الخصائص الديموجرافية للمهاجرين من مكة إلى الحبشة

تعد “الهجرة” من العناصر الرئيسية في جغرافية السكان، ويجب أن تكون كذلك في “الجغرافيا الحضارية”؛ يتضح ذلك من خلال دراسة الهجرات عامة، سواء الأوروبية أو الإسلامية، وسواء أكانت قسرية أم اختيارية.

ويرصد هذا المقال هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة، باعتبارها من المؤثرات الرئيسية في حضارات الشعوب وثقافاتهم، ولا سيما أن تلك الهجرة امتدت بين قارتين، من غرب قارة آسيا إلى شرق قارة إفريقيا، واستمرت 14 عامًا، إذ كانت الهجرة من مكة إلى الحبشة في العام الخامس للبعثة (615 ميلادية)، وعاد آخر المهاجرين إلى الجزيرة العربية في العام السابع للهجرة (629 ميلادية).

الخصائص الاجتماعية والثقافية

لم يهاجر إلى الحبشة الضعفاء أو الأذلاء أو العبيد أو الموالي من المسلمين كما قد يظن البعض، إنما خرج أشراف القوم، منهم جعفر بن أبي طالب (ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم )، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسلمة بن هشام (أخو أبي جهل)، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير (وثلاثتهم من ذوي الشرف والأحساب والأنساب والغنى)، وأبو حذيفة (ابن شيخ الجاهلية عتبة بن ربيعة)، وخالد بن سعيد بن العاص القرشي الأموي رضي الله عنهم أجمعين. ومن ثم فقد أحدث خروج مثل هؤلاء الأشراف، دويًّا عظيمًا في أنحاء الجزيرة كلها، وتسامع الناس بذلك، وخرج الإسلام وقضيته إلى خارج حدود الجزيرة.

كانت هذه الهجرة، بسبب الاضطهاد الديني في مكة، ومن ثم فإن المهاجرين الصادقين الكاملين في الإيمان، هاجروا بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان. وكان غيرُ قليل منهم يصلح للسيادة والإمارة والقيادة، ومن ثم نالوا ذلك بعد عودتهم من مهاجرهم؛ فأول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش، وأول مغنم قسِّم في الإسلام مغنم عبد الله بن جحش، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم  خالدَ بن سعيد بن العاص رضي الله عنه على صنعاء، وكان معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي أمينًا على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استعمله أبو بكر رضي الله عنه على الفيء وولِي بيت المال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم  جعفر بن أبي طالب من أمراء غزوة مؤتة، واستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عُبيدَ بن عويج بن عدي، وشرحبيلَ بن حسنة الكندي على فلسطين، وولَّى قدامة بن مظعون الجمحي إمرة البحرين، كما تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة اثني عشر عامًا.

تزوج النبي صلى الله عليه وسلم  ثلاثًا ممن هاجرن إلى الحبشة؛ وذلك لما لهن من الشرف والسؤدد والثبات على الدين، وهؤلاء الثلاث هن: سودة بنت زمعة رضي الله عنها وكانت زوجًا للسكران بن عمرو العامري، فتوفي عنها بمكة، فكان زواجها في رمضان في السنة العاشرة للبعثة (620 ميلادية) بعد وفاة خديجة رضي الله عنها، والثانية أم سلمة، وقد مات زوجها أبو سلمة في غزوة أُحُد، بعد رجوعهما من الحبشة. أما أمُّ حبيبة بنت أبي سفيان فعقد النبي صلى الله عليه وسلم  عليها بالوكالة في الحبشة، بعد تنصّر زوجها عبيد الله بن جحش، إذ هاجرا معًا، ثم تنصر هناك ومات، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم  إليها عمرو بن أمية الضمري وكيلاً عنه في زواجها، وأصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم  أربعمائة دينار أو أربعة آلاف درهم.

الخصائص الديموجرافية

زاد عدد المهاجرين في الهجرة الثانية بنسبة 600% عن جملتهم في الهجرة الأولى؛ وذلك لأنهم في الرحلة الثانية قد عرفوا طبيعة الأمور وحقيقة الأمر في الحبشة والطريق إليها.

النوع الهجرة الأولى الهجرة الثانية
ذكور 11 79
إناث 4 19
أطفال 0 6
المجموع 15 104

عدد النازحين للحبشة في الهجرتين الأولى والثانية عام 615 ميلادية

هاجر من النساء تسع عشرة امرأة (بنسبة 18.2%)، كلهن متزوجات هاجرن مع أزواجهن في سن الشباب، فلم تهاجر أيمٌ ولا عجوز، وبعضهن قد هاجرت ومعها بنوها، وبعضهن قد أنجبت هنالك بالحبشة، وبعضهن ماتت بلا عقب فلم يكن لها ولد.

