناطق الصحراوية، كما أن فصل الربيع تبدأ معه العواصف الرملية التي يمكن أن تتسبب في نقل بعض الجراثيم للعين أو تتسبب في التهابات حساسية للعين (Conjonctivite Allergique)، وبهذا جعل الله مكان وزمان تواجد العلاج موافقًا لمكان وزمان تواجد المرض.
وللكمأة فوائد أخرى باعتبارها فطريات جذرية، فهي تحافظ على التوازن البيئي الصحراوي فتمنع تحرك الرمال بإفراز مواد لزجة تساعد في تجميع حبيبات الرمل حول الجذور مما يؤدي إلى تثبيت الرمال حولها. وهذه طريقة لمقاومة التصحر، وتمد النباتات العائلة بما تحتاجه من العناصر المعدنية كالحديد والنحاس والزنك، وتقوم بسحب الماء الموجود خارج منطقة الجذور للنبات المضيف، فتقاوم هذه الأخيرة الظروف القاسية من جفاف وملوحة وتنمو أكثر لتكون حاجزًا لتحرُّك الرمال أو كلأ لحيوانات المنطقة. كما تعتبر تجارة الكمأة ذات أهمية اقتصادية كبيرة لسكان الريف والبوادي يمكن معها تقليص حجم البطالة.
وهكذا هي نِعَم الله الرحيم بعباده لا تحصى، لا نعلم إلا القليل عنها، قال تعالى: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(إبراهيم:34).
(*) معهد الكيمياء، كلية العلوم، جامعة المسيلة / الجزائر.