لقد شكّلت المعرفة وعيًا لفهم الكثير من الحقائق، وذلك عبر اكتساب المعلومات وإجراء التجارب وتفسير النتائج، والتأمل في طبيعة النفس والأشياء، أو عبر الاطلاع على قراءات واستنتاجات الآخرين. والمعرفة مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات، كما جرى تحديد المعرفة بأنها مجموع الخبرات والمهارات المكتسبة من قِبل الشخص، عبر التعليم أو التجارب أو الفهم النظري العلمي لموضوع ما. والمعرفة -أيضًا- هي مجموع ما تم معرفته فيما يخص مجالاً معينًا، كما أن المعرفة تعني جملة الحقائق والمعلومات المكتسبة من القراءة أو المناقشة.
والمعلوم أن الدماغ البشري يتكون بصورة أساسية من 85 مليار خلية عصبية تقريبًا، وكل خلية عصبية تعمل كمرسِل تُرسل المعلومات على شكل نبضات عصبية -مثلها مثل الإشارات الكهربائية- إلى الخلايا العصبية الأخرى. عندما يقوم شخص ما بالكتابة -على سبيل المثال- فإن بعض الخلايا العصبية في دماغه ترسل رسالة “حرّك الأصابع” إلى خلايا عصبية أخرى، ثم تنتقل هذه الرسالة عبر الأعصاب -مثل الكابلات- لِتصل أصابعَه. أيْ، إن الإشارات الكهربائية التي يتم توصيلها من خلية عصبية إلى أخرى، هي ما يسمح له بفعل كل ما يفعله، سواء الكتابة أو التفكير أو الرؤية أو التحدث أو الحساب.
ويمكن أن تتصل كل خلية عصبية بـ١٠ آلاف خلية عصبية أخرى، ما يؤدي إلى عدد كبير من الوصلات في الدماغ، والذي يبدو كأنه شبكة عنكبوتية كثيفة جدًّا. كما أن إحدى ميزات الدماغ الأكثر فائدة، هي القدرة على استيعاب أجزاء من المعلومات وإجراء اتصالات بينها، ما يعني أن الدماغ البشري هو المكان الذي يتأثر بالتعلم والمعرفة. وقد تتجاوز المعرفة الذاكرة، وقد تشكل فهمًا غنيًّا ومفصلاً لصاحبها. والمعرفة تُعدّ قوة حقيقية، والقليل منها يمكن أن يصبح من أخطر الأمور، وكلما زادت معرفة الشخص، بات مستعدًّا ومجهزًا بشكل أفضل للتعامل مع الحياة.
المعرفة واستمرار نمو الأدمغة
وتشير معظم الأدلة المتوفرة إلى أن وظائف الذاكرة يتم تنفيذها بواسطة الحُصين والهياكل الأخرى ذات الصلة بالفص الصدغي، وبجانب دوائر معالجة المعلومات المرتبطة بالوحدات العصبية وبأعمدة المسالك العصبية الواردة، فإن الدماغ مليء بأنظمة إدخال أخرى؛ ففي قشرة الفص الجبهي -مثلاً- توجد الألياف العصبية التي تحتوي على الناقل العصبي “الدوبامين” بتركيزات عالية بشكل خاص.
وقد تساءل الباحثون -لوقت طويل- عن الدور الذي قد يلعبه “الدوبامين” في دوائر المعلومات قبل الجبهية، وبدأت الأدلة التي تم جمعها حول تلك النقطة على مدى الأعوام القليلة الماضية، في توضيح ضخامة المدى الذي لا يشكّل به الدوبامين الوظائف الجسدية في العالم فقط، بل أيضًا القدرة على معالجة المعلومات الجديدة وربط الأفكار بشكل فعّال، وحتى الحفاظ على الشعور بالرفاهية المتوازنة مع التصورات الواقعية.
وفي الآونة الأخيرة، ازداد اهتمام علماء الأعصاب بالمعرفة والذاكرة لسببين رئيسين، فوفقًا للطبيب النفسي “إريك كاندل” -وهو عالم كبير في معهد هوارد هيوز الطبي بجامعة كولومبيا- فإن أحد الأسباب هو اقتراح الآليات الخلوية التي تمثل نوعًا أساسيًّا من المعرفة والذاكرة طويلة المدى.
وقد تم التعرف على هذا النموذج لأول مرة في الجهاز العصبي البسيط نسبيًّا للقواقع البحرية وجراد البحر، ولكنه يبدو صالحًا أيضًا في قرن آمون الفقاريات، وقد يرتبط -كذلك- بتكوين ذكريات طويلة المدى. بينما السبب الثاني للاهتمام الجديد بالمعرفة والذاكرة، هو الأدلة المتراكمة التي تشير إلى أن الآليات المشاركة في التغير البنيوي بالجهاز العصبي الذي يصاحب التعلم، قد تشبه بقوة بعض الخطوات المهمة في تطور الجهاز العصبي؛ أيْ إن أنواع التعديلات بين نقاط الاشتباك العصبي التي تفسر المعرفة والتعلم، قد تكون هي نفس الضبط الدقيق الذي يحدث عندما يتخذ النظام الناضج شكله الفريد والمفصل. لذلك، فإن التغيرات البيولوجية التي تصاحب التعلم والمعرفة، يمكن النظر إليها بطريقة تخطيطية مهمة جدًّا وهادفة، باعتبارها عملية قديمة وُضعت لاستخدام جديد، أو كطريقة متخصصة تستمر بها الأدمغة في النمو بعد النضج.