ومن المهاجرات التي هاجرن: أم سلمة بنت أبي أمية (زوجها أبو سلمة بن عبد الأسد)، وأسماء بنت عميس (زوجها جعفر بن أبي طالب)، وأم يقظة بنت علقمة (زوجها سليط بن عمرو بن عبد شمس)، وأمينة بنت خلف (زوجها خالد بن سعيد بن العاص الأموي)، ورقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم  (زوجها عثمان بن عفان)، وسودة بنت زمعة بن قيس (زوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس)، وسهلة بنت سهيل بن عمرو (زوجها أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس).. وغيرهن رضي الله عنهن أجمعين.

تفوق عدد الذكور على عدد الإناث في كلتا الرحلتين، وذلك لأن شُقة الطريق وصعوبة الاغتراب يتحملها الرجال أكثر من النساء.

لم يشارك الأطفال في الهجرة الأولى، وذلك لأن الطريق في البحر غير مأمون العواقب في هذه الرحلة الجديدة، فلما تبين أمن الطريق ومنطقة الاستقبال (الحبشة) شكلت نسبتهم 5.8% من جملة المهاجرين في الرحلة الثانية.

أما الأطفال الذين هاجروا مع آبائهم وأمهاتهم، هم: خزيمة وعمرو ابنا جهم بن قيس بن عبد شرحبيل، ومحمد والحارث ابنا حاطب بن عمرو بن عبد شمس، وجابر وجنادة ابنا سفيان بن معمر. هذا وقاربت نسبة البالغين (20-49 سنة) ثلثي إجمالي المهاجرين، وذلك لأنهم أكثر الفئات تحملاً لصعوبات الرحلة بكافة أشكالها.

لم تتجاوز نسبة كبار السن (50 سنة فأكثر) 2.9%، وذلك لكثرة المعوقات بين الموطن الأصلي (مكة) وأرض المهجر (الحبشة).

ولد بالحبشة للمهاجرين 13مولودًا، وتوفي هنالك واحد منهم، وعاد الباقون مع أهليهم إلى مكة أو المدينة المنورة. الأطفال المولودون هنالك هم: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة بالاتفاق، وأمه: أسماء بنت عميس)، وزينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد (وأمها: أم سلمة بنت أبي أمية)، وسليط بن سليط بن عمرو بن عبد شمس (وأمه: أم يقظة بنت علقمة)، وسعيد وأم خالد ابنا خالد بن سعيد بن العاص الأموي (وأمهما: أمينة بنت خلف)، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (وأمه: سهلة بنت سهيل بن عمرو)، والحارث ومحمد ابنا حاطب بن عمرو بن عبد شمس (وأمهما: أم جميل فاطمة بنت المجلل بن عبد الله)، وعبد الله بن المطلب بن أزهر بن عبد عوف (وأمه: رملة بنت أبي عوف بن ضبيرة)، وموسى وعائشة وفاطمة وزينب بنو الحارث بن خالد بن صخر (وأمهم: ريطة بنت الحارث بن جبلة).

وتوفي خمسة من المهاجرين في الحبشة، وهم: عبيد الله بن جحش بعد أن تنصر، ومن الأطفال: موسى بن الحارث المولود هنالك، ومن النساء: أم حرملة بنت عبد الأسود، والأسود بن نوفل بن خويلد، وعدي بن نضلة.

عودة المهاجرين

ثبت في صحيح البخاري وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  جلس يومًا مع المشركين، وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)(النجم:١-2)، يقرؤها عليهم حتى ختمها، وسجد فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس، فعاد كل من هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى إلى مكة مرة أخرى. فالهجرة لها غاية محددة، وهو أن يجعل الله للمهاجرين فرجًا مما هم فيه، يعودون بعده لمتابعة المسيرة الدعوية؛ لذلك عاد المهاجرون فورًا لمجرد نماء تلك الشائعة إليهم بأن الإسلام قد ظهر أمره بمكة، فعادوا على الرغم من حسن الوفادة، وكرم الضيافة الذي حظوا به في كنف ملك الحبشة، حرصًا منهم على الرسالة التي خرجوا في سبيل حمايتها.

ولما علم هؤلاء أن دخول قريش في الإسلام “شائعات” هاجروا مرة أخرى، وانضم إليهم آخرون حتى بلغ العدد 104 في الهجرة الثانية، منهم 6 من الأطفال، و19 من النساء، و79 من الرجال سواء من قريش أو من حلفائهم. ويشتمل هذا العدد على كل الذين عادوا من الهجرة الأولى وعددهم 11 رجلاً و4 نساء، أي إن 15 من المهاجرين قد هاجروا إلى الحبشة هجرتين اثنتين، وكلتاهما كانت في السنة الخامسة للبعثة (615 ميلادية).

أ- العائدون إلى مكة قبل الهجرة للمدينة: عاد نفر من المهاجرين إلى مكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة، فظلوا بها حينًا، ثم لحقوا به إلى المدينة أو سبقوه إليها. وقد ذكر ابن إسحاق أسماء من رجع إلى مكة، وعددهم ٤٠ مهاجرًا بنسبة 3٨.5% من مجموع المهاجرين.

% جملة أطفال إناث ذكور مكان وتاريخ العودة
38,5 40 0 6 34 إلى مكة قبل 1 ه
35,6 37 2 9 26 إلى المدينة 2 ه
22,1 23 4 3 16 إلى المدينة 7 ه
0 0 0 0 0 لم يرجع من الحبشة
3,8 4 0 1 3 مات في الحبشة
100 104 6 19 79 المجموع

تواريخ عودة المهاجرين من الحبشة إلى مكة والمدينة

بـ- العائدون إلى المدينة قبل غزوة بدر: يبلغ عدد هؤلاء 37 مهاجرًا عادوا إلى المدينة، ولم يرجعوا إلى موطنهم الأصلى (مكة)، كما فعل مهاجرو الطائفة السابقة، ولكن ذهبوا إلى المدينة المنورة، حيث وجد كل المسلمين الأمان التام هناك، وكانت عودتهم في بداية السنة الثانية للهجرة.

جـ- العائدون إلى المدينة حين فتح خيبر: أما الطائفة الثالثة فهي آخر من عاد من الحبشة، وكان ذلك في المحرم عام 7 للهجرة، ومن ثم لم يمكث من المهاجرين بالحبشة أحد، بل عادوا جميعًا إما إلى مكة أو المدينة.

قال ابن إسحاق: “وكان الذين تأخروا مع جعفر من أهل مكة إلى أن قدموا معه خيبر ١٦ رجلاً”، وسرد أسماءهم وأسماء نسائهم. وهذا العدد بعيد تمامًا عن العدد الذي أورده البلاذري، وهو 40، وحتى نخرج من الخلاف بين الروايتين أقول: إن رواية ابن إسحاق هي الأوثق لعدة دلائل هي:

– لم يورد البلاذري أسماء العائدين.

– لم يذكر مصدره في الرواية.

– بتتبع سيرة المهاجرين -عدا الستة عشر مهاجرًا الواردة أسماؤهم- نجد أنهم اشتركوا في غزوة بدر 2هـ (624م)، أو أُحُد 3هـ (625م)، أو الخندق 5هـ (627م)، أو الحديبية 6هـ (628م)، أي إنهم عادوا قبل تلك الحوادث جميعها.

– لا نشكك في رواية البلاذري، ولكن معلوم أن أبا موسى الأشعري وقومه قدموا إلى المدينة في ذات الوقت الذي قدم فيه جعفر وأصحابه من الحبشة، فظن بعض كتاب السيرة أن أبا موسى وقومه كانوا من المهاجرين للحبشة، والأرجح أنه لم يكن معهم، ومن ثم فإن الوافدين الأربعين لم يكونوا جميعًا من وافدي الحبشة، بل من المهاجرين والأشعريين جميعًا.

———————————————————————–

(*) أستاذ جغرافيا الأديان، وكيل كلية الآداب، جامعة دمنهور / مصر.

المراجع

(1) السيرة النبوية، ابن اسحاق، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001م.

(٢) شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1979م.

(٣) الطبقات الكبرى، ابن سعد، دار صادر، بيروت، د.ت.

(٤) البداية والنهاية، ابن كثير، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، ط1، القاهرة، 1997م.

(٥) مختصر سيرة ابن هشام، ابن هشام، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، القاهرة، ط5، 1422هـ/2002م.

(٦) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، ط4، بيروت، 1405هـ، 4/111.

(٧) صحيح البخاري، البخاري، شرح وتحقيق الشيخ: قاسم الشماعي الرفاعي، دار القلم، بيروت، 1987م.

(٨) فتوح البلدان، البلاذري، تحقيق: رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ.

(٩) سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ط9، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413هـ.