ويقول الدكتور “جون موريس” مدير أبحاث السياسات الاجتماعية والصحية في معهد الشيخوخة التابع لجامعة هارفارد: “في نهاية المطاف، سوف تتضاءل مهاراتك المعرفية، وسوف يصبح التفكير والذاكرة أكثر صعوبة، لذا تحتاج إلى بناء احتياطي لديك بأن تبني نشاطًا جديدًا يجبرك أيضًا على التفكير والتعلّم ويتطلب ممارسة مستمرة. قد لا يكون أفضل ما يحافظ على صحة الدماغ هو مجرد تحدي نفسك بتعلّم شيء جديد، بل في السعي لتوسيع مهاراتك ومعارفك وتطويرها باستمرار. فالنشاط المعقد لا يولِّد الإثارة فقط، بل يجبر عقلك على العمل على عمليات تفكير محددة، مثل حل المشكلات والتفكير الإبداعي”.
وتأكيدًا على كلام الدكتور “موريس” أظهرت العديد من الأبحاث أن المنافذ المعرفية الإبداعية مثل الرسم، والأشكال الفنية الأخرى، وتعلّم الآلة، والقيام بالكتابة التعبيرية أو كتابة السيرة الذاتية، وتعلّم اللغة، يمكن أن تعمل أيضًا على تحسين الوظيفة الإدراكية.
القراءة تغذي أسلاك الأدمغة
لأن القراءة تشكّل أساس المعرفة، ولأنها تُنير الدماغ بأكمله، أجرى فريق من الباحثين في جامعة إيموري بولاية جورجيا عام 2013م، دراسة اعتمدت على فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي لمجموعة من القرّاء أثناء ممارستهم للقراءة؛ فوجدوا أنه كلما تعمق القرَّاء في القصة، زاد عدد مناطق الدماغ التي تنشط. والأكثر إثارة للدهشة، أن هذا النشاط ظل مرتفعًا لعدة أيام بعد انتهاء المشاركين من القراءة، ما يعني أنه كلما قرأ الشخص أكثر، أصبحت شبكات النشاط المعقدة في دماغه أقوى. وقد أدّت تلك النتائج إلى رغبة الباحثين في فهم سبب بقاء القشرة الحسية الجسدية والحركية -وهي منطقة الدماغ التي تستجيب للحركة والأحاسيس والألم- نشطة لمدة طويلة بعد الانتهاء من القراءة.
ومن هنا تأكد الباحثون أن القراءة تضع العقل في جسد بطل الرواية، وتُغير النشاط في هذه المناطق نتيجة لذلك. وأظهرت الأبحاث التي أُجريت في مستشفى “بوسطن” للأطفال، أن القراءة يمكن أن تُغذي أو تُجدد أسلاك الدماغ، وتخلق شبكات عصبية جديدة، وتقوِّي المادة البيضاء في الجسم الثفني (وهو حزمة من الألياف العصبية تتمركز في مكان عميق بالدماغ، وتربط نصفي الدماغ “الصدغين” ببعضهما)، ما يعزز التواصل بين نصفي الكرة المخية، ويتيح له معالجة المعلومات بكفاءة أكبر، ويساعد على التعلم بشكل أسرع. ووجدوا أيضًا أن القراءة تُقوِّي الفهم البصري والسمعي لدى القارئ.
وقبل تلك الدراسة، أيدت دراسة أخرى أُجريت عام 2011م النتائج نفسها، وأظهرت أنه على الرغم من أن البدء بعادة القراءة في مرحلة الطفولة أمرٌ مثالي، إلا أنه يمكن الاستمتاع بهذه الفوائد الدماغية القوية في أي عمر.
إلى جانب ما أوضحته دراسة أُجريت عام 2009م في جامعة “ساسكس” البريطانية، بأن القراءة تُقلِّل من مستويات التوتر لدى المرء بنسبة تصل إلى 68%؛ ففي أقل من ٦ دقائق من الانغماس في كتاب، يتباطأ معدل ضربات قلب القارئ، وينخفض ضغط دمه، وتبدأ عضلاته في الاسترخاء. كما تشير الأبحاث إلى أن 30 دقيقة من القراءة اليومية، تمنح القارئ العديد من الفوائد على المدى الطويل، وتؤثر بشكل كبير على الأعراض الجسدية للتوتر، دون النظر إلى نوع الكتاب -حتى الكتب الصوتية- ما دام هناك قدرة على التركيز في القراءة دون انقطاع. والقراءة تساعد أيضًا على خفض مستويات التوتر، مما يُحسِّن المزاج، ويؤدي إلى زيادة في السلوكيات الأخرى، مثل الصبر والتسامح والتعاطف.
الأدمغة تقتات من المعرفة
منذ القدم شبَّه العلماء الدماغ بآلةٍ للإدراك، تمامًا كما تُشبَّه العين بآلةٍ للإبصار. ومثلما أن العين -ومهما كانت سليمة وبحالة جيدة- لا ترى الأشياء إلا إذا غمرها النور، فإن الأدمغة كذلك لا ترى الأشياء إلا إذا غمرها النور المعرفي. لذلك، فإن رؤية المشكلات تحتاج على الدوام إلى معرفة؛ فلا توجد مشكلات دون معرفة، ولا توجد حلول كذلك دون معرفة. فالأشياء لا تُرى إلا إذا وُجدت الأعين ووجد النور، والأمور لا تُدرك على النحو المراد إلا إذا وُجدت الأدمغة ووجدت المعرفة.
وهذا يعني أن المعرفة هي “خبز الأدمغة” الذي تقتات عليه، وبدون ذلك الخبز تنهار عمليات الأدمغة وتصل إلى أدنى مستوياتها. فعلى سبيل المثال، عند التفكير في مسألة دينية محضة، فإن المعرفة المطلوبة في تلك الحالة تكون معرفة إيمانية شرعية ناتجة عن القراءة أو الاطلاع أو المناقشة. وحين نفكر في مسألة دنيوية، فقد نحتاج إلى معرفة فنية متخصصة. وهذه الرؤية للأدمغة التي زادت بلورتها قبل عقود طويلة، هي ما توصلت إليه العلوم الحديثة في العصر الراهن.
ولا ضير في تشبيه الأدمغة البشرية بالأدمغة الإلكترونية أو الحواسيب الإلكترونية، فكما أن الحواسيب الآلية لا تعمل من غير برامج تُحمَّل عليها، فإن الأدمغة البشرية أيضًا لا تعمل من غير معرفة جيدة يتم تزويدها بها. ولأن الذكاء لا يفيد من لا يملكون سواه شيئًا، ولأن الحواسيب لا تستطيع إدخال تعديلات جوهرية على البرامج التي تُزود بها، فإن الأدمغة البشرية أيضًا ــ وفي معظم الأحوال ــ تقف عاجزة تمامًا عن القيام بعمليات نقدية شاملة وعميقة للأصول والمعطيات التي نزوِّدها بها.
أيْ إن الأدمغة البشرية المزودة بقوة بأشكال متعددة من المعرفة والمنهجية والخبرة الممتازة، يمكنها أن توفر العديد من الأدوات التي تمكِّنها من تسيير حركة الحياة.
وبذلك يصبح الإنسان هو القادر -بمساعدة التقنية- على استخراج وتفسير الخبرات المعرفية الكامنة في دماغه، بل وإعادة استخدامها لتوليد خبرة جديدة. وبالتالي، فإن الإنسان وحده هو الذي يمكنه أن يأخذ الدور الأساسي في تكوين المعرفة، بينما تبقى أجهزة الحواسيب مجرد أدوات يمكنها -بما تملكه من إمكانات كبيرة- معالجة المعلومات، غير أن مخرجات المعالجة لا تُعد ناقلاً ثريًّا للتفسيرات البشرية التي تتعلق بالأعمال المحتملة.
بل تقطن المعرفة في السياق الشخصي للمستفيد، اعتمادًا على هذه المعلومات المخرجة، وهذا ما دفع الشركات والمؤسسات العالمية الناجحة إلى العمل على الاستفادة المنظمة من المعرفة المتوافرة في أذهان مواردها البشرية، والتي تكون دومًا على صورة (حدس، وخبرة، وتفكير، ومهارة)، لمواكبة حركة السوق، ومواجهة المنافسين، وتحقيق أعلى الأرباح.
(*) كاتب وأكاديمي مصري.
المراجع
(1) إدارة المعرفة، إبراهيم رمضان الديب، الأكاديمية العربية المفتوحة (الدانمارك) 2008م.
(٢) لمناعة الفكرية ومقولات أخرى، أ.د. عبد الكريم بكار، دار وجوه للنشر والتوزيع (الرياض) 2014م.
(٣) إدارة المعرفة كأساس للتنبؤ الأمني ودعم القرار، د. علي إسماعيل مجاهد، مركز الإعلام الأمني (الرياض) 2010م.
(٤) إدارة المعرفة وأثرها في الإبداع التنظيمي، صلاح الدين الكبيسي، كلية الإدارة والاقتصاد، الجامعة المستنصرية 2002م.
(٥) دور إدارة المعرفة في تحقيق الفاعلية التنظيمية، طالب أصغر وآخرون، مجلة العلوم الاقتصادية والإدارية، مجلد (13)، عدد (47) 2007م.